صعد واحد من آل الجمال إلى رحاب الجمال الأعلى. أبو المعاطى أبو النجا.. نال من عطاء البديع ومواهبه, لكنه ظل قابعاً فى ركنٍ وحده, جمالاً إبداعياً يكاد يكون سرياً, من زهده فى ضوء الفلاشات الصناعى المؤذى للعين, مفضلاً عليه نور الإلهام.
ولهذا, مع أنه من قمم الإبداع القصصى والروائى فى مصر والعالم العربى, لا يعرفه الكثيرون. أبو النجا الذى حين بلغنى خبر صعوده, انتابنى شجن يشبه شجن الحنين للصبا: تذكرت روايته التى كانت فاتحة اطّلاعى على الأدب الحقيقىّ, وصعودى من قارئ لأدب الأطفال والفتية لأحد متذوقى الإبداع الأعلى؛ عطاء كبار الكتاب. كانت تلك الرواية هى «العودة إلى المنفى» التى أصدرتها روايات الهلال فى جزءين, ربما فى عام 1970 إذا لم تخنى الذاكرة, أو قبل ذلك بقليل. اجتاحتنى الرواية كالعاصفة؛ كالحب الأول, أو المشاهدة الأولى للشمس الحمراء وهى تنعس فى حضن البحر, وتنطفئ تدريجيا كأنها تطفئ شمعة بجوار الوسادة وتستسلم للأحلام.
كانت «العودة إلى المنفى» بالنسبة لى هى روعة الاكتشاف: للأدب الكبير, ولشخصية بطلها عبدالله النديم, الأديب الأدباتى الذى صعد إلى رتبة صحفى رائد مجاهد, فخطيب للثورة العرابية, وانتهى هارباً تطارده سلطات الاحتلال.
ثم مرت سنوات كثيرة, صرت فى أثنائها, بفضل «العودة إلى المنفى», قارئا مدمنا مزمنا للأدب. ولأن أبا المعاطى كان زاهداً فى الاضواء والشهرة, لم تقع فى يدى أعمال كثيرة من إنتاجه, حتى أسعدنى زمانى بمجموعة قصصية له قرأتها فى نحو منتصف الثمانينيات, ولم أعد أتذكر اسمها, لكنّ ما أتذكره جيداً إحدى قصصها؛ قصة انحفرت سطورها فى وجدانى, عن رجل تفترسه فى صمت حالة اكتئاب غلاّب هيمن عليه كلياً وقطع كل صلاته بالعالم, إلى أن اضطرته الظروف للسفر, فاستقل سيارة أجرة ريفية بالنفر, يتكدس فيها الناس حتى يكاد الواحد منهم أن يجلس فوق الآخر. هذا الزحام الخانق فى دقائقه الأولى سرعان ما يبعث فى كيانه البردان, من وحشة الحزن الانفرادىّ, ذلك الدفء العجيب المتولد من ائتناس الناس بالناس, ليتحول الحزين المنفرد إلى عضو فى جسد عملاق تضخ قلوبه المتعددة الدم الدافئ والأنس والأمان والمرح فى الجسد الجمعىّ.. وتذوب تلك العقدة المتكلسة المتشنجة بالألم فى الدم الشعبى الحار للمجموع.
إنها فى اعتقادى أجمل معزوفة أدبية عن الانتماء والاستدفاء والاستشفاء بالناس؛ عن آحاد كل واحد منهم بردان وحده وحزين, لكن الفقر الذى يصهر الأجساد ويحشرها فى سيارة الأجرة تلك, يجعل منها جسداً واحداً مؤتنساً بنفسه, يسرى دفؤه فى نفس الراكب العليل فيشفيه. قطعة من الشعر تعلن موقف كاتبها الاجتماعى, بلحظة مكثفة هى درس فى مجال القصة القصيرة, ونموذج عالٍ وفريد لكيف تُكتب.
هى منقوشة داخلى, وإن غاب اسمها عنى.
رحم الله الجميل الذى كان أستاذاً لى ولغيرى فى صنعة الجمال.
رابط دائم: