أنا سيدة عمرى خمسة وخمسين عاما نشأت فى أسرة بسيطة ولم أنل أى قسط من التعليم وقد زوجنى أبى منذ ثلاثين عاما من رجل يكبرنى بثلاثة وثلاثين عاما يعمل بائع حلوى على عربة متنقلة.. وعشت حياتى فى شقة صغيرة بها بعض الاثاث المتواضع فى منزل يملكه والده، ورغم كل محاولات إعتراضى على زواجى منه، فإننى بمرور الأيام رضيت بحالى بل ووجدت أن حياتى مع زوجى أهدأ حالا من حياتى فى بيت أسرتى كثيرة العدد، قليلة الدخل والامكانات.
وبدأت حياتى الجديدة بجنيهات معدودة كان يمدنى بها زوجى كل أسبوع، وكنت أدبر بها شئون المنزل قدر استطاعتى والحق أننى وجدت زوجى رجلا طيب القلب يحاول إرضائي، ويسعى إلى تلبية احتياجاتى بالرغم من ضيق ذات اليد، ولم يمر العام الأول على زواجنا حتى انجبت طفلا جميلا فرحت به وفرح به زوجي، وعرفت معنى السعادة التى لم أعرفها من قبل حتى فى يوم زفافى، ثم أفاض الله علينا من نعمه فجاءت ابنتى الوسطى كالبدر المنير تحمل ملامح جميلة ولا تشبه أحدا فى عائلتى أو عائلة زوجى وفرحت بها كثيرا، وازددت حبا للحياة, وخرجت إلى العمل لمساعدة زوجى حتى نستطيع توفير مبلغ نلبى به احتياجات طفلينا من الملابس الجميلة التى كنت أراها فى المحلات ولا استطيع شراءها, ومرت سنوات كبر خلالها ابناى والتحقا بالمدرسة، ورحت اراقبهما وهما يذاكران دروسهما، وأدعو الله ان يكونا متفوقين, وان ينعما بحياة أفضل من حياتى أنا ووالدهما, ووجدت أن ابنتى متفوقة بشهادة كل مدرسيها الذين أخذوا يثنون عليها وعلى أخلاقها وجمالها وذكائها, وكنت أخاف عليها جدا من عيون كل من يرونها حتى وهى تسير فى الطريق العام، ولم تدم سعادتى طويلا إذ أننى حملت للمرة الثالثة ووضعت ابنى الاصغر الذى أراد الله أن يأتى إلى الدنيا معاقا ذهنيا، فاصابنى الهم والغم، وتركت عملى وانطفأت شعلة الحماس التى كانت تبعث الأمل فى نفسي, وتحملت حالات هياجه الشديدة التى صاحبته منذ ولادته، وتزامن مع ذلك هبوط المستوى الدراسى لابنى الأكبر فلم يعد قادرا على التحصيل، ولا أعلم لذلك سببا، ولا أدرى ما إذا كان قد تأثر بشقيقه أم أن نسبة ذكائه قد توقفت عند حد معين، وبقيت إبنتى وحدها بنفس مستواها الذهني، وواصلت تفوقها حتى الثانوية العامة والتحقت بالجامعة فشعرت بالمسئولية نحوها، وحاولت ان انفض غبار الأحزان فخرجت مرة أخرى للعمل لكى أوفر لها ما تحتاجه من ملابس وكتب ودروس حتى لا تظهر أمام زملائها فى الجامعة بمستوى أقل منهم، ولكى لا تتأثر نفسيتها ويقل مستواها، واستطعت أن أعثر على عمل لدى سيدة طيبة القلب كانت تشترى لابنتى كل ما تحتاجه هدية لها، بعيدا عن أجرى من العمل لديها. وتخرجت ابنتى فى الجامعة، والتحقت بعمل مناسب لها ومنذ الشهر الأول تعرف عليها أحد زملائها وخطبها ثم تزوجها سريعا، وأصبح البيت كله كئيبا لاحياة فيه ولا سعادة، فقد كانت هى كل أملنا ومصدر سعادتنا وكانت تشعرنا بأننا حققنا نجاحا فى حياتنا ومرت خمس سنوات كاملة لم تفكر خلالها أن تزورنا أو حتى تتصل بنا، ولا أن تتذكر أن لها أبا وأما ذاقا الأمرين من أجلها، ولقد سمعنا من بعض معارفنا أنها أنجبت طفلا, وأنها تحيا حياة سعيدة فهل إلى هذا الحد يكون عقوق الأبناء؟ وماذا أفعل حتى نراها وتزورنا كما تفعل كل البنات مع أمهاتهن وأبائهن، فنحن مستورون ولا نحتاج إلى مساعدة منها، ولا من غيرها؟
> ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
يا الهي، ألهذا الحد يمكن أن يصل جحود الإبنة بأبويها؟.. إننى أتصور أن من عاشت ظروفا قاسية، ولمست بنفسها الجهد الذى بذله أبواها لكى تكون ذات شأن بين زملائها وأقرانها بالرغم من ضيق ذات اليد، تسرع من تلقاء نفسها إلى تسديد جزء ولو يسير من هذا الدين الكبير, لكن إذا بها تتناسى كل شىء وتنغمس فى حياتها الجديدة غير عابئة بما تقاسيه أسرتها من شظف العيش وقلة الحيلة, وسوف تدرك مدى فداحة خطئها يوم لاينفع الندم عندما تشرب من نفس الكأس على يد إبنها الذى سيهجرها عندما يستقل بحياته, فالقاعدة تقول: افعل ما شئت كما تدين تدان. وإنى أسألها: هل نسيت ما أمرنا به الله عز وجل فى كتابه العزيز حيث يقول: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» [لقمان14].. وهل نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجنة تحت أقدام الأمهات»؟، إننى لا أدرى كيف طاوعك قلبك الحديدى الذى لا يعرف المشاعر الإنسانية والأبوية على نسيان أبيك وأمك وشقيقيك، وهم أعز ما لديك، وبرغم المتاعب والأمراض التى يعانونها؟، فلقد أكرمك الله بالصحة والتعليم والزوج.. أفلا تشكرينه على ما أنت فيه من نعم، وتصلين أحبال الود التى قطعتيها مع أسرتك ليجتمع شملكم من جديد؟.. راجعى نفسك وعودى إلى جادة الصواب عسى الله أن ينجيك من غدر الأيام.
رابط دائم: