رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

ليل الوحدة والوحشة والغربة

جابر عصفور
رؤى العالم (بمناسبة اختيار صلاح عبد الصبور شخصية العام فى معرض القاهرة الدولى للكتاب القادم) لعل أهم أوجه الليل السلبية، ‬هى الوجه الذى ‬يقودنا إلى اغتراب البطل أو الشاعر فى الوجود ومجافاته للناس، ‬وهو الأمر الذى ‬يفضى إلى أن ‬يترك لهم عالم النهار كى ‬ينطوى على نفسه، ‬ومع أشباهه، ‬فى الليل الذى هو الفضاء الزمانى والمكانى لتجمع المغتربين والمتوحدين والمنعزلين عن العالم فى العالم. ‬وهذا هو ما نراه فى ليل صلاح عبد الصبور، ‬خصوصا فى واحدة من أهم تجليات الحضور الشعرى له. ‬وقد أوجز صلاح عبد الصبور علاقته بالليل على نحو مكثف دال فى قصيدة من قصائده المتأخرة، ‬وهى قصيدة «‬مذكرات رجل مجهول» ‬من ديوانه «‬تأملات فى زمن جريح» ‬حيث نقرأ:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الحمد لنعمته من أعطانا هذا الليل

صمت الأشياء وسادتنا

والظلمة فوق مناكبنا

ستر وغطاء

والجمع بين نعمتى الليل والصمت الذى ‬يقترن بالسكوت الذى هو أبلغ ‬من أى كلام فى لحظات التوحد، ‬هو مدخل إلى قصائد صلاح عبد الصبور الليلية، ‬خصوصا تلك التى تؤكد الشعور المُمض بالغربة عن العالم والحزن فيه. ‬ويبدو أن اقتران الليل بمشاعر الاغتراب والتوحد، ‬هو اقتران قديم ‬يجرنا إلى مجاورته الدلالية، ‬وأهمها الحزن، ‬حيث لا ‬يجد المتوحد المغترب سوى الليل، ‬فضاء تنطلق فيه الأحزان حرة بلا قيود، ‬كما لو كانت تعود إلى أصل نشأتها ومبعثها، ‬على الأقل فى مجال من مجالات تجاوراتها الدلالية. ‬ولكن ‬يبدو أن هذا الاقتران بين التوحد والاغتراب عن العالم فى العالم موصول بمعانى الحزن المشوب باليأس.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

واللافت للإنتباه أننى قرأت قصيدة «أحلام الفارس القديم» فى مطلع الشباب، ‬عند نشرها سنة ‬1964، ولكنى شغلت بالأمنيات التى تتجسد فى مقاطعها الأولى عن موضوعها الأساسى الذى ‬يمزج الحزن بشىء من فقدان اليقين، ‬فخايلتنى أمنية أن نكون كغصن شجرة فى امتدادها الاستعارى أو نكون بشط البحر موجتين صافيتين، ‬أو نكون نجيمتين جارتين أو جناحى نورس رقيق، ‬ولم أنتبه كثيرا إلى أن الإلحاح على التمنى فى المقاطع الافتتاحية الأربعة فى القصيدة إنما هو تعبير عن رغبة من ‬يشكو مما خلفت الأيام فى نفسه، ‬ومن ‬يود أن ‬ينسى مرارة الزمن الموحش، ‬خصوصا وهو ذلك المجرب القعيد على رصيف عالم ‬يموج بالتخليط والقمامة، ‬ويصف الكون كله بأنه:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

كون خلا من الوسامة

أكسبنى التعتيم والجهامة

حين سقطت فى مطلع الصبا.

هذا الفارس الذى داست فى فؤاده الأقدام وجلدته الشموس والصقيع، ‬هو فارس انكسرت قوادم أحلامه وانخلع قلبه، ‬وفقد البراءة فى عالمه الموحش الذى أدرك أنه لا خلاص من عذابه وكوارثه وقسوته إلا بأحد أمرين: ‬الموت أو الحب، ‬ولذلك نراه ‬يجرب الحب فى أحلام الفارس القديم أملا فى الخلاص، ‬لكن من الواضح أن الكون كان أثقل مما ‬يحتمل أو مما ‬يمكن أن ‬يصنعه الحب الذى سرعان ما ‬يبدده سوء ظن متأصل بالمرأة، ‬فلا ‬يبقى سوى شعور الوحدة والاغتراب مهيمنا على القصائد الليلية، ‬وأولاها قصيدة «‬أغنية لليل» ‬فى ديوانه «‬أحلام الفارس القديم»‬، ‬وهى قصيدة بمثابة النقيض تماما لما كان عليه الليل فى قصائد الرومانسية العربية، ‬ابتداء من ليل جبران خليل جبران وليس انتهاء بليل نازك الملائكة - ‬عاشقة الليل، ‬هكذا نقرأ فى أغنية الليل:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الليل سكرنا وكأسنا

ألفاظنا التى تدار فيه نقلنا وبقلنا

الله لا ‬يحرمنى الليل ولا مرارته‬‬‬

وإن أتانى الموت، ‬فلأمت محدثا أو سامعا‬

‬‬ أو فلأمت، ‬أصابعى فى شعرها الجعد الثقيل الرائحة‬

‬‬ فى ركنى الليلى، ‬فى المقهى الذى تضيئه مصابح حزينة‬

‬‬حزينة كحزن عينيها اللتين تخشيان النور فى النهار.‬‬‬‬‬‬‬‬

هذه الافتتاحية التى ذكرتها تلفت الانتباه فيها نبرة مازوكية تستعذب الألم ‬وتتلذذ بمرارة الوحدة، ‬وترى فى الليل مجالا للهروب من ضجيج النهار وقسوة الحياة فيها، ‬خصوصا عندما ‬يرتبط هذا الليل بحضور امرأة تعانى الوحدة والاغتراب، ‬كالشاعر الذى ‬يستهل وصف هذه المرأة بالتركيز على العينين اللتين تخشيان مثله النور فى النهار. ‬وتمضى القصيدة مع هاتين العينين اللتين تتحولان إلى مرآتين من مرايا الليل، ‬أو مرآتين لشعور متوحد، ‬يستبدل بالنهار الصاخب القاسى الذى ‬يشبه الغابة، ‬الليل الحانى الذى ‬يستبدل الصمت بالصخب والتوحد بالضياع فى ‬غابات النهار، ‬فنقرأ:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

عينان سوداوان

نضاحتان بالجلال المر والأحزان

مرت عليهما تصاريف الزمان

فشالتا من كل ‬يوم أسود ظلا...‬‬‬‬‬‬‬

عينان سردابان

عميقتان موتا

غريقتان صمتا

فإن تكلمتا

تندتا تعاسة ولوعة ومقتا‬‬‬‬

والسوداوية فى العينين والجلال المر الذى ‬يملأهما واللون الأسود الذى ‬يتراكم، ‬هى دوال على العالم الذى تعكسه مرارة العينين فلا تكشفان لنا سوى عن عالم أشد تعاسة ولوعة ومقتا، ‬خصوصا إذا عدنا من الدال إلى مدلوله الذى ‬يقترن بحضور التعاسة والكراهية فى عالم الإنسان الذى عبر، ‬والذى هرب إلى الليل بسبب ‬يأسه من النهار. ‬هكذا نصل إلى ختام المقاطع الخاصة بالمرأة الحزينة المتوحدة التى هى الصورة الأنثوية من حبيبها أو صاحبها الذى أصبح قدرها فى عالم الليل. ‬أما هذا الحبيب فإن صوته ‬يلتفت إلى القارئ فى تغير اتجاه الخطاب لكى ‬يؤكد له أن:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الليل ثوبنا، ‬خباؤنا‬‬‬

رتبتنا، ‬شارتنا التى بها ‬يعرفنا أصحابنا‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وهو شعار دال كالعينين الغارقتين فى الصمت والسواد والحزن، ‬وهو شعار من ‬يهرب من الحياة، ‬خصوصا صخبها وعنفها ووحشيتها، ‬ولذلك تصل القصيدة إلى خاتمتها التى هى ذروتها فى الوقت نفسه. ‬أعنى الذروة التى هى أشبه بلحظة التنوير التى تعيدنا إلى قراءة القصيدة من أولها لكى ‬يتأكد وعينا بتتابع الدلالات فيها، ‬فى مسار ‬يصل إلى ذروة هذه الدلالات فى الخاتمة التى تقول:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

«‬لا ‬يعرف الليل سوى من فقد النهار»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هذا شعارنا

لا تبكنا ‬يا أيها المستمع السعيد‬‬‬

فنحن مزهوون بانهزامنا‬‬‬‬‬‬‬‬

ورغم الوضوح الظاهر لهذه الأبيات - ‬الذروة- ‬فإنها لا تخلو من سخرية، ‬خصوصا من القارئ أو المستمع الذى ‬يبدو متوافقا مع العالم النهارى أو سعيدا فيه. ‬وعندما ‬يتحدث السطر الأخير عن الزهو بالهزيمة فإنه ‬يواصل السخرية، ‬فالزهو بالهزيمة قرين معرفة العارف الذى خَبَرَ ‬النهار الذى تحول إلى ‬غابة وحشية عبر فيها الإنسان ومات، ‬كما قال قناع بشر الحافى ولم ‬يعد فيه سوى وحوش تتقاتل على الربح أو الخسارة، ‬ولا مجال فيه إلا للأقوى الذى هو أقوى بقمعه وقدرته على إثارة الرعب.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هذه القصيدة لا تماثلها فى الخط المتصاعد للشعور بالاغتراب سوى قصيدة أربعة أصوات ليلية للمدينة المتألمة من ديوان الشاعر «‬شجر الليل»(‬سنة ‬1973)‬، والعنوان نفسه ‬يقودنا إلى عالم الليليات المتوحد والموحش الذى ‬يتكاثف فيه الحزن فيغدو ألما، ‬خصوصا عندما ‬يسقط الألم الليلى نفسه على المدينة، ‬فتغدو المدينة متألمة بدورها. ‬والقصيدة قصيدة درامية تتكون من أصوات متعددة كأنها عرض مسرحى أو أداء درامى تؤديه أربعة أصوات مختلفة الدوال من حيث الظاهر، ‬لكنها متواشجة المدلولات متجاوبة المعانى على مستوى الدلالات الأعمق، ‬أما الصوت الأول فنسمعه على النحو التالى:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

آه،

ليس هو الليل،

بل الرحم،

القبر،

الغابة

آه،

ليس هو الليل،

بل الخوف الداجى،

أنهار الوحشة

والرعب المتمدد

والأحزان الباطنة الصخابة

آه،

ليس هو الليل

بل القدر

الرؤيا الهولية،

وسقوط الحاضر فى المستقبل

آه،

ليس هو الليل،

بل الجرح اليومى،

ينز دما أسود،

فى الصبح المقبل

ووقع الليل الأول بالغ ‬القسوة على نفس كاتبه ومتلقيه على السواء، ‬فأن تتحول ظلمة الليل إلى قبر أو ‬غابة دليل على فقدان اليقين الكامل وعلى الاغتراب العاجز عن المصالحة مع الكون. ‬ويلفت الانتباه كيف تتجاور الأضداد لتنطلق المفارقات فيصبح الليل هو الرحم الذى لا ‬يلد سوى الموت، ‬والغابة التى لا تنطوى إلا على الوحشية. ‬وتتحول صورة الليل لتغدو قرينة الخوف الذى لا خوف بعده، ‬كأنه أنهار من الوحشة والرعب الذى لا رعب بعده، ‬سواء فى انتشاره، ‬وعدم توقفه عند حد، ‬كأنه الأحزان الباطنة والصخابة على السواء. ‬وهى مفارقة تجمع ما بين صمت الباطن وصخب الظاهر. ‬ويتصاعد الحزن ليغدو الليل هو القدر المحتوم كالموت، ‬بل أفظع فهو الرؤيا الهولية التى نراها ‬يوم الدينونة، ‬والتى تمتد من الماضى إلى المستقبل أو تسقط الحاضر فى المستقبل، ‬فيغدو الليل كأنه جرح ‬يومى لا ‬ينزّ ‬دما أسود فى الحاضر، ‬بل ‬ينزّ ‬دما أسود فى المستقبل الذى هو من نبت الحاضر الوحشى. ‬هذا المقطع الافتتاحى ‬يبدأ كل جزء فيه بالـ (‬آه) ‬المتكررة أربع مرات كأنها عدد الفصول الأربعة، ‬الأمر الذى ‬يشى بكونيتها وتحولها إلى نظام للكون نفسه أو للحياة التى لم ‬يعد فيها سوى ما ‬ينبئ بوحشة الموت فى الحاضر بامتداده الهولى فى المستقبل. ‬ونأتى إلى الصوت الثانى حيث نستمع إلى مجموعة من الرجال تنطق على نحو أشبه بالكورس فى المسرح اليونانى:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

أنذرنا من قبل أن ‬يجىء‬‬‬

تراب لونه الردئ

أنذرنا من قبل أن تدهمنا خيوله المفاجئة،

بطبله الخافت فى إيقاعه البطىء،

أنذرنا من قبل أن ‬ينتشر ريح الوحشة الوبىء‬‬‬

تموت قطعان السحاب،

وانحدارها فى كهفه الخبىء

وهدأة الصمت البليد،

والنجوم ثابتات،

كأنها طحالب ميتة ملقاة،

على امتداد بحر الظلمة الكابية الملىء.‬‬‬‬

أنذرنا من قبل أن ‬يجىء‬‬‬

بأن ‬يوما مجدبا تقدمه ‬‬‬‬‬‬‬

وظل ‬يلتف على أرواحنا‬‬‬

حتى تهتكت خيوط نوره الصدىء‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هنا تتحدث مجموعة من أصوات رجالية تنطلق فى وصف الرؤيا الهولية التى تسقط الحاضر فى المستقبل، ‬ولكن من منظور رجال هذه المدينة، ‬فنتحدث عن كيف أن هذا الليل القادم كالطاعون أنذرهم من قبل أن ‬يأتى بتحول لون الغروب الرمادى إلى لون ترابى، ‬كما أنذرهم بأن خيول الليل- ‬الموت سوف ‬يدهم المدينة كالجراد، ‬فينشر ريح الوحشة، ‬والوباء الذى تموت به قطعان السحاب فى سموات لا تعرف الضوء، ‬وفى كون لا ‬يعرف سوى الصمت البليد، ‬حيث النجوم ثابتة كأنها طحالب ميتة على امتداد بحر الظلمة الكابية الملىء، ‬فهذا الليل لم ‬يكن مفاجأة، ‬فقد كان ثمة مقدمات دالة عليه، ‬مقدمات ظلت تلتف على الأرواح كحبال مشانق إلى أن أطبقت الكلمة تماما واستحال النور. ‬ودلالة موت قطعان السحاب إشارة استعارية إلى صمت السماء التى تظل صامتة، ‬لا تستجيب إلى استغاثات البشر الذين استخلفهم الله على الكون، ‬فأحالوه إلى ‬غابة من الوحوش. ‬والأداة البلاغية فى المقطع هى الاستعارة القادرة على التقاط التحولات والتمثيلات التى تجسد تحولات الليل، لا ‬يدعمها سوى تشبيه ‬يتيم ‬يمتد عبر ترشيح المشبه به وتأكيده، ‬ومن ثم تحوله إلى استعارة مكنية تلتف على الأرواح وتقطع حتى خيوط النور الضعيف، ‬وينتهى صوت الرجال فى المدينة ليأتى صوت مجموعة من النساء:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

شجر الليل على مفرقنا مال، ‬وأرخى‬‬‬

شعره المحلول فى أكتافنا

ثم ألقى ثمر الوجد، ‬وأزهار الكآبة‬‬‬

فى مآقينا وفى أكمامنا

واعتنقنا، ‬وغصون الشجر الموحش‬‬‬

حتى دب فى أعطافنا

شبق الحزن الذى كل دجى ‬يعتادنا‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولقد اختزلت صوت المجموعة النسائية بسبب كثافة الاستعارة المكنية التى تنطوى على نوع خاص من الترشيح، ‬يجعلها تجسد المعنوى، ‬وتشخص المادى فى الوقت نفسه، ‬فيغدو الليل شجرا مستطيل الأغصان التى تبدو كالشعور المحلولة على الأكتاف، ‬ولكنها الشعور التى تلقى ثمار الوجد وأزهار الكآبة فتنتقل عدواها إلى النساء اللائى ‬يحملنها، ‬فيعتنقن وزهور الشجر الموحش حتى ‬يدب فى أعطافهن شبق الحزن الذى ‬يعتادهن كل ليلة، ‬فيهبنه أنفسهن بالكلية حتى ‬يتحدن معه، ‬فيتحولن إلى مجلى له، ‬لكنه المجلى الذى ‬يتركهن منتظرات أبدا، ‬يحملن بذور الألم الموجع فى أحشائهن، ‬فلا ‬يلدن سوى كائنات هى صورة أخرى من أزهار الكآبة، ‬ومن ‬غصون الشجر الموحش الذى ‬يحيل الحياة إلى ‬غابة وحشية حزينة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ولا ‬يبقى سوى صوت الشاعر الذى ‬يأتى فى الختام بعد أن استمع إلى كل هذه الأصوات وشاهد كل هذه المشاهد، ‬فيأوى متوحدا إلى فراشه ما بين الصحو والغياب، ‬لكن قبل أن ‬يغيب فى ‬غياهب الكابوس ‬يطوف فى خياله الحكم المحكوم على تحققه بالاستحالة، ‬فمحال أن تفتح السماء أبوابها عن نبأ عظيم فى هذا العالم العقيم، ‬فلا ‬يبقى سوى أن ‬يسأل الشاعر المتوحد المغترب سؤاله السقيم أو العقيم:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

رباه!‬‬‬‬

رباه! ‬‬‬‬

ما سر هذه التعاسة العظيمة

ما سر هذا الفزع العظيم.‬‬‬‬

والجواب المضمر فى السؤال: ‬هى ازدياد التعاسة الذى أحال الكون إلى جحيم، ‬والعالم إلى ‬غابة، ‬والذى لا ‬يكف عن إسقاط حاضره الوحشى على مستقبله الذى لن ‬يجلب سوى المزيد من الرعب الكونى. ‬وتنتهى أصوات المدينة المتألمة، ‬لكن ألمها الذى هو ألم الشاعر لا ‬ينتهى كالحزن الذى ‬يحيط به ويتغلغل فى كل قصائده تقريبا. ‬فتومئ إلى أسباب لا تنفصل عن ‬غياب اليقين، ‬ويأس الشاعر فى أن ‬يرى ثمة ما ‬يوحى بالأمل والفرح فى عالم ‬يموج بالتخليط والقمامة، ‬عالم أكسبه التعتيم والجهامة، ‬حين اكتمل وعيه فيه ولم ‬يجد خلاصا قريبا منه كى ‬يحلق مع من ‬يحب كجناحى نورس رقيق أو كموجتين صافيتين، ‬فلم ‬يبق سوى الانزواء والتوحد فى عالم الليل الموحش الذى ‬يلتف فيه شجر الليل على الكائن المتوحد المغترب، ‬كما لو كان ‬يصنع له شرنقة تعزله عن العالم وتبعد العالم عنه، ‬أو كما لو كان ‬يضع له مشنقة من صنعه هو قبل أن تكون من صنع ‬غيره‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق