هناك من يعتقد أن حياة الكاتب حياة رغدة وسهلة قائمة على اصطياد الكلمات ورصها غلى جوار بعضها فى أشكال زخرفية محببة إلى النفس تمسك بتلالبيب قلب القارئ وكلما أمسكت بقلب قارىء جديد ارتفع سعر الكاتب وهو يجلس فى الشرفة يتأمل الكوكب ويرشف النسكافيه على مهل والابتسامة على وجهة من هنا لهنا، كنت أتمنى ان تكون هذة الصورة حقيقة لكن للأسف تبدو حياة من يعمل بالكتابة أكثر تعقيدا.
كانت زوجتى تسألنى ( نفسك فى إيه؟)، كانت تقصد غالبا طعام الغذاء، لأننى عندما قلت ( نفسى أعمل كتاب عن ..) قاطعتنى قائلة : كتاب إيه بس؟ إطلع بقى من فايل الوورد اللى أنت عايش فيه ده. و ضحكنا.
أعيش داخل فايل وورد بالفعل منذ سنوات، لم تعد الكتابة مهنة، أصبحت طريقة حياة، فايل الوورد مفتوح طوال اليوم ألقى فيه أفكارا ثم أضعها على جنب، أكتب سطورا طويلة ثم اكتشف أن هذا المعنى سبق أن قاله أحدهم فأسحب الفايل على وجهة حتى سلة الريسايكل بن، حتى خطط الحياة أفتح لها فايل وررد لأسجل ما أنوى القيام به، أمتلك جهازين (لاب توب)، لم يحدث أن رأيت أحدهما مغلقا موضوعا بكامل احترامه فوق مكتب، لكن دائما ما أتعثر فيهما، واحد مفتوح بالقرب من السرير، و الآخر على السفرة قريبا من البلكونة، تتبدل أماكنهما مرة على الأرض مرة فى المطبخ، حسب المزاج و حسب المكان الذى يشبه ما يفكر الواحد أن يكتبه، تيبسا على هذا الوضع و الآن لدى لاب توب من الخطر أن أغلقه لأن الشاشة زرنجت و أنفصل أحد جانبيها بعد أن سحلته طفلتى الصغيرة ككلب بلدى بعرض الحجرة، ربما كان لديها فضول أن تجرب اللعبة التى ترى والدها يلعبها طوال اليوم.
أعيش داخل فايل وررد، لخصت زوجتى حياتى ككاتب، لا توجد إجازة فى هذا العمل، هى المهنة الوحيدة التى لا راحة فيها، يحصل الضابط والمهندس والوزير والطالب و البواب على إجازة، لكن الكاتب لا يعرف من الذى يمكن التقدم له بطلب إجازة؟، فالعقل لا يتوقف عن التأمل و البحث عن الأفكار فى كل شىء يقابله، أخرج المحمول على الشاطئ فى المصيف تعتقد زوجتى أنى بصددر التقاط سيلفى جماعى لكننى أخرجه لأكتب أن ( الموج أكثر جبنا من أن يفكر فى الرجوع، وأن الرمال ما هى إلا أمواج مهزومة)، أستخرج فيديو حفل زفافى ترى زوجتى فى الحركة لفتة رومانسية والحقيقة أننى كنت أرى آخر تسجيل ظهر فيها أحد الراحلين كنت أنوى أن أكتب قصة عنه، فى فاتورة الكهرباء الغالية فرصة ليست لتنظيم مصروف البيت ولكن لكتابة مقال يتأمل ظروف الناس، فى السينما لا أرى مشهدا على الشاشة لكن أراه مكتوبا فى السيناريو يمين وشمال، ولا أضحك على الإفيه لكن أحاول أن أخمن طريقة تركيبه، أتفادى المكالمات التليفونية وأفضل الرسائل، قال لى صديقى أنه عندما تصله رسالة منى يعد كوبا من الشاى ويشعل سيجارة وينتحى جانبا لأنه يعرف أن الرسالة ستحتاج لأكثر من ربع ساعة لقرائتها، توقفت عن القيادة بعد أن صرت أتلقى التشويح والغضب من الشباك اليمين والشمال ومن المارين أمامى، كنت ضيفا فى برنامج إذاعى وقال لى المذيع فى الفاصل اختار أكثر أغنية تحبها لأختم بها اللقاء فدارت فصوص المخ تكتب عن الأغانى التى أحبها ولماذا أحبها حتى قال لى المذيع ( بس حاول تقول لى على الغنوة دى النهاردة لو سمحت).. فاخترت لمين بتغنى يا قمر لعفاف راضى.
أعيش داخل فايل ورد، وهو مكان لا يتسع لكثيرين، مجرد شخص واحد وأفكار كثيرة، قال أحد الكتاب الكبار قديما أن أكثر ما يرعبه هو صفحة بيضاء خالية، أتذكره دائما هو و مقولته، صارت جملته تحرك حياتى، أفتش طول الوقت عما أستطيع أن أواجه به صفحة وورد بيضاء خالية، الخوف منها هو الذى منح حياتى هذا الشكل، ذكرياتى لا أسترجعها فى جلستى مع من أحبهم لكن أدخرها للكتابة، جلد الذات و تأنيب الضمير لا يتعلق بحياتى كإنسان ربما تعرض غيره للأذى بسببه لكن جلد الذات دائما له علاقة بأخطاء مهنية مرت فى خلسة من الواحد إلى الورقة البيضاء، أحلامى ليست كوابيس ولا أحلام سعيدة، هى مادة خام يمكن تحويلها إلى كتابة، حدث ذلك بالفعل فى كتاب أسميته (طريق التوابل)، هناك نكتة قديمة عن مذيعة كانت تسأل الناس ( المشط بيفكرك بإيه)، جاوبها كثيرا إلى أن قال لها رجل ( المشط يذكرنى بالجنس)، سألته و ما العلاقة؟ فقال ( أنا أى حاجة بتفكرنى بالجنس)، أنا أى حاجة بتفكرنى بالكتابة حتى لو كان إفيه عابر من زوجتى.
.........................................
لمين يا قمر: كلمات عبد الرحيم منصور – ألحان بليغ حمدى
رابط دائم: