على قدر براعتة كما يبدو جليا من سجله الحافل بالحبر الصحفي ، ليس على مستوى حجم الورق فحسب، بل على مستوى دقة وبلاغة اللغة والجملة الرشيقة المنحوتة بصنعة وحرفية يندر أن تجدها لدى غيره من معاصريه، ما جعله يتمتع بعلاقات واتصالاته بكبار القادة والزعماء والمسئولين، وربما كان ذلك مبررا موضوعيا لأن يكون صاحب أعلى «تارجيت» في السبق الصحفين، علاوة على رصيد هائل من الخبايا والأسرار والأخبار، إلا أن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ظل حتى آخر نفس متمتعا بحسه الصحفي ذاته الذي صنع أسطورته، ليبقي باحثا دؤوبا يعمل بعقل شاب في العشرين من عمره في شغف الحصول على المعلومات من مصادر متعددة، وتحليلها وربطها بالماضي والحاضر ليصوغها في سياق شديد الدقة والاحترافية.
بالتأكيد فإن غالبيتنا ممن تربوا في الأهرام يعرفون جيدا تلك الصفات التي صنعت للجريدة العريقة مدرسة رائدة في الدقة والمصداقية على يده، وكثيرا ما ترردت مآثر «هيكل» في وضع معايير الكتابة والإدارة على ألسنة أجيال متعاقبة، ممن عاصروه أو تتلمذوا على يديه، كي ننهل منها نحن في زحمة انشغالنا، وعلى الرغم من أن مجرد الاقتراب من أسواره العالية ظل حلما صعب المنال لمن يخرجون عن دائرته الضيقة من أبناء المهنة ، إلا أنني أدركت قبل سنة واحدة من رحيله أن «الأستاذ» بكل تلك الهالة والوقار قريب منا إلى حد كبير، إنطلاقا من حرصه الشديد على المتابعة لدقائق المهنة، خاصة ما ينشر في الأهرام.
دق جرس الموبايل في التاسعة من صباح يوم 11 نوفمبر 2014 ليفاجئني الأستاذ بصوته الذي أحفظه عن ظهر قلب قائلا: أنا هيكل «معقول تكون لسه نايم لحد دلوقتي .. يا أستاذ حبوشة» لم أدرك منذ الوهلة الأولى فحوى سؤاله المباغت، فقد قلت بيني وبين نفسي ربما اتصل من قبل، لكني أدركت على التو بأن «رنة الموبايل» قد طالت بعض الشيئ، ومن حسن حظي أني فتحت الخط قبل أن يغلق بقليل, وعلى الفور قال لي «برافو.. أنت عامل ملف ممتاز عن عملية نيكل جراس» ثم دخل في حوار أذهلني جدا من كثرة أسئلته الفنية الدقيقة حول طريقة تعاملي مع المصادر والوثائق للحصول على المعلومات، مشيدا بحرفية المعالجة ورشاقة الأسلوب الذي استرعى انتباهه.
شعرت بنشوة كبيرة - آذاك - ومازال طيفا منها يلازم الذاكرة بفخر، جراء مذاق تلك اللحظات التي لاتنسى، رغم مرور مايزيد على السنتين، لكن الذي يظل محفورا بحروف من نور في المخيلة طريقته في السرد الحي المحبب لوقائع ماكتبت، مؤكدا صدق روايتي بأن هنري كينسجرهو نفسه صاحب فكرة الجسر الأمريكى الاستراتيجي لإسرائيل، والذى بموجبه كانت تهبط طائرة أمريكية كل 15 دقيقة على أرض مطار «اللد» نقلت خلالها أكثر من 22 ألف طن من الإمدادات العسكرية النوعية والدقيقة على مستوى التكنولوجيا التي لم تستخدم من قبل في تاريخ المعارك الحديثة، مضيفا: فعلا كان هذا أمر غير مسبوق فى تاريخ المساعدات الأمريكية لأى دولة فى العالم، لكن غير المسبوق صحفيا في ملفك هو كشفك عن الجسر البحرى الذي حمل أكثر من 65 ألف طن من المعدات الثقيلة، فضلا عن جهدك في نشر مذكرات قائدي طائرة الاستطلاع «Sr 71 Black Bird»، والتي تضم صفحاتها ذكريات «جيم شلتون وجاري كاليمن»، عن المهة التي قاما بها يوم 12 أكتوبر 1973، فضلا عن قرائتك المتأنية لدراسة تقدم بها لكلية الحرب الأمريكية «روجر دبليو هانس» قائد أول طائرة شحن أمريكية عملاقة من طراز «سي 5 « تصل لإسرائيل.
استمرت المكالمة لأكثر من 20 دقيقة قدم لي «الأستاذ» من خلالها حزمة من الدروس الجادة في حرفية البحث والتقصي، وكيفية الانشغال بالمعلومة الصغيرة التي بمجرد أن تتغذى بالمستندات والوثائق تكبر لترقى لمستوى القضية، ولا أنسى ملاحظاته المبهرة حول الدقة في استخدال الخيال في القصة الإخبارية التي أصبحت بديلا للخبر التقليدي، شريطة أن تحملها لغة تتسم بالرشاقة والإيحاء للتعبير بصدق وواقعية عن دموية الأحداث لأننا - على حد تعبيره - نعيش وقائع أكبر عصر درامي في التاريخ.
أغلق الأستاذ الخط ليتفتح وعي أكثر على تأمل عميق لمسيرة «الجورنالجي» الذي لم تثنه رياح التكنولوجيا ليزيح غبار الورق جانبا، ويبحر كملاح قديم في أعماق عالم الفضاء التخيلي مطورا أدواته التقليدية بذات الزخم والدأب في اصطياد المعلومة وإعادة تدويرها في قالب لا يخلو من وهج الكتابة التي تربع بها على عرش الكتابة حتى التسعين بقلب شاب في العشرين، بينما كثيرون منا لايرواحون أماكنهم من فرط عجزهم عن استيعاب مفردات عصر النشر الالكتروني، متشدقين بأن النشر الورقي سيظل مدادا حيا حتى نهاية المدي.
رحم الله الأستاذ هيكل بقدر ما أخلص لمهنته حتى الرمق الأخير، فأخلصت له ومنحته المجدن ليبقي علما أسطوريا في بلاط صاحبة الجلالة في مصر والشرق كله.
رابط دائم: