فجأة فهمتُ.الآن فهمتُ. نعم . فجأة كأن سيفا باغتنى وشقنى ورمانى إلى الذهول. فهمتُ، بعدما انحنيتُ لأفتح باب السيارة. تطلعتُ وأنا واقف فى الشارع إلى جانب وجه ابنتي. كانت تنظر أمامها عبر الزجاج الأمامى ويداها على المقود سارحة بخواطرها.
أفتحُ الباب. أجلسُ بجوارها. أتزحزح ناحيتها. أمدُ كفى إلى ساقى المدلاة على الإسفلت. أرفعها إلى داخل صالون السيارة ببطء. أستدير إلى ابنتي. ألمح فى عينيها ضجرا مكتوما. حينئذ فهمتُ. نعم. فجأة فهمتُ. أدرتُ وجهى وأرسلتُ بصرى عبر الزجاج. ساد الصمت فى الصالون إلى أن قلتُ لها:
-هيا بنا. إلى بيت العائلة.
كانت تعرف إلى أين سنتجه فلم تنتبه لما قلته أو أنها لم تكن تنصت إلي. فهمتُ. كانت تتحمل وجودي. هكذا كنتُ أنا أتحمل وجود أمى وهى فى السبعين وأنا شاب متعطش للحياة فى الثلاثين. كنتُ أتابع أمى وهى تفتح باب سيارتى بتثاقل، تجلس. تتزحزح ناحيتي. تتنهد أولا ثم ترفع ساقها على مهل وهى تكز على ضروسها. أكان لابد من انقضاء ثلاثين عاما لأفهم أنها بنظرتها كانت تطلب الحنان؟ بشرودها بعد أن تفتح النافذة وترسل بصرها إلى الأشجار والبيوت؟ بهزة رأسها بشعرها الفضى مع نغمة قديمة؟ بوحشة ورقة استسلامها للتعب؟ بسرحانها بعيدا إلى حيث بدأ كل شيء. تسأل نفسها بحيرة كيف مضى العمر سريعا؟ أين كان ينبغى لها أن تتفادى ضياعا أوآخر؟. فى السبعين اكتملت مثل قطعة قماش تحت عينيها صورة حياتها. لم يبق زمن لتطرز عليه وردة، ولم يعد بوسعها أن تبدل الرسم القديم. حينذاك لم أفهم، وكنتُ أقابل ذلك بنظرة ضجرة، أما هى فلم تفض بشيء. احتاج الأمر سنوات طوال لأدرك فى لحظة كل ماكانت تشعر به وتكتمه. لماذا لايأتى الإدراك إلا متأخرا؟ حينما يصبح القلب منهكا؟ وتكون الشفتان قد فقدتا حرارة التقبيل؟
راحت ابنتى تقطع شوارع المدينة إلى بيت العائلة فى صمت. مطر خفيف يتساقط على الزجاج الأمامى والجو مشبع بلون الغروب. تتلفت ابنتى بعينيها يمينا ويسارا وتمرق من بين السيارات بتهور. أشعر بالتوتر والخوف.
- من فضلك قودى ببطء شوية.
ترد متذمرة: هذه سرعة معقولة. لا تخف.
نعم. السرعة معقولة. المشكلة فى أعصابى أنا. لم تبثنى أمى حينذاك شيئا من تعبها، تفادت حتى الإيماءة ولو بتنهيدة. لعلها كانت تقول لنفسها: «سيحل يوم يفهم فيه كل هذا. لم أتعجله؟». أنا أيضا لا أفضى بشيء لابنتي. أحدث نفسى بأن لحظة ما ستحل، وفى لحظة ما ستدرك فجأة رسالة نظرتى بمحبة تنعقد بقوة الدم والضجر والإيلام والحنان.
نقطع ميدان الحلمية. ندخل إلى الشارع الرئيسى المؤدى لبيت العائلة القديم حيث نمونا. لم تطاوعنا نفوسنا بعد وفاة أمى على بيع الشقة. اتفقنا على أن نلتقى فيها أيام الجمعة. نجلس أنا وأختاى الاثنتان فى الصالة، نتغدى ونشرب الشاي. تنهض وئام الكبرى تتجول بين الحجرات تتفقد ذكرياتها كأنما تطمئن أنها مازالت دافئة فى أماكنها. تتجه نوال إلى الحجرة التى كانت للبنات وتتمطى على سرير طفولتها. بعد وقت ننصرف إلى بيوتنا، ثم تباعد اللقاء مع تقدمنا فى السن وطول المسافات، فأعتمت الشقة وكسا التراب حواف قطع الأثاث وأطراف الستائر فقررنا أن نبيعها، بعد ربع قرن من وفاة أمي. الآن لم يبق سوى أن نلتقى هذه المرة نتقاسم قطع الأثاث والصور والأوانى ونجول بأبصارنا نودع المكان قبل تسليم المفتاح. لم أكن مستريحا لذلك، فقد بدا لى ذلك التقاسم أشبه بتمزيق كائن من الذكريات المتشابكة. قلت لوئام: «لا أريد شيئا»، لكنها أصرت: «وأنا لا أود أن أحصل على كل شيء وحدي. تعالوا نلتقي، منها نتذكر أمنا، ومنها نفرز الموجود».
نقترب من الشارع الذى نمونا تحت أشجاره وبين رصيفيه.هنا أعرف غيبا كل محل بقالة وصاحبه الأصلى وأولاده، وتاريخ كل كشك، واسم كل بواب عمارة، وبنات كل أسرة. نتوقف عند البيت. تركن ابنتى السيارة. تخرج وتمسك بذراعى وأنا أصعد السلالم ببطء. هكذا كنت أقبض على مرفق أمى وهى ترفع قدمها إلى الرصيف وتلهث قائلة: «بالراحة شوية». لكنى لم أفهم. بلغنا الطابق الثالث ومن أول الطرقة الممتدة رأيت باب الشقة مفتوحا، وتناهت إلى من هناك أصوات كلام أختى الاثنتين. دخلنا. كانت وئام الكبيرة جالسة على الأريكة أمام التلفزيون تمسح أنفها بطرف فوطة صغيرة ثم تكورها وتحشرها بجوارها، ونوال بقربها تفتح البخت بأوراق لعب على طرف الأريكة. ما إن جلسنا حتى أشارت وئام بإصبعها إلى شوفينرة ضخمة ضاحكة: «هنا وضعنا أول راديو كبير اشترته أمى وغطيناه من شدة الحرص بقماشة». ضحكت نوال ضحكة يسحبها الماضي. نتبادل النظرات فى صمت. نشعر بوجود أمي، بهفهفة طرف جلبابها المنزلي، بخطواتها من دون صوت. نسرح بأبصارنا فى الجدران التى تشقق طلاؤها و بهتُ. قالت نوال لابنتي: «لماذا لا تقومين وتعدين لعماتك ووالدك الغالى قهوة؟».نهضت ابنتى إلى المطبخ. عادت بعد قليل بفناجين القهوة وجلست تتحدث مع صديقة فى المحمول بصوت خافت. قالت نوال: «لقد جمعت كل الأطباق والأكواب فى صناديق كرتون». نبهتنا وئام بنبرة استئذان: «إذ لم يعترض أحد فسآخذ غرفة النوم التى كانت تنام فيها أمنا». لم أطلب سوى تلك المنضدة التى تنطبق إلى نصفين وكانت أمنا تجلس إليها كل صباح تحتسى الشاي.
تذكرتُ حين ذهبتُ مع أمى وأنا صبى لزيارة خالى عبد العزيز المريض بالسل. كان يوما حارا، ونحن نسير على طريق مترب مهجور تقريبا. أسير وأضرب الحصى بطرف حذائى وأمى تتقدمنى بخطوات. فجأة رأيتُ عربة «آيس كريم» صغيرة مرسوم على خشبها قط ملون. تمهلتُ عندها. شعرت أمى بذلك أو سمعت كيف تراخت خطواتي. التفتت نحوي. لمحت فى عينى نظرة اشتهاء آيس كريم. لبثت لحظة فى مكانها فقلت لنفسى النقود قليلة، لكن وجدتها تهز رأسها وتقصد العربة لتشترى آيس كريم. بعد نحو أربعين عاما كنتُ مع ابنتى فى محل وضعت على أرفف منه دمى خشبية زاهية الملابس. تجمدت ابنتى وكانت فى السادسة أمام واحدة منها بانبهار. لبثتُ لحظة مأخوذا بعينيها المفتوحتين إعجابا على آخرهما. تلفتُ حولي. وجدت الممر خاليا من الزبائن فاتجهتُ إلى الدمية خطفتها بسرعة من على الرف وأخفيتها تحت طرف البالطو ثم أسرعت الخطو للأمام، وابنتى تهرول ورائى وهى تهتف: «إيه يابابا ده؟ عيب كده». وضعتُ طرف أصبعى على شفتى وزعقت فيها «هس.اسكتي». وانطلقت من باب المحل إلى الخارج. مددت الخطو على الرصيف وابنتى خلفى تصيح بصوت خافت: «عيب كده. أنت لم تدفع فلوسها؟!». عندما صرت بعيدا بما يكفى توقفت تحت عمود نور، ولحقت بى فأخرجت الدمية وناولتها إياها. أمسكتها بيديها ثم أنزلتها إلى مستوى ركبتيها لتطوق عنقى بفرح:» لكن جميلة قوى يابابا»! وتلألأت فى عينيها دموع سعادة ودهشة.
أنهينا كل شيء، لم آخذ سوى المنضدة الصغيرة التى تطوى نصفين. ألقينا نظرة أخيرة على الشقة وخامرنا ونحن نخرج منها شعور بأننا لم نشتت فقط الذكريات التى جمعتنا بل وبأننا أنفسنا نتفرق فى دروب مختلفة. أغلقت وئام الباب. قالت للحارس إن سيارة نقل ستأتى غدا لنقل الأثاث ورفعت مفتاح الشقة بين أصبعيها لتسلمه إياه، ثم ارتجفت كفها مرتدة للخلف واستدارت تبكى فى صدر نوال. ربتت نوال على كتفها وطوقتها بذراعها. خرجنا من باب العمارة إلى الشارع وخيل إلى أن أمى وحدها الآن فى الشقة تطوف بين الحجرات الفارغة تقسم روحها إلى قطع صغيرة تحلها فى كل قطعة أُثاث ليبقى منها جزء فى كل ناحية. سلمنا وودعنا بعضنا على الرصيف.
ركبتُ مع ابنتى فى سيارتها وانطلقنا على الطريق. كانت الشوارع هذه المرة خالية والمرور سهل. وصلنا إلى مسكني. فتحتُ باب السيارة ببطء. «إلى اللقاء يابابا»،أجبتها: «إلى اللقاء يا حبيبة بابا». أنزلتُ طرف قدمى من السيارة فلامست الإسفلت، لكنى لم أشعر بصلابته بل بطراوة تربة ندية. نظرتُ أمامى فرأيت مطلع ربوة عالية، وثلاثتنا ، أنا وأمى وابنتي، نرتقى الربوة معا، وكل منا فى العشرين من عمره. أنا فى العشرين وأمى فى العشرين وابنتى فى العشرين.أذرعنا متشابكة ندوس أطراف الأعشاب اللينة صاعدين بخفة. بلغنا رأس الربوة فتوقفنا نلتقط أنفاسنا، ومن هذا العلو الشاهق انحدرنا بأبصارنا إلى السفح. لمحنا تحتنا بعيدا ألماسة الزمن وقد تكسرت إلى أيام ولحظات كثيرة تتوهج وتنطفئ من دون ترتيب. تهبط أمى ببصرها إلى ماضيها وأتطلع أنا إلى مستقبلى وماضيها وتلتفت ابنتى إلى حاضرها ومستقبلى القادم. نديم النظر وكل منا فى العشرين إلى النقاط الصغيرة التى تقاطعنا فيها والتى سنتقاطع فيها. حين أدركتُ أننا سنبقى هنا فردتُ المنضدة التى كانت تحت إبطى وجلسنا حولها. رحنا نتطلع إلى بعضنا البعض مثل موجات فتية تذوب أوائلها فى حوافها بالفرح وترتد بالمسرة، ونحن نعلم أننا الآن سنبقى دوما فى سعادة وغبطة العشرينات، وأننا مثل الهواء والنور، لن نشيخ أبدا.
رابط دائم: