رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الرحلة العاشرة فى حياة طبيب نفسى كبير ولامع
حين يسكن ملاك قلب الفنان

منير عامر
حين تحيط نفسك بلوحات الفنان يوسف فرنسيس فلابد أن تشكر السماء لأنها أهدتك فهما ومحبة لكائن سماوي عرف من البداية أن حياة البشر مليئة بالنزق الحائر بين الرفرفة بأجنحة الخيال بعيدا عن الواقع أو الانغماس في طين الأرض ليورق من بعد ذلك كزهرة لها عطر يمكن أن تراه بعيونك قبل أن تتنفسه كعبير .

وحين تدخل مكتب أو عيادة أو بيت د. أحمد عكاشة ستجد عيونك أمام لوحات تسافر بك إلى عالم يوسف فرنسيس حيث كل امرأة هي موسيقى من أنوثة سماوية تتمنى أن تجدها في أرض الواقع ، وما أن تمتد يدك لتصافحها سيهمس لك خيالك « هي امرأة من إبداع فنان رحل كثيرا في أعماق فكرة الحب فأخرج كنوزا من أنوثة يندر أن تجدها في واقع الحياة اليومية.

ولأني أعلم عمق الصداقة بين أحمد عكاشة ويوسف فرنسيس، وعايشت بفرح آفاق المودة العميقة بين الإثنين لذلك آمنت أن السماء أهدتني صديقين، كلاهما يورق بمحبة الحياة، فكلاهما يقدس إنسانية الكائن البشري بضعفه وقوته ، وهما من أبناء جيل رأي باريس _ على سبيل المثال _ كساحة للحرية والتفكير المنطلق ، إلا أن أحمد عكاشة يفضل زيارة سويسرا في بعض الأحيان لأنها تذكره بحادثة نجا فيها من دسيسة قام بها بعضهم ضده حين كتبوا لجمال عبد الناصر أن أحمد عكاشة وهو يدرس للدكتوراه، راح يجمع النكات ضد ثورة يوليو ويعطيها بمقابل مادي لزوج شقيقته أحمد أبو الفتح رئيس تحرير جريدة «المصرى» الذي ترك مصر ليستقر هناك لخلاف جوهري في الديمقراطية بينه كأحد قادة حزب الوفد وبين جمال عبد الناصر . ويقوم بدعاية ضد حكم عبد الناصر ، وطبعا ضحك عبد الناصر من تلك الكذبة لان ثروت عكاشة كان في باريس فيما قبل عدوان 1956 بأسابيع، ووصلت إليه خطة العدوان كاملة ؛ فقام بتحفيظها لأحد مساعديه كيلا يكتبها؛ لأنه أراد أن يسمعها جمال عبد الناصر من حامل الرسالة صوتيا. وأرسل ثروت عكاشة مساعده بالرسالة المحفوظة إلى القاهرة ،لكن المساعد لم يستطع لقاء عبد الناصر إلا بعد أن بدأ العدوان . لذلك لم يصدق عبد الناصر تلك الوقيعة التي قام بها أحدهم ، فليس من المقبول أن يتغير موقف كل من ثروت عكاشة وشقيقه أحمد من ثورة يوليو. صحيح أن زوج الأخت كان ضد عبد الناصر ، وصحيح أيضا أن ثروت أو أحمد حين كان أي منهما يزور شقيقته فهو يستأذن من مكتب جمال عبد الناصر ، أما لماذا محاولة الوقيعة بين عبد الناصر وعائلة عكاشة فسببها رغبة أحدهم من الذين تقصر قاماتهم عن الوعي بقيمة الثقافة طمعا في أن يكون وزيرها ؛لذلك فلابد من فصل أي علاقة بين عبد الناصر وثروت ، فجاء الدس القائل بأن أحمد عكاشة أشترى سيارة وهو طالب بعثة في أدنبرة من نقود قبضها من أحمد أبو الفتح مقابل إمداده بالنكت والإشاعات ضد نظام ثورة يوليو، وما أن أخبر عبد الناصر صديقه ثروت عكاشه بالدسيسة ، حتى سافر ثروت لأحمد لندن ليعرف منه تفاصيل القصة . ورأى بنفسه كيف أشترى أحمد سيارة صغيرة ثمنها لا يزيد عن ثلاثمائة جنية إسترليني وبالتقسيط ، عشرة جنيهات كل شهر بضمان مدير المستشفى لحضور المحاضرات المختلفة التي تبعد عن المستشفى الذى كان يعمل بها، وقد اخذ ثروت الإيصالات ليريها لجمال عبد الناصر، بل وتأكد عبد الناصر من أن احمد عكاشة لم يكن يقبض مكافأته من البعثة ، لأنه عثر على عمل. وتأكدت الرئاسة المصرية أن أحمد عكاشة بريء من تلك الفرية الكاذبة. وكافأ أحمد نفسه بزيارة جنيف ومنها إلى لوزان حيث تقيم شقيقته ليطمئن عليها، ولوزان بالنسبة لأحمد مدينة ذات جمال ساحر.

....................

ومازلت اذكر درجة الانتباه من يوسف فرنسيس لسؤالي لصديقنا الطبيب النفسي حين كان عائدا من جنيف: ماذا ناقشتم في منظمة الصحة العالمية ؟.

فأطلق ضحكة واضحة قائلا : لم نستطع التوصل إلى تعريف لمعنى الإنسان الصحيح نفسيا . أذكر أني قلت له « الصحيح نفسيا هو من يتعامل مع الكروب التي في حياته دون أن يدق باب الطبيب النفسي « .

ويوافقني د. أحمد على ذلك ، فمن له أصدقاء يحكي لهم أحزانه ومشكلاته ويشركهم فيما يؤلمه ، هذا الإنسان لا يحتاج إلى الطبيب النفسي لمواجهة الكروب الصغيرة . ولكن إن هجمت الضلالات والهلاوس أو لم يعد الإنسان قادرا على إدارة مشاعره ويعجز عن التواصل الفعال مع من حوله ، هنا يلجأ إلى الطبيب النفسي ، أو تلجأ أسرته أو مجتمعه الصغير لطلب الدعم والعلاج . وأستقر الأمر على أنه لا يجب احتجاز أي مريض لمدة تزيد على خمسة وأربعين يوما داخل المصحة،وأطلق د.أحمد أمامنا قوله « نحن كل فترة نناقش المحكات التي تشرح للطبيب وتساعده على تشخيص المرض النفسي ، لأن التقدم في العلاج بالعقاقير أصبح مؤكدا فصرنا لا نحتاج لاحتجاز المريض داخل المصحة لوقت طويل .

وضحكت أنا ويوسف من كلمة «المحكات» لأنها بدت غريبة على آذاننا ، فشرحها احمد عكاشة بأنها مجموعة من الأعراض النفسية التي يلتزم بها الطبيب النفسى للوصول إلى التشخيص السليم .

....................

رحل جسد يوسف فرنسيس إلى العالم الآخر لكن طيف إبداعه مازال يطل من لوحاته ، وأمام إحدى اللوحات تذكرت كيف تعجبنا معا من كلمة «محكات» التي يستخدمها د. أحمد كترجمة علمية للأعراض . وعندما نطق د. عكاشه أمامي بكلمة «المحكات» أسرعت إلى القول بأنها مجموعة الأعراض التي قد تزيد عن الحد فتزيد من صعوبة قبول الإنسان لنفسه أو لصعوبة تكيفه مع ظروفه ، أو عدم قدرة المحيطين به على قبول ما قد يصدر عنه من هلاوس أو يزحم به لسانه من ضلالات .

ولأني أردت إثبات أني كاتب صحفي يحب الطب النفسي بدأت «أعدد الأعراض التي قد تعبر عن المرض النفسي بشكل ظاهر، وأحببت _ بنوع من الأنانية أو الفخر بما أعلم _ أن أنطق أمام واحد من سادة الطب النفسي في كرتنا الأرضية بما بقي في ذهني من حقائق الأعراض التي قد يوجد عرض منها أو اثنان أو ثلاثة ، لكنها لا تعطل حياة الفرد ولا يشكو منها هو أو المحيطين به ، فالاكتئاب بدرجاته الخفيفة قد يوجد في الشاعر أو الرسام أو الإنسان العادي بأعراض موجزها : مزاج سوداوى حزين ، إحساس بالعجز واليأس ، خفض الاهتمام واختفاء البهجة ، فقد الوزن ، الأرق الشديد أو النوم المفرط، الهبوط أو الهياج السلوكي، الإعياء والتعب المستمر ، الشعور بالذنب وفقد الثقة، أو التقليل من قيمة الذات ، صعوبة التركيز أو اتخاذ القرار، أفكار مستمرة عن الرغبة في الموت وأفكار انتحارية.

كل ما سبق قد يوجد منه عرض أو أثنان أو حتى أربعة لبعض من الوقت ثم تذهب تلك الأعراض بعيدا عندما يتغير المزاج النفسي للإنسان.

هنا صفق احمد عكاشة لصديقه الذي هو أنا لأني اعلم بعض الأعراض ولا أقوم بتشخيص وجودها مجتمعة في شخص لوقت طويل ؛ فمن يعاني منها لمدة تزيد على أسبوعين سيفكر في طلب المساعدة من الطبيب النفسي أو ينصحه احد المحبين بأهمية العرض على الطبيب النفسي . أقول للدكتور أحمد : لكن ماذا عن الحالات الشديدة كمن يركبه عفريت الوسواس القهري فيغسل يديه مثلا عشر مرات أو ينتف شعر ذقنه أو حواجبه ؛ أو يسيطر عليه هاجس ما طوال الوقت ؟

يقول : تعلم على مدى صداقتنا خلال الخمسين عاما الماضية أني لا أحب كتابة أعراض الأمراض إلا كنماذج لان كل إنسان من البشر به بعض من أعراض العديد من الأمراض النفسية . والقراءة عن هذه الأعراض قد تجعله يوغل في الالتصاق بها وقد يتملكه هلع ورعب مبالغ فيه ، رغم انه يتعايش مع ما يعاني منه بعض الوقت ، ليسيطر أخيرا على ما يعاني منه لفترة . وأنت تعلم أني طالبت بتدريس الطب النفسي لطلبة الطب كمادة أساسية مع تدريب الأطباء الشباب على جودة التشخيص، وعلمتهم أيضا متى يطلبون معاونة الأكثر تخصصا في العلم، لأن العصر قد ازدحم بأعراض الأمراض. وعدد أطباء النفس قليل بالنسبة لمن يحتاجون مجرد استشارة ، وليسوا في حالة مجابهة لأعراض صعبة وقاسية مثل عدم ترابط الكلام والتفكير والتفسخ الفكري ، أو عدم ترابط السلوك والقيام بأعمال بعيدة عن المألوف من المريض أو التبلد العاطفي، أو عدم الاهتمام بالنظافة أو الملبس، أو تغيب الإحساس بالوجود فيغرق في العزلة والانسحاب من الحياة.

....................

عبر عمل لأربع عشر ساعة كل يوم مع رياضة خفيفة في الصباح ؛ ثم اجازة يومين في الأسبوع ، بهذا المنهج نافس احمد عكاشة اثنين من الذين أحببتهم لكني فشلت في الانضباط على طريقتهم ؛ وهما الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذي كان بإمكانك أن تعرف الساعة التي تضع فيها سكرتيرته قهوة الصباح أمامه ، ومتى يخلد إلى النوم . وشريكه في انتظام الدقة وهو الرائع نجيب محفوظ . أما أنا فمن نوع بشري مختلف ؛ أحببت قلق صلاح عبد الصبور الشاعر الذي أجاد الاستغناء ، فلن انسي لحظة ترشيح الراحل منصور حسن له كي يكون رئيس تحرير الأهرام ؛ فقال الجملة الأثيرة « لابد من أن يدير الأهرام واحد ممن شربوا منهج أستاذ الأهرام المعاصر محمد حسنين هيكل وإلا يكون نسخة بالكربون منه ؛ بل بنفس اتساع رؤيته . وأحببت أسلوب حياة فتحي غانم الذي أجاد لعبة الشطرنج ولم يمنح قلبه إلا بإتباع بوصلة الرؤية؛ فقد يصادق لكنه يحرص على بقاء ذاته بعيدة عن وهج الإعلام وهو واحد من سادته.

وطبعا كنت _ ومازلت _ معجبا بأسلوب احمد عكاشة في التعامل مع المرض النفسي؛ فهو قادر علي أن يستخلص الجديد من القديم ؛وأن ينقد الجديد بحساسية ؛ولا يجرب الجديد في الإنسان ؛بل يستكشف آفاق الشجاعة الداخلية في المريض؛ ليواجه المريض النفسي رحلة بناء الشفاء. فبعد أن شرب كيفية التعلم من إنجلترا، أخذ من استقر عليها قلبه من نساء الإنجليز؛و دعاها إلى زيارة القاهرة ، ليتزوجا ، وهي من أحبت أن تعيش معه هنا في مصر المحروسة .

ويمكن تلخيص أثره في الطب النفسي بأنه رفع عن كرامة هذا المريض ، حذاء الدهس بالاحتقار والازدراء والشفقة، وهدأه بالقدر الملائم من الدواء والكثير من التعاطف، فاسترد بعض من الذين أطلقنا عليهم المجانين وضعهم اللائق بهم في المجتمع، وهو الذي وضع عام 1965 لفظ الطب النفسى بدل من الاسم السابق الأمراض العقلية والنفسية !!!

....................

المؤكد أن كلماتي طوال الرحلات السابقة في حياة أحمد عكاشة قد دارت حول بعض من تفاصيل سريعة عن أيامه بين الدراسة بالإضافة إلى زيارة العديد من بلدان العالم ؛ وحوارات عن الاكتئاب الذي يعصف بالكثيرين، وعن الفصام الذي ينفجر بقنابل الضلال في المخ، وعن هلاوس « البارانويا « الممزوجة بالفصام حين يتوهم المصاب بها أنه يجلس مع المهاتما غاندي بطل استقلال الهند علي الرصيف ومعهما على نفس الرصيف يقف هتلر ؛ ليلاكم أرنستو تشي جيفارا ثائر أمريكا اللاتينية ؛ لكن جيفارا يترك هتلر ؛ويحتضن مارلين مونرو التي تصرخ من فرط النشوة؛ لأنها وجدت أخيرا الرجل الذي يستحقها؛فيغضب هتلر؛ ويشرب الخمر مع كيندي رئيس أمريكا الأسبق؛ويلعب الاثنان معا البلياردو على مائدة مفروشة بجثث الأطفال، والكرات التي على تلك المائدة من جماجم البشر.

وقد صارت الكرة الأرضية عبر العولمة وعبر الصراعات المتعددة أكثر ضراوة من مرض الفصام الزاعق.

وليس هناك استراحة من الجنون الذي يحيط بنا إلا بالصداقة مع الفنون؛ فالفنون قادرة على تسلية وتسرية النفس بفهم قيمة الفن؛ وزيارة متاحف العالم وقاعات الأوبرا في فيينا وباريس واستكهولم، ولا يمكن لأحد أن يقيس زيادة الموصلات العصبية أو الأندورفين التي تتكون في لحظة تنوير حين يقرأ المرء مسرحية لشكسبير ، وأخص شكسبير بالذكر لأن د. عكاشة يحبه وتمنحه تلك القراءة درجة من التبصر يقضي بها على حالة التكرار التي يقابلها أي طبيب ، ولذلك يحرص على مشاهدة مسرحيات شكسبير كلما تواجد في لندن .

....................

وأمام لوحة بلون الشفق بتنويعاته كانت امرأة يابانية من رسم يوسف فرنسيس تطل علينا من الحائط المعلقة عليه، فدار حوار عن زيارة مؤثرة لأحمد عكاشة لليابان. وقد قص لي أن البوذية تعني بالتأمل كوسيلة لطرد التشتت والخروج من دائرة الأحزان الصغيرة. وأضاف :» لقد أخذ اليابانيون من الهنود تجربة التأمل المتسامي ، وهي أن يجلس الإنسان في حديقة ليرقب مجموعة من الأحجار أو الأزهار ، ويترك أفكاره تنساب بعيدا .. بعيدا . ويظل يردد ما يشبه التسبيح. وحين نقوم برسم مخ من قام بالتأمل نجده في حالة تآزر وانسجام «. وفي ذلك انفصال عن الواقع المزعج؛ الذي يحول وعي الكائن البشري إلى قطع من زجاج متناثر.

أقول للدكتور أحمد : مازلت أذكر فى أثناء زيارتي لليابان منذ سنوات وجه هذا الراهب البوذي الذي التقيت به على قمة جبل كاميوكا في مدينة كيوتو باليابان . وعمره كان يقترب من المائة، ولا يمكن أن تتخيل قدر حيويته ونشاطه ، على الرغم من أنه مدخن شرس . ولكنه يقضي في التأمل ما لا يقل عن ساعة كل يوم.

فيجيبني : هم كمؤمنين لا يمارسون تجارة بالدين ؛ مثلما يحدث عند المتاجرين بالتعصب، لذلك يحققون لأنفسهم درجة التآزر عند رسم المخ ؛ فلا يوجد ارتباك كالذي يظهر عند ممارسي النصب باسم الإيمان ؛فأي اضطراب في السلوك الإنساني إنما يظهر أثره على المخ ،

ويشرح لي أهمية التدخل بالعلاج للمرض النفسي بالأدوية المطمئنة، فعندما نصل إلى معرفة ما ينقص المخ من مواد ؛ يصبح بإمكاننا أن نعوضه إياها ، وبذلك نزيل أعراض المرض الذي يشكو منه طالب العلاج . وقد نجح العلم في الوصول إلى ذلك في واحد من اخطر أمراض النفس وهو الفصام ؛ فالمريض من هؤلاء عانى عبر عصور طويلة من نظرات اليأس والتجاهل ، والاعتقال داخل أسوار المستشفيات العقلية . لكننا حين استطعنا رسم خريطة المخ وكشف نبضاتها وصورتها بالأشعة المقطعية وبأجهزة الرنين المغناطيسي أمكننا أن نوفر صورة عن الخلل الذي يحدث في المسارات العصبية في المخ، فصار «الفصام» مرضا كمرض السكر يمكن السيطرة عليه ، فما أن يأخذ المريض العلاج حتى يعود للغالبية من المرضى التفكير المنتظم وتضيع منه الهلاوس .

أقول : تبدو دائما مرحبا وواثقا أن كثيرا من أمراض النفس سيتم علاجها بالأدوية منذ اكتشاف علاج فعال للفصام.

فيجيب : من المؤكد أن الكثير من أعراض الأمراض النفسية متداخلة ، ومن المؤكد أن المهدئات والمطمئنات ، وأدوية علاج الاكتئاب تتيح للإنسان فرصة للخروج من التوتر . فإذا كان المرض النفسي عبارة عن أعراض يشكو منها المريض ، فيمكننا أن نزيل تلك الأعراض عن طريق الأدوية، ولكن في معظم الأحوال يحتاج المريض إلى العلاج النفسى المعرفي الذي يبحث في التكيف والقبول للحاضر .

....................

منذ أن تم اكتشاف المهدئات والمطمئنات ومضادات الاكتئاب والفصام والوسواس والقلق ...الخ في منتصف القرن العشرين ، وهناك رحلة جديدة خاضها الطب النفسي ، و يخطئ أي مريض إن باع لنفسه الوهم بأن الطبيب النفسي سيحقق له الشفاء المطلق مما يعاني ، فالأعراض التي يشكو منها المريض ، سيحاول الطبيب أن يزيلها بوصف علاج له من قدر معين من الأدوية والعلاج النفسى ، أما الشفاء بالمعني النفسي الكامل ؛ فهو أولا وأخيرا من اكتشاف المريض نفسه ، وكل ما يفعله الطبيب النفسي هو أن يجعل رحلة العراك داخل النفس تهدأ قليلا ، لتعود للإنسان قدرته على التوافق النفسي من جديد .

وبطبيعة الحال نحن نتحدث الآن عن المرض النفسي بهذه الدرجة من السهولة ، متناسين أنه كان كالعار منذ أكثر من نصف قرن ، فقد كان من يعاني من أي اضطراب نفسي يصنف كمجنون .

....................

أقول للدكتور أحمد عكاشة: من المؤكد أن أي إنسان يملك في تاريخه لحظة ينظر فيها إلى صورته في المرآة ويوجه إلى الصورة المنعكسة على السطح اللامع سؤالا بسيطا هو « من أنت بالضبط ؟ «

ضحك قائلا: سيظل السؤال يتجدد من عصر إلى عصر ، فمنذ أن نطق به أحد الفلاسفة ؛ سيظل سؤالا يحتاج إلى إجابة متجددة والسؤال هو هل تعرف نفسك ؟. سافرت بي كلماته إلى أول مرة ألتقيته : كانت قصة حب أساسية في حياتي تترنح في العجز عن الاكتمال ، فظروف حياتي أيامها كانت كفوهات لبنادق تحيط بي من أكثر من اتجاه . لأجد كل رصاصات الكروب تخرج من بنادق الظروف لتصيب أحلام القصة الأثيرة في مقتل .كنت ـ أيامها ـ عائدا من باريس، بعد أن عشت شهورا مع الجديد والحيوي من أفكار الحياة في القرن العشرين. ولكني كنت مطالبا أيضا بأن أسبح في اليوم القاهري العادي ، حيث تتجمع لحظات النهار وكأنه نهر من الأمواس المسنونة التي يجب أن أسبح من خلالها ، وأن أصمت حين أرى دمي وهو يسيل من حولي .

كنت أملك يومها سؤالا واحدا لكل الساسة ولكل العلماء ولكل البشر ، السؤال هو « متى يتعلم المجتمع المصري احترام حق الحب ؟» وأذكر أني ألقيت بسؤالي على د. أحمد فأجابني قائلا «لا مفر من أن يموت الحب من الشاب إن استقبلته التقاليد بثقلها المعهود» ؛ كنت غارقا في تيه من الضياع ، لا اعرف هل اضحك أم أبكي صراخا ، فقد عشت لأيام بعد عودتي من رحلتي الباريسية مع حيرة أحد موظفي سفارة مصر في باريس وكان يضرب أخماسا في أسداس ، لأن السيدة مها صبري المطربة المشهورة في تلك الأيام والمتزوجة من سكرتير المشير عبد الحكيم عامر قد اشترت فى أثناء زيارة عبد الحكيم عامر إلى باريس «بالطو» من الفراء الثمين ، كان ثمنه يزيد على عدة آلاف من الجنيهات ، كان الموظف يضرب أخماسا في أسداس ، لأنه لا يعرف كيف يسدد قيمة هذا المبلغ في الدفاتر الرسمية ، وأخيرا اهتدى إلى تسجيل ثمن البالطو على أساس أنه ثمن جرائد قرأها الوفد الذي صحب المشير في زيارته !!!!!.

وأستمع لي د. أحمد بمحبة وتفهم ، وظل يناقشني فيما استطيع ولا استطيع..

وهبط علينا يوم الخامس من يونيو 1967، فبدت مصر كلها وكأنها تناولت عقار «السرنييل»؛ هذا العقار الذي أصر أستاذ الطب النفسي سير أوبري لويس أن يتناوله الأطباء المعالجون بمعهد الطب النفسي التابع لجامعة لندن، لمساعدتهم في التفريغ الانفعالي ، لأن أحدا لن يعمل في الطب النفسي في ذلك الزمن دون أن يُجري له تحليلا نفسيا دقيقا . وحين تناول أحمد عكاشة هذا العقار أخذته الهلاوس إلى رحلة قديمة ، رأى فيما يرى الغائب عن الوعي كيف كان طفلا يحب الرحلة الأسبوعية التي تأخذه فيها أخته إلى سجن الأجانب ليزورا زوجها أحمد أبو الفتح أثناء القبض عليه بتهمة العيب في الذات الملكية . وكان أحمد عكاشه يحب تلك الرحلة لأن شقيقته ستتركه يأكل من الشيكولاتة كما يحب ، ولن يقول له أحد:كفاية كده . لقد أكلت مصر كلها شيكولاتة تمتلئ بمادة غير مرئية و تصيب من يأكلها باختزال وجود الوطن في شخص رجل أحب مصر وأحبته هو جمال عبد الناصر ؛ لكن اختيارات جمال عبد الناصر لمن يحيطون به اتسمت بضرورة وجود مسافة هائلة في الذكاء والعلم وحسن التقدير ؛ وتلقى جمال عبد الناصر في يوم الخامس من يونيو عقابه الذي تنبأ له به زميل من المقاتلين الذين حاربوا في فلسطين ، وأصيب في عينيه ؛ ففقد البصر ، ودرس علم النفس والتحليل النفسي في فرنسا وصار أستاذا لعلم النفس في كلية التربية، الرجل هو الأستاذ الدكتور صلاح مخيمر الذي قال لعبد الناصر بعد انفصال سوريا عن مصر : يا معلم الشعب إن الذين حولك كالمرايا يعكسون الضوء الصادر منك إليك ويعطون الوجه الأسود للشعب .

سألت أحمد عكاشة أيامها : ألن تهاجر إلى أدنبره حيث ينتظرك كرسي أستاذية في الجامعة التي تخرجت فيها؟ قال مبتسما بثقة : سأكون بالقاهرة ، وأشاهدها وهي تستخلص الجديد من القديم ؛وأراها معك وهي تنقد الجديد بحساسية ؛وتستكشف آفاق الشجاعة الداخلية في المريض النفسي ليبني رحلة بناء الشفاء.

....................

لا تنتهي الأسئلة ؛ بل تختفي قليلا ؛ لتطل من جديد. وتتحول تلك الأسئلة إلي طاقة هادئة تجعله يبدأ وجوده في أي مكان بهمسة الخطوات التي تحمل ضوء ما. كأن لتلك الأسئلة قدرة علي خلق هالة من ضوء خاص يحيط بصاحبها. والضوء يمكن أن يختزنه الإنسان في أعماقه؛ إذا ما شعر أنه مقبول ممن حوله ، وإذا استطاع أن يحتفظ بمسافة بين كلماته لتعبر عما يريد فعلا ؛ وأن ينطق الكلمات التي تشرح ولا تجرح ؛ تستفسر ولا تدعى احتكار الحقائق؛هنا يشع الضوء المختزن في الأعماق بالجاذبية الشخصية.

....................

و إذا كان زماني قد أهداني صداقة مع هذا العالم ، فانا اشعر بالامتنان لأننا لم نتأخر أبدا عن أن نذبح بالكلمات ذلك الوحش الذي نخاف منه جميعا؛ واسمه الموت، لأننا في كل لقاء كنا نحاول استخلاص من خبرة الحياة ما يعطيها الاستمرار والبهجة ، رغم ما في كرتنا الأرضية من أشواك من نار وأزهار من نور.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق