رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

لمواصلة المسير إلى الأمام ومعالجة الانقسام حول «ما جرى» فى يناير «الطريق الرابع» هو الحل

محمد شعير
ست سنوات مرت الآن على «ما جرى» فى يناير.. مما يستلزم التوقف للتأمل والتحليل والمراجعة، عبر النظر إلى الماضى وتداعياته، لأجل استكشاف المستقبل وتحولاته.. ولعل استخدام تعبير «ما جرى» هو الأنسب الآن هنا، إذا كنا ننشد - فى هذه البداية- جمع الأطراف المتصارعة، فى مجتمع يسوده الانقسام بين من يرى متيقنا أن «يناير» ثورة خالصة ومن يجزم قاطعا بأنها مؤامرة كاملة.

وتحت هذه اللافتة من الانحياز الكامل هنا أو هناك بشأن الماضى، تجرى كل صراعات الحاضر، بما يهدد المستقبل. ففى أى قضية خلافية تثور فى المجتمع يمكن للمراقب بسهولة أن يفرز بين ردود الأفعال المتضاربة حولها ثلاثة طرق رئيسية، منحازة، متعصبة، مغالية، تحتفى بالرأى دون المعلومة، تصدق مصادرها وحدها وترفض الباقين، تمجد نفسها ورؤيتها وتلعن الآخرين.

أساس كل ذلك وخلفيته هو «ما جرى» فى يناير، وجدل الدولة أم الثورة، والاستقرار أم الحرية، والنفاق أم الخيانة.. ذلك الجدل العقيم الذى يجرى على أرضية من الانقسام.. وهو ما يدفعنا إلى أن نواصل السعى كى نخط معالم طريق آخر مختلف.. ينشد الموضوعية والاتزان قدر الإمكان.. هو «الطريق الرابع».

.........................

انحاز الدستور المصرى الصادر فى يناير 2014، الذى وافق عليه الشعب، ضمن ديباجته التى كتبها الشاعر العظيم سيد حجاب، إلى رؤية متوازنة تشير إلى أن 25 يناير و 30 يونيو هما ثورة واحدة على موجتين، عندما قال نصا:

«هذه مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا. وفى العصر الحديث، استنارت العقول، وبلغت الإنسانية رشدها، وتقدمت أمم وشعوب على طريق العلم، رافعة رايات الحرية والمساواة، وأسس محمد على الدولة المصرية الحديثة، وعمادها جيش وطنى، ودعا ابن الأزهر رفاعة أن يكون الوطن «محلا للسعادة المشتركة بين بنيه»، وجاهدنا - نحن المصريين- للّحاق بركب التقدم، وقدمنا الشهداء والتضحيات، فى العديد من الهبّات والانتفاضات والثورات، حتى انتصر جيشنا الوطنى للإرادة الشعبية الجارفة فى ثورة «25 يناير- 30 يونية» التى دعت إلى العيش بحرية وكرامة إنسانية تحت ظلال العدالة الاجتماعية، واستعادت للوطن إرادته المستقلة».

ولكن.. على الرغم من هذه الرؤية الدستورية، التى كررت أكثر من مرة كلمة «ثورة» عند الحديث عن يناير ويونيو معا، إلا أن الرؤية المجتمعية نحت منحى آخر، لا يجعل من الوطن محلا للسعادة المشتركة بين بنيه، وفق ما دعا إليه رفاعة الطهطاوى منذ القدم، بل الصراع والانقسام والتنابذ المشترك. إذ أصبح لدينا طريق لأهل «يونيو» وحدها، وطريق آخر لأهل «يناير» كلها، فضلا عن طريق «الإخوان».

أهل «يونيو»، يرون أن «ما جرى» فى يناير هو مؤامرة كاملة، حركتها قوى فى الخارج باستخدام عملاء فى الداخل، لتحقيق هدف واحد هو إسقاط مصر.. تلك رؤيتهم حول الماضى، لكنها تنعكس فى أسلوب تعاملهم مع الحاضر، لذا فهم فى أى قضية سياسية أو مجتمعية يثور الخلاف الآن حولها يبادرون برفع شعار «لا مساس» بالسلطة، معتبرين أن أى نقد أو معارضة لسياسة أو إجراء حكومى هو من قبيل الخيانة والهجوم على الوطن، وليس إلا فصلا جديدا ومتجددا من فصول المؤامرة على الدولة.. فى نظرهم.

أهل «يناير»، تمضى بهم السنون وهم مصرّون على أن «ما جرى» هو ثورة نقية خالصة، لا تشوبها شائبة، لكنها تم اختطافها أو حصارها لخنقها.. تلك رؤيتهم حول الماضى، لكنها تنعكس فى أسلوب تعاملهم مع الحاضر، لذا فهم فى أى قضية سياسية أو مجتمعية يثور الخلاف الآن حولها يبادرون برفع شعار «لا أمل» فى السلطة، معتبرين أن أى تأييد لسياسة أو إجراء حكومى هو من قبيل النفاق ومحاولة التقرب من النظام، وليس إلا فصلا جديدا ومتجددا من فصول المؤامرة على الثورة.. فى نظرهم.

أما طريق «الإخوان»، فأهله الآن كارهون للكل، يرون أن أهل «يونيو» أطاحوا بهم، وأن أهل «يناير» لم ينصفوهم، بل إنهم كارهون حتى لآخرين مثلهم؛ «إسلامويين»، لأنهم لم يدعموهم.. لذا فهم معادون للكل، يبادرون - عبر بعض التنظيمات- إلى رفع السلاح فى وجه الكل، أو عدم إدانة استخدامه على الأقل.

والآن يبرز السؤال.. كيف يكون المسار؟!.. على مستوى التعامل المجتمعى والرسمى معا.. ماذا ينبغى أن نفعل؟.. وكيف نمضى لأجل المستقبل؟!.

الحق أن أى محاولة للإجابة على التساؤلات المعلقة بشأن الطريق إلى المستقبل، مجتمعيا أو رسميا، ينبغى أن تتخفف أولا قبل بدء الرحلة من أحمال الانحياز المسبق والتعصب للرأى وإقصاء الآخر.. لأننا فى الحقيقة لا يمكن أن نظل هكذا.. إذ أن تبادل الاتهامات بالنفاق والخيانة بلا معلومات أو محاكمات لا يمكن أن يكون سبيلا لبناء المجتمعات.. فالأمر المؤكد هو أننا فى فترة انتقالية طويلة تعد منعطفا تاريخيا طبيعيا ومعتادا تمر به الأوطان عقب الثورات أو الأحداث الكبرى التى تقع فيها.. لكنه منعطف سيتم تجاوزه مهما طال.

وفى كل الأحوال.. فإن الطريق إلى المستقبل لا يمكن أن يمر عبر الطرق الثلاثة القائمة حاليا؛ طريق «يونيو» وحدها، أو طريق «يناير» كلها، ولا طريق «الإخوان» بالطبع.

الجميع الآن مطالبون بالاستماع بتجرد إلى كلمة، قد تكون كلمة سواء، للوصول إلى حد أدنى من التوافق حول «25 يناير»، فإذا كان الكل صادقا فى الحديث عن الوطن، حالما بالمستقبل (أهل يونيو) أو مأزوما لأجله (أهل يناير)، فإن تحقيق الحلم أو حل الأزمة يستلزم البحث عن مساحة مشتركة - ولو صغيرة- من الماضى للوقوف عليها، والانطلاق منها نحو الغد.

«الإخوان» - وياللعجب- هم تلك الكلمة السواء.. كيف؟!.

الحق أن هذا التنظيم كان قد نجح عبر سنوات وسنوات، قبل يناير 2011، فى رسم صورة لنفسه أقنع بها كثيرين، تقوم ملامحها على أنه يمثل «التيار الإسلامى المعتدل»، الذى يرفض العنف ويمارس السياسة عبر دخول الانتخابات ومشاركة الآخرين فى التحالفات، راضيا بما تتيحه له السلطات من فتات، ورافعا شعار المظلومية فى كل وقت وحين، بسبب غياب الديمقراطية وعدم جدية العملية السياسية.

كل ما سبق، دعا كثيرين من سياسيين معارضين وباحثين أكاديميين ومواطنين عاديين، ليس فى مصر وحدها بل المنطقة العربية، إلى قناعة مفادها أن «من حق الإخوان كتيار سياسى إسلامى معتدل الحصول على فرصة فى الحكم»، حتى جاءت «يناير»، وتبعها كل ما تبعها.. ظهر «الإخوان» فى الصورة كقوة منظمة، مارسوا السياسة وتفاعلوا، أثّروا وتأثروا، حتى وصلوا بالفعل إلى ذروة الحكم.. فظهرت الحقيقة.

وخلافا لدول عربية شقيقة، تمزقت أو مازالت تصارع التمزق بسبب «الإسلامويين»، نجحت العبقرية المصرية فى عام واحد فى اكتشاف الزيف العميق لدى جماعة أرادت استخدام الديمقراطية لمرة واحدة حتى تصل إلى الحكم. عام واحد فقط هو لمحة عابرة فى عمر الأوطان، نجحت مصر بعده فى إسقاط المشروع السياسى الذى يسمى نفسه «إسلاميا»، وأن تفضح أمام العالم زيفه، وأن تقدم تجربة مكتملة لحكمه، ثم رفضه، فى ومضة تاريخية.. مدتها عام.

بغير «يناير» ما كان كل هذا قد تحقق، وكان «الإخوان» سيظلون يمارسون ذات الألاعيب على مستوى السياسة والفكر، فيستقطبون الطيبين ويخدعون البسطاء، وما كانت الحاجة إلى خطاب دينى جديد - والتى ظللنا نصرخ بها سنين عددا- قد تحولت إلى دعوة سياسية رئاسية، حتى وإن تعثرت اليوم فإنها تؤتى أكلها غدا، لأجل حماية أبنائنا عماد المستقبل.

بغير «يناير» ما كان كل هذا قد تحقق. بل إن مصادر قريبة من جهات رسمية تحدثت لنا قائلة إن وصول جماعة الإخوان إلى سدة الحكم خلال فترة العام، من 2012 إلى 2013، قد أدى إلى ظهور كل كوادرها فوق الأرض لممارسة العمل السياسى وقتها، وهو ما ساهم فى توفير قاعدة بيانات كاملة للأجهزة الرسمية عن أفراد وتشكيلات التنظيم الخفية، والتى ما كان يمكن توفراها إذا ما ظل هؤلاء يعملون تحت الأرض. وبغير «يناير» أيضا، ما عادت دماء السياسة تتدفق فى أوصال المجتمع، تأييدا ومعارضة، تقدما وتعثرا، فالحركة أفضل من السكون، وبناء الوعى بالتدريج خير من التجمد واليأس واللامبالاة، تلك التى عشنا معها جميعا عمرا، ثم عبرناها، كما عبرنا ما بعدها مع من أرادوا اختطاف الوطن واختطافنا، حتى بلغنا اليوم الذى عاد لدينا فيه الأمل والثقة. وأصبح لدينا رئيس يحظى بتأييد غالبية شعبه، يثق فيهم وتثق فيه، وهو ما أتاح اتخاذ أصعب القرارات المؤجلة عبر عقود، فى فترة انتقالية صعبة على الجميع، لكن الغالبية تتسلح بالصبر ويحدوها الأمل.. بفعل تلك الثقة، التى ما كانت قبل يناير.

ربما كان ما سبق هو حديث يستهدف فى الأساس أهل «يونيو»، الذين يرون أن «يناير» مؤامرة كاملة، رافضين البناء على الجزء الصادق منها، المتمثل فى أولئك الشرفاء بالفعل الذين خرجوا مطالبين بهدم النظام لا الدولة، ثم عاودوا الخروج مرة أخرى فى «يونيو» رافضين هدم الدولة.. لكن هل كان كل أهل «يناير» من الشرفاء الأنقياء؟!.. الإجابة المنصفة غير المنحازة، والتى لا تقبل أى شك، هى: «بالطبع لا».. لم يكن الكل شريفا.. فقد كان هناك الجزء الخائن.. وكانت هناك المؤامرة.

ولعل ما يمكن قوله اليوم ضمن أى حديث يستهدف أهل «يناير»؛ من الأنقياء فقط، هو أن الخطأ التاريخى الذى يقعون فيه اليوم هو أنهم يرفضون الاعتراف بذلك الجزء الخائن، الذى تمثل فى مؤامرات القوى الخارجية لإسقاط الأنظمة القائمة الموالية لهم فى المنطقة، والإتيان بأخرى «إسلاموية» موالية أيضا، مستغلين الأوضاع السيئة فى المجتمعات، التى كانت تستلزم ربما قيام عشرات الثورات.. ولكن هل كانت الحركات المتتالية التى جرت فى المنطقة «ربيعا عربيا» حقا؟!.

ما سبق، أصبح ثابتا عبر السنوات بالوثائق والمعلومات، وهو وإن كان لا يطعن فى نوايا أهل «يناير»؛ من الأنقياء فقط، إلا أنهم يرفضون الاعتراف به، كما يرفضون التعامل مع السلطة، بل ويبادرون بتخوين زملائهم ممن يتعاملون معها. وهم يحلمون بشعارات الثورة الأولى؛ «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية»، وهذا حقهم. لكن لسان حالهم هو أن ما لم يدرك كله لابد أن يترك كله. مع أن طبائع الأمور ليست كذلك، فحركة التاريخ وتحولاته لا تقاس بالأيام أو السنوات القصار. وفى كل الأحوال، ما هكذا تتحقق الأحلام، لمن يريد أن يعمل لتحقيقها بالفعل، لا أن يتحدث بشأنها وحسب.

الالتباس الكبير الذى يقع فيه اليوم أهل «يناير»، هو أنهم بعد أن جرت مياه السياسة بما لا تشتهى سفنهم لم يقوموا بممارسة دور المعارضة لنظام، عبر قنوات السياسة، بل ظلوا يرتدون ثياب «الثوار»، ملوّحين بآليات الثورة. مع أن روح «يناير» الآن تقضى بمواصلة العمل لأجل البناء على ما تحقق؛ العمل السياسى لا الثورى. إذ لا يعقل أن يكون سوء الأوضاع الاقتصادية هو أكثر ما يثير حنق أهل «يناير» ثم يلوّح البعض منهم فى الوقت نفسه بإمكانية اندلاع الثورة من جديد، فهل الثورات تصلح الاقتصاد؟!.

تلك إذن هى معالم «الطريق الرابع».. الذى يسعى إلى المستقبل، فيطلب الاستقرار والحرية معا، ويعمل على بناء الدولة مع الأخذ بأهداف الثورة، عبر التشارك بين مختلف القوى مهما كان اختلافها، بالبحث عن أرضيات مشتركة للبناء عليها، من خلال العمل السياسى وحده، والإصلاح لا الثورة، ومواجهة الإرهاب والقوى الداعمة له وعدم المهادنة معها. لكنه طريق يؤمن بالتدرج فى البناء، وبأن السلطات هى انعكاس للمجتمعات، وأن البرلمانات هى مرايا تعكس صور الشعوب ووعيها، وأن تحولات المجتمعات حتى تأتى متجذرة لابد أن تكون متدرجة، وأن تغيير رأس النظام - وقد فعلنا ذلك مرتين فى يناير ويونيو- أيسر برغم صعوبته من تغيير ثقافة المجتمع.. أو حتى تغيير قواعد النظام ذاته.

والآن.. وبينما تمضى ست سنوات على ثورة 25 يناير، وثلاث سنوات على دستور مصر الجديدة، فإن لنا أن نتذكر قانون «العدالة الانتقالية» الذى لم يصدر حتى الآن.. ولهذا القانون حكاية.. فالمادة 241 من الدستور نصت على أن «يلتزم مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية وتعوض الضحايا، وذلك وفقا للمعايير الدولية».. وهكذا.. فإن قانون العدالة الانتقالية، هو الذى سوف يكشف لنا كل الحقائق بشأن كل ما جرى فى يناير ويونيو، ثم يضع قواعد المحاسبة لكل من أخطأ أو خان أو قتل أو تآمر أو تهاون، كما يقترح أطرا لمصالحة وطنية شاملة وتعويض الضحايا. ووفقا للدستور، فقد كان ينبغى أن يصدر هذا القانون خلال دور الانعقاد السابق لمجلس النواب، لكن ذلك لم يحدث.. فلماذا؟!.. تشير المصادر إلى أن بعض القوى البرلمانية تبدى ترددا فى مناقشة القانون، انطلاقا من رؤية تفسر النص الدستورى حول «المصالحة الوطنية» بأنه يعنى المصالحة مع تنظيم الإخوان. وهو ما أدى إلى تأخر مناقشة القانون والإخلال بالدستور الذى نص بوضوح إصداره خلال دور الانعقاد الأول الذى انتهى وبدأ الدور الثانى حاليا، دون حديث يذكر عن القانون.. والحق أن هذا التخوف يبدو فى غير محله، إذ أن المصالحة المقصودة لا يمكن أن نفهم أنها تشمل مرتكبى العنف أو الداعين إليه أو المؤيدين له، بأى حال من الأحوال، وإذا كان القضاء قد قضى باعتبار «الإخوان» جماعة إرهابية، وبحل حزب «الحرية العدالة» الذى كان يمثل الذراع السياسية للجماعة، فما هو التنظيم السياسى المعبر عن الإخوان الذى يمكن أن تجرى معه المصالحة؟!.

وهكذا فما يبقى حقا هو المصالحة بين القوى الوطنية التى نبذت العنف، أهل يونيو وأهل يناير لا الإخوان كتنظيم. وهى «المصالحة» الحقيقية المطلوبة، والتى لن تتحقق إلا عبر «المصارحة» الكاملة بكل الحقائق، وفق ما نص عليه الدستور. حتى تصفو النفوس ويتشارك الجميع. لتصبح «المصارحة» وقتها هى عماد «الطريق الرابع» وتربته الخصبة التى تنبت فيها بذور الغد المشرق، مهما تكاثفت اليوم الغيوم.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق