رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

اكلة سمك

رضا البهات
أخذت أم العربي تذكر خنّوفة الأبرص بائع السمك في قعدة النساء وعلامات أدبه . وقلة أدب الباعة الآخرين الذين يغازلون النساء بكلمات صريحة . خنوفة مؤدب وبقية الرجال عينهم فارغة بالذات السريحة القادمون من المدينة .

يعرف الجميع خنوفة .. فهو خنوفة فعلاً , وأبرص فعلاً فوق أنه قصير يجلس كل صباح علي أول الكوبري بمشنة سمك وميزان أثقاله من الطوب . وهو من زادها قرموطاً فوق الميزان قائلاً .. يستاهل شفايفك . لم تبتسم أول الأمر ثم ابتسمت ابتسامة من لها زوج مريض وهو سليم حتي لا يقول مثل هذا الكلام .. ويوم رآها خنوفة منحنية علي المشنة رمى بقرموط صغير في عبها قائلاً .. شفتي , سمكى صاحي بيلعب . نهضت أم العربى وأمسكت بالقرموط بين قدميها قائلة :

- يا راجل يا ناقص , دانت متجوز اتنين والله أعلم بالباقي .

كان كل فجرية يخرج مبللاً من البحر يقلب (الجوبية) ويلبس الجلباب والطاقية ويصفق بيديه صائحاً .. اصطبحنا واصطبح الملك لله .. وظلت هي تذهب إليه مبكراً . إلي حد أن ظلت تطعم أبناءها وزوجها الأرز والسمك زمناً .. وحين طبخت كشرى فول , قلب زوجها الطبلية وصاح غاضباً .

- أنا عارف إنك من زمان (...) وإن أنا عرص , بالذمة ده أكل معرصين . والله ما ينفع حتى أكل موظفين حكومة .

ما حدث هو أنها رأت خنوقة ذات يوم يحرك قرموطاً في وجه صبية تعرفها . بينما البنت تبعد بوجهها وتضحك . فقلبت له أم العربي المشنة , وقالت إنه يغش في الميزان , ويبيع السمك البايت علي أنه صابح وبهذا انتهى أمره .

ذات يوم من أيام الفرج قلّبت أم العربي السمك في الردة ورصته فوق المطرحة . وظلت رائحة السمك المشوى تملأ الدار . ثم جعلته في عدة لفات من ورق الجرائد , ثم لفتها في جلباب قديم . وعهدت إلي البنت الكبيرة بحفظه لحين يصحو الأب المريض . فوضعتها البنت في قفص جريد معلقاً في السقف وربطت الحبل . وكانت أم العربي تزن البنت بعينيها والتي كانت أردافها إلي حين ممسوحة . اليوم صارت ثقيلة تسير مثل جمل المحمل . فتنتوى لها موظفاً معيناً سيدفع فيها مهراً كبيراً . فإن اعترضت أمه قالت لها أنتو واخدين بنت متعملة . ودراعها أد كده – وتوسع لهم دائرة أصابعها – وكمان معاها الدبلون .

قالت لها البنت الكبيرة أنهم أخدو في المدرسة أن أكل السمك بسفاه ورؤوسه يذهب البرد عن العظم . وهو ما لا يفهمه الأولاد الذين يأكلون فقط ظهور السمك حاف .

أخيراً استيقظ الأب , ثم علت من قلب الكرار صرخة وجاءت البنت وهي تصوت وملأ الجيران الصالة . رأوا قطاً كبيراً أشقر الشعر ينقافز ثقلاً إلي السطوح في جزل . وإذا بقفص الجريد لفائفه مفكوكة والجلباب يتدلى من القفص .

وكان أن عادت أم العربي إلي طبيخ أي شيء . كشري أصفر , كشري فول , كشري بطاطس . وجميعها لا أكثر من أرز في بعض مما يسرقه الأولاد من أي غيط . بغير أن ترسلهم يملخون خط خبيزة أو كرنبة مع حجرين طماطم .. المهم ألا تبقى الحلة فارغة .. عدا الأب المريض . يقف له الصغار بالباب ويطالعونه وهو يميل حلة الشوربة بالليمون في فمه ويمضغ نسيرات الفرخة بوهن وتلذذ .

فيقول أحدهم .. الدكتور هو اللي كاتب له عليها .. ويظلون بانتظار ما يبقي من طعامه .

من هذا اليوم , أعلنوا الحرب علي كل القطط .. بالذات الأشقر منها .. وكل ليلة يجوبون الأسطح والخرائب والأماكن المعتمة . إلي أن جاء أحدهم صائحاً .

- ف بيت حميدة العورا .. شفته

ما أن رآهم القط وكان عالياً كفهد غزير الشعر حتى جري وهو ينظر وراءه مثل آدمي هارب . إلي أن وقف لهم فوق السطح مقوساً ظهره رافعاً ذيله , وهو يزوم ويبخ مستعداً لهم .

- ده قط براوى , غريب عن قطط البلد .

- بس ناخده علي خوانه لأن اللي زى ده ضربته والقبر .

غافلهم القط الضخم راكضاً إلي الخلاء المليء بالحشائش والجرذان والخنافس . وإذا به يميل بفمه ويحش الأعشاب ويمضغ .. قط براوى يأكل الأعشاب . كان هذا كافياً لأن يجرئهم عليه بعدما ظنوه مفترساً . وجعلوا يتندرون علي قط براوى جائع يأكل الحشائش .

ركض القط مختبئاً بالسطح . وحميدة عجوز مقعدة تلبس المداس في يديها وتزحف . رأت الأولاد يندفعون من الباب فأخذت تصرخ

- والله ما حيلتي حاجة . خدو اللي أنتو عاوزينه وبلاش تموتوني يا ولاد الشراميط .

في لحظات كانوا علي السطح , يقذفون القط السمين بأي شيء , إلي أن غافلهم إلي غرفة خالية مظلمة وفي الزاوية وقف متحدياً بعينين تضيئان . صوب أحدهم بِشْلة انرشقت في إحدى عينيه . سقط بعدها مرة واحدة والدم يشر من وجهه . تلاحقهم صرخات الخالة حميدة وهي تراهم يجرجرونه من ذيله خارج الدار راسماً خطاً من الدم .. فأخذت تلاحقهم بشتائمها ..

- تتيتمو بدري .. أشوف فيكو يوم .. إلهى يدهسكو قطر الضبابة يا ولاد الكلاب .

نولع فيه .. قال أحدهم .. فتركوا القط بجوار السكة الحديد ليجمعوا الحطب . غير أنه نهض وقفز مهرولاً ليختبئ بين العربات المهملة . وبعد حين عاد يسير بخطوات متعرجة كسكران . يتعثر بأي شيء ورأسه سائبة تتهز هز فوق عنقه . إلي أن سقط في بركة ماء . فأخذ يضرب بأطرافه حتي خرج . وسار بطيئاً إلي سور المحطة حيث وقف ثابتاً للحظات . قاذفاً من فمه دفعات من قيء أخضر كالبرسيم .. لحظات , وأعقبتها دفعات من ماء أصفر . ثم ألصق نفسه بالحائط وقاء دماً قليلاً . هدأ بعدها وتهاوى في مكانه مغمضاً عينيه مثل إنسان ينام .

في عتمة الغرفة , بدا نور الله ناعماً كالحرير .. دافئا كنور الشتاء . كانت تدور بعقل الولد الصغير الأمنيات .. لماذا يارب لا تجعلنا نأكل ونركب العربات .. سأحفظ لك قرآنك وأنغم به صوتي وأنا أتلوه في المآتم وعلي الطرب .. سأكون واعظاً أدعو الناس إليك . حتي ولو لم تذقني الطعام لأيام . فأنت أكبر من كل شيء , ويمكنك أن تجعلنا سعداء شبعانين . وتجعل أبي قوياً يشخط وينطر كالآباء .. وسأصلي لك في المواعيد .. لا , سأصلي لك طول الوقت . في الظلام سمع همس أمه تدندن بأغنية .. متجوزينى يا أمه .. حاضر يا ولدى

تنّك تقولي حاضر .. لما خَضّر شنبى

بكره سوج التلات .. لأرهن لك حلجى

واخطب لك بنت الباشا .. يا أعز ولدى .

توقفت عن الغناء سائلة .. إيه يا ولا , انت بتكلم نفسك وأنت نايم ؟

قال الصغير ..

- أما شفت لك حتة منام . أنا وأنتى قاعدين على حاجة زى مصطبة , وفي ضهرنا الخلا ومدلدلين رجلينا في بحر كبير .. وبعدين وقعنا , ويجي الموج يشيل ويحط فينا ويمرجحنا لحد جوه البحر . خدك الموج بعيد وأنا أنده عليكي لحد ما بقيتي نقطة مش باينه .. فوق الموج واختفيتي .

كانت الأم قربته قائلة .. يخيبك عيل , يتحبني يا ضنايا أد كده , الأحلام كلها خير حتي ولو كانت غرق وموت .. كلها خير .. والنبى لأجوزك بدري .. بس إوعي تقف بعد كده علي السطح وتطرطر علي خالتك حميدة المشلولة .. أو اسمعك تقول للعيال حميدة العورا .. دي كريمة العين بس عليها قضية .. عارف ليه ! .. لأن الدنيا ممكن تقوم علي الكفر بس مش ممكن تنقام علي الظلم .

سأل الصغير :

- يعني إيه يا أمه ؟

- كنا بنشوي يا واد سمك , وجت قطة فضلت تنونو قامت خالتك حميدة راميه لها سمكة . كلتها ورجعت تنونو . رمت لها سمكة تانية .. كلتها ورجعت تنونو .. خالتك حميده اللي كانت ع المحمة . سحبت السيخ م الفرن ودبتو ف عينها . وقالت لها .. أنتي هتشتغليني .. عاوزة السمك كله . القطة جرت والدم بيشرشب منها . النسوان قالوا لها ربنا يلطف عليكى الليلة يا خالة حميدة .

فات كام يوم .. ودى بالليل تسمع لك هبد ع الباب . طلعت علي السلم بصت من فوق لقت سبع عساكر كل فلق وأخوه يعرش علي مندره .. عاوزين مين .. قالو لها .. مش أنتى حميدة بنت فوازة .. مشوار صغير . وسلسلوها وتنها وياهم لحد الخلا .. وهناك نزلوا بها سلم مفروش ببساط سندسي . كل كام سلمة يفتح لهم باب مقفول ويأذن لهم بالنزول . سبع أبواب بعدها لقت نفسها ف داير كبير وناس مرصصين . وفي وسط الداير قاعد قاضي واتنين زيه يمين وشمال .

تعالى يا حميدة , فين الشاكي ؟ طلعت من بين الناس بنت يتيمة حلوة زي فلقة القمر إنما كريمة العين وحافية وهدومها مقطعة .. إيه شكوتك ؟ شاورت علي عينها المقلوعة وقالت بس متنازلة عن حقى يا حضرة القاضي .

القاضي قال .. أمرنا بحقك يرجع لك .. وحق العدل يرجع له .. وأنتي عملتي كده ليه يا حميدة .

قالت .. ما كنتش أعرف إنها إنسية زينا وعاملة نفسها قطة .

القاضي مال علي عضو اليمين , ومال علي عضو الشمال . ونادي واحد م الحرس اللي كان جاهز بالسيخ ع النار ودبو ف عينها . وبعدين قال لها .. تفضلي كده يا حميدة سبع سنين لحد ما الحكم يترفع عنك . ومن يومها وهي علي دا الحال .

حينئذ سمعت أم العربى شخير النيام في الغرفة .. حتي الولد الذي كانت تحكي له الحدوته نام .

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق