رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

عن «صحافى القرن» الذى لا يغيب..
بين «هيكل عبد الناصر» و «هيكل الأمة»

طلال سلمان
.. ولقد تسنى لى أن اعرف « الهيكلين»: الأول محمد حسنين هيكل القريب من جمال عبد الناصر إلى حد اعتباره المعبّر الدقيق عن آرائه، المبشر برؤيته التاريخية، والناقل الأمين لأفكاره ومواقفه،والثانى محمد حسنين هيكل صاحب التجربة الغنية والذاكرة الهائلة التى لا تنسى رجلاً أو واقعة أو حدثاُ والذى تزعجه إن أنت ذكرت أمامه واقعة لا يعرف تفاصيلها أو رجلاً صاحب دور العمل هو تقدير أهميته أو تجاوزه قاصداً بالنسيان.

وفى تقديري، شخصياً، أن محمد حسنين هيكل ما بعد جمال عبد الناصر كان أهم وأخطر من محمد حسنين هيكل اللصيق بعبد الناصر إلى حد نسبة كل ما يقوله أو يكتبه إلى القائد العظيم الذى أثبت مقدرة مميزة على تطوير معارفه، بالتجربة، وتوسيع دائرة اهتمامه بالضرورات السياسية،وإغناء فكره بالحوار كما بالتجربة وتثبيت إيمانه بالبديهيات عن طريق المعايشة والاحتكاك المباشر بالجمهور، وذلك الحوار المفتوح بينهما والذى أضاف إلى ثقافة عبد الناصر فرصة التعديل والتطوير من اجل فهم أفضل لنبض الناس بأفكارهم وأحلامهم وهمومهم المعتقة بعد قرون من الظلم والاستهتار بمطالبهم واحتقار وجودهم مع الادعاء بشرعية تمثيلهم.

وأفترض أن « الأستاذ»، وبعد أن أفاق من صدمة غياب جمال عبد الناصر، قبل الأوان، قد أعاد صياغة ذاته ودوره ولغته مركزاً على محاولة تعويض الغياب بمزيد من القراءة النقدية فى مراجعة للتجربة الغنية واستكمال النظر فى دروسها المستفادة بالصحيح والخطأ فيها. وبهذا فإن خروجه من « الأهرام» كان خدمة عظيمة له ولنا ولو على حساب مكانة « الأهرام» ودورها.

وهكذا انتقل من دور الشارح والمنظّر والمترجم إلى دور المُراجع والناقد من موقع المحب والمؤمن بدور القائد، من دون التغاضى عن الأخطاء ومحاولة تبريرها بالظروف القاهرة والانفعال أو حتى سوء التقدير.

-2- كان « الأستاذ» يدرك أن التمسك بصوابية القرارات جميعاً، وفيها المصيرى والتاريخي، وفيها أيضا المدفوع بالعاطفة أو بالانفعال بمرارة الخيبة، يسيء إلى القائد الذى آمن بكفاءاته وقدراته ،كما يسيء إليه.

وبالمقابل فإن نقد التجربة الغنية من موقع الحريص والشاهد وربما الشريك فى التمهيد للقرار أو المبادر إلى تبريره قد يسيء إلى القائد الذى آمن باستثنأيته وبمكانته التاريخية. ولقد ساعده فى اختيار الموقف الصحيح أن «خصوم التجربة الناصرية» بالانجازات التاريخية التى حققتها ، كما بالخيبات والنكسات التى مُنيت بها، كانوا اقل كفاءة وأبأس فى تطلعاتهم وأردأ فى ارتباطاتهم وأفقر فى تجربتهم كما فى ثقافتهم من أن يقارنوا بالقائد التاريخى حتى حين يخطئ... خصوصاً وانه يملك الشجاعة والمصداقية على المراجعة والاعتراف بالخطأ، فضلاً على أن تجربته ، كشاب اقترب من السياسة حتى المشاركة فى تظاهرات الطلاب، وعاش مرارة الهزيمة فى حرب فلسطين الأولى جعلته يدرك عمق الترابط بين التقدم والتحرر، وبين دور الشعب قبل الجيش ومعه فى التغيير.

كان « الأستاذ» الذى يعرف أكثر مما يجب، لا يطيق أن تباغته بمعلومة لا يعرفها، فيتحول المحقق وينهكك بالأسئلة: وعرفت ازاي؟؟ مين اللى قال كده؟ انت تعرفه كويس؟ يعنى انت تثق بمعلوماته؟

انه «العارفة»، كما كان يقول العرب عن مرجعهم فى المعلومات عن الأحوال والبلدان والناس..

-3- ذلك أنه يسمع كثيراً، ويدقق كثيراً، ويقرأ كثيراً، ويحلل كثيراً. يهتم بتفاصيل التفاصيل. يسألنا فى الطريق إلى برقاش مرات عديدة: صرتم فين؟ أى طريق تسلكون؟! خذوا بالكم من قرية ماريا القبطية التى أهداها بطريرك الأقباط إلى الرسول العربى محمد بن عبدالله؟ هل تعرفون أن الرقابة قد حذفت من الطبعة الجديدة لكتاب بنت الشاطئ « نساء النبي» ما أوردته نقلاً عن السيدة عائشة؟! سنكمل عند وصولكم .. هيا!.

إنه لا يستعرض معارفه. هذا أسلوبه فى التدقيق، وحين نصل نجده يمسك بكتاب بنت الشاطئ ويقرأ من طبعة سابقة ما حذفته الرقابة حديثا.

لا أظن انه قد أتيح لكاتب من أسباب المعرفة، بلاداً وأحوالاً، قادة ورجال فكر، بحاثة ونساء قُدّر له أن يلعبن أدوارا فى التاريخ الحديث، ما أتيح « للأستاذ» أن يعرفه خلال تجربته العريضة التى كادت تشمل العالم جميعاً بشرقه وغربه، بعربه وعجمه وشعوب إفريقيا، القارة المظلومة بتاريخها كما بجغرافيتها وثوراتها التى أغرت بها المستعمرين فقسموها بينهم ارباً ليتحكموا بحاضرها ومستقبلها.

لقد أمضى هيكل سحابة عمره الطويل يتعلم بدءاً من الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى الحرب على فلسطين والهزيمة العربية فيها، فإلى الثورة فى مصر ورجالاتها جميعاً، إلى الصداقة الحميمة التى جمعته مع القائد العربى العظيم جمال عبد الناصر وجعلته كاتم أسراره والمطلع على أحلامه وأفكاره، يناقشه بغير وجل ويحاول التعبير عن آرائه، ولو بطرحها للمناقشة..وقد أفاد من «الأهرام»، برصيدها المميز، فجعلها الدار الجامعة لكبار المثقفين والمفكرين والمبدعين المختلفين فى ما بينهم حول عبد الناصر وثورته، حول العروبة والاشتراكية، حول هوية مصر ودورها.. فكان بينهم الفرعونى والمصرى الذى لا يعرف ما يجرى حول بلاده وفى جوارها فضلاً على البعيد الذى لا بد أن يؤثر عليها.. كما جعلها دار ضيافة ومنتدى ثقافياً يستقبل كبار المفكرين فى العالم، من أمثال جان بول سارتر، إلى كبار القادة العسكريين من أمثال مونتغمري، الذى عرف عنه انه كان يسبح عارياً فى بحر الشاطيء الشمالى بين الإسكندرية والعلمين أثناء الاستعداد للمعركة الفاصلة مع رومل فى الصحراء الغربية.

-4- كذلك فهو التقى وحاور الكبار فى عالمه الواسع: من جواهر لال نهرو إلى ابنته انديرا غاندي، ومن تيتو يوغسلافيا إلى شوان لاى الصين ومن خروشوف الاتحاد السوفياتي، ومن الجنرال ديجول إلى ميتران، ومن الإمام الخمينى إلى هاشمى رافسنجاني، فضلاً على الحكام العرب كافة على امتداد نصف قرون او يزيد، وصولاً إلى رؤساء مصر جميعاً، من السادات الذى أخذه الاختلاف معه إلى « خريف الغضب» وحتى حسنى مبارك الذى لم يكن له موقف ليتخذ منه موقفاً إلى الرئيس السيسى الذى أراد نصحه فلم تمهله الأيام لإتمام هذا الدور.

صحيح أن الظروف التى عاشها هيكل عبر مسيرته التى امتدت لثلاثة أرباع القرن قد أتاحت له أن يعيش فى قلب الأحداث وليس على هامشها، ولكنه كان ذاكرة لا يصيبها الضعف وقلماً لا يعرف التعب وعقلاً لا يعرف الهدوء والتسليم بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وان لعمرك حقاً عليك، وان عليك أن تتقاعد وقد تجاوزت التسعين..

لقد عاش هذا الأستاذ الكبير حياته ليتعلم ويتعرف ويناقش ويحلل، يسافر ويقابل رجالات العصر ساسة ومفكرين ومبدعين فيحاورهم ليعرف أكثر، وهكذا مد معارفه من السياسة إلى الثقافة ومن الاقتصاد إلى الفن رسما ونحتاً وغناء وموسيقى ومن الرياضة إلى الآثار وآخر صرعات الموضة.

................

لقد انتهى عصر «الكبار» فى السياسة كما فى الصحافة. انتهى عصر الجمهور الذى يشكل وعيه بمبادئه معززة بأسباب المعرفة والثقافة.. ولقد كانت الصحافة بين مصادر الوعى خصوصاً وأن ما تطرحه من قضايا تسهم فى تنوير الرأى العام وتعزيز الحوار وتكثيف المعرفة.

-5- حوّل هيكل الصحافة من وسيلة إعلام وإخبار وتعليقات سريعة ومحاورات مع المسؤولين، غالباً بشروطهم منعاً للإحراج، إلى منتدى ثقافى رفيع المستوى يجمع بين كبار الكتّاب والمثقفين المختلفين فى المنطلقات ومنابع معرفتهم كما فى أنماط إبداعهم وإشكالات نتاجهم مسرحاً ورواية وشعراً، قصة ورسماً ونحتاً وتصويراً مع مساحة مميزة لمبدعى الكاريكاتور.. وهو بهذا قدم الصورة الكاملة للصحيفة بمهامها التنويرية، وهى سياسية بعمقها.. أفليست المسرحية والقصيدة والقصة ونقل معارف الشعوب الأخرى وثقافتها بين وسائط «تثقيف» القارئ وتمكينه من الدخول إلى عصره من باب المعرفة من دون أن يخسر اعتزازه بهويته وبإسهام مبدعيه ـ على مر التاريخ ـ فى إغناء وجدانه وتأكيد جدارته بأن يكون شريكاً فى إنتاج الحضارة الإنسانية وليس مجرد شاهد أو ناقل أو مترجم أو من الدعاة للسلطان بطول العمر؟

أما خارج الصحافة وبعدها فقد تحوّل «الأستاذ» الذى جعل من «الأهرام» منارة معرفة، إلى مبدع مجدد فى الثقافة السياسية، وهو القارئ النهم والمحاور المميز، وإلى مؤرخ لمرحلة لعلها الأخطر فى التاريخ العربى الحديث، بشخصياتها المؤثرة، المميز منها والمثير للدهشة أو الاستغراب.. وبالتأكيد فإن المكتبة التى أنتجها محمد حسنين هيكل عن السقوط الذريع من التاريخ ستشكل ضوءاً كاشفاً فى الطريق إلى المستقبل.

كان لا يتعب من القراءة من أجل أن يعرف أكثر، وكان فى بيته فى عمارة جوهرة النيل فى القاهرة، أو فى مزرعته فى قرية برقاش، قرب القناطر الخيرية، كما فى بيته الصيفى سواء على شاطئ المعمورة أو فى الغردقة، «مكتبات» عدة فيها النفيس من كتب التاريخ ومذكرات بعض من أسهموا فى صنع البعض من محطاته أو تحولاته. كان حريصاً على تخطى ظواهر التطورات والأحداث ليغوص إلى العمق، إلى الأسباب والدوافع ليفهم النتائج وما ستؤدى إليه... من هنا كان حرصه على أن يتعرف إلى صنّاع الأحداث ليحاورهم مزوداً بقراءاته ولّادة الأسئلة والاستفسارات بحثاً عن يقين.

ولقد أفاد هيكل من قربه من القائد الراحل جمال عبد الناصر ومن إيمانه برسالة الصحافة، لتحويل «الأهرام» إلى أهم وأخطر مؤسسة صحفية ـ ثقافية، فيها مركز مهم للدراسات، ولديها القدرة والحق باستضافة كبار المفكرين وجنرالات الحرب العالمية الثانية ، بغض النظر عن مدى الاتفاق والخلاف معهم. كما صار عدد يوم

الجمعة من «الأهرام» مكتبة كاملة تغنى قارئها فى ما يتجاوز السياسة إلى الثقافة، مسرحية وقصة ورواية، رسماً وشعراً، كأن يلتقى على صفحاتها كما فى «طابق الخالدين» توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور ولويس عوض والحسين فوزى إلخ وجمهرة من الكتاب الشباب.. ومن نافلة القول إنها خرّجت نخبة من الصحافيين المميزين.

لقد كان «الأستاذ» الرجل الذى يعرف كثيراً، والذى لم يهجر شوقه إلى المعرفة وفضوله المنهك لسماع التفاصيل. ولقد أتاح له «التقاعد الإجباري» من الصحافة أن يعود إلى هوايته الدائمة: السفر والقراءة والمزيد من المعرفة بأحوال الدنيا. فعرف بلاداً كثيرة فى الغرب والشرق، وتعرّف إلى شخصيات لعبت أدواراً تاريخية، ودُعى إلى ترؤس مجلس التحرير فى صحف عالمية تقديراً لمكانته.. ثم إنه عرف لبنان وفهمه جيداً من كمال جنبلاط إلى العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله إلى الرئيس الراحل رفيق الحريرى إلى رجل الأعمال الذى اختفى فى ظروف غامضة إميل البستانى وكثر لا مجال لتعدادهم هنا.

على أن علاقته الخاصة بالأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله كانت حميمة، وطالما جاء إلى بيروت خصيصاً للقائه، قبل الانتصار فى أيار 2000 وبعده، وقبل الانتصار فى حرب تموز 2006 وبعدها...

وبين مصادر اعتزازى بصداقة « الأستاذ» انه كان يخص « السفير» بزيارة تمتد ساعات كلما جاء إلى بيروت.. ولطالما جلس إلى أسرة التحرير يستمع فيها إلى أسئلة الزملاء كبيرهم والصغير، وقد يصحح السؤال لكى يكتمل الجواب... وكانت أسرة «السفير» تتباهى بهذا الشرف: أنها التقت هيكل واستمعت إلى تحليلاته العميقة التى تختزن الأسرار وتتضمن فيضاً من الأخبار، فضلاً على رسمه الدقيق لملامح الشخصيات بحيث يمكنك أن تتعرف إليها ولو لم يسمها.

وكان بين ما يستوقفنى ، خلال زيارته الحولية، انه فى الأخيرة منه قد خصه الأمين العام ل « حزب الله» بجلستين متتاليتين، ثم دار بعدها على مجموع من القادة السياسيين يشمل آهل اليمين ويمين اليمين ومن تبقى من أهل اليسار، فضلاً على مراعاة البروتوكول، وكـأنه ضيف رسمى من الدرجة الأولي... وحين سألته بفضول: وما لك بأمثال الرؤساء السابقين وبعض الشخصيات التى باتت خارج التاريخ؟! ابتسم وهو يجيب: للمقارنة بين ما كانوا يقررونه أو يتخذونه من مواقف فى ماضيهم، وما يتحدثون به اليوم. إنها متعة أن ترى البعض اثنين وأحيانا ثلاثة بينما التاريخ بالكاد يذكره او يتذكره.

-7- رحم الله «الأستاذ « الذى استحق أن يوصف ب « صحافى القرن» ومن حظنا – نحن تلامذته ومن عاش فى عصره- أننا قد تعلمنا منه ما وسعنا الجهد والاجتهاد...

ولعل «الأستاذ» قد اختار ميعاد مغادرته بالدقة ذاتها التى كان يحدد فيها مواعيد لقاءاته وقراءاته وراحته فى رحاب التفكير.

.. ولم تكن مصادفة انه اختار الغياب مع انتهاء عصر الصحافة، اقله كما عرفناها فى زمنه، وكما لن يعرفها الآتون بعده وبعدنا.. فلقد انتهى عصر الكلمة المثقلة بالأفكار، شارحة الأخبار والأحداث بدلالاتها الفعلية التى يقبلها العقل والمنطق، وتفتح باب الاستنتاج المستند إلى التحليل البعيد عن الهوى حتى ناقض الرغبات واستعجال التغيير.

رحم الله هيكل... والصحافة العربية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق