رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

خطاب بوتين بين ثوابت السياسة الخارجية والاحتفاظ بـ «حق الرد»

د. سامى عمارة
ثمانى سنوات مع الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش، وأخرى مماثلة مع نظيره باراك أوباما.. أى 16 عاما مع اقطاب الادارة الأمريكية، هى عمر الرئيس فلاديمير بوتين على صعيد السياسة الدولية منذ اعتلى عرش الكرملين فى عام 2000، صاغت رؤيته لروسيا والعالم، وحددت ملامح توجهاته على النحو

الذى يتفق مع مصالح الدولة الروسية. هذه الفترة شهدت الكثير من الوقفات والتعرجات مع الشريك الأمريكى والتى كان بوتين استهلها بخطابه فى مؤتمر الامن الاوروبى الذى اعلن فيه رفضه لعالم القطب الواحد، وضرورة التحول الى العالم متعدد الاقطاب. وها هو يعود مؤخرا فى خطابه السنوى إلى الأمة ليؤكد تمسكه بما اعلنه في»عقيدة السياسة الخارجية الروسية»، محتفظا لبلاده بحق «الرد المتكافئ».

فى خطابه السنوى إلى الأمة عادة ما يوجز الرئيس فلاديمير بوتين تقديراته عما شهدته بلاده فى الفترة السابقة، ويحدد رؤيته لما يجب القيام به فى الفترة اللاحقة. ولذا فلم يكن غريبا ان يعود بوتين فى خطابه الاخير فى مطلع ديسمبر من هذا العام الى ما سبق واعلنه فى عام 2007 حول رفضه لعالم القطب الواحد وتحذيراته من مغبة الانسياق وراء محاولات الانفراد بالقرار الدولى بعيدا عن الشرعية الدولية. قال بوتين باستعداده للتعاون مع الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب. اكد انه لا يبحث عن الاعداء، بل وعلى النقيض من ذلك، اشار الى حاجته الى اصدقاء. اشاد بوتين بعلاقات بلاده مع الصين والهند واليابان، فى اشارة لا تخلو من مغزى الى تعقيداتها مع بلدان الاتحاد الاوروبى والولايات المتحدة، على خلفية العقوبات التى فرضتها هذه البلدان على روسيا فى اعقاب اندلاع الازمة الاوكرانية. وفى هذا الشأن، قال بوتين «ان الشراكة الروسية الصينية الشاملة أصبحت فى الظروف الراهنة الصعبة، من أهم عوامل الاستقرار العالمى والإقليمي». أكد بوتين «ان النهج السياسى النشيط لروسيا على الاتجاه الشرقي، لم يأت على خلفية معتقدات آنية ما، أو بسبب الفتور الأخير فى العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل جاء انطلاقا من المصالح القومية طويلة الأمد، ونزعات التنمية العالمية». ونذكر ايضا ان روسيا كانت اكدت فى اكثر من مناسبة اولويات سياساتها الخارجية التى قالت انها تقوم على «فكرة التكامل متعدد المستويات فى الفضاء الاوروآسيوى»، والتى يحاول بوتين تطويرها من خلال التعاون والحوار مع بلدان الاتحاد الاوروبي، التى ثمة من يقول فى موسكو أنها «أصبحت أكثر حاجة إلى نهج سياسى واقتصادى مستقل»، مستشهدا بنتائج الانتخابات الأخيرة فى عدد من الدول الأوروبية ومنها مولدوفا وبلغاريا والتى زادت من حدتها، نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية، ووصول دونالد ترامب الى سدة الحكم فى البيت الابيض . واشار بوتين الى اعتبار العلاقات الروسية الصينية نموذجا للعلاقات الدولية والنظام العالمى الجديد القائم على تعدد الاقطاب والابتعاد عن الهيمنة ومراعاة مصالح الآخر، مؤكدا ان بلاده لن تسمح بالتطاول على مصالحها الوطنية، محتفظا لها بحق الرد المتكافئ على اية محاولات تستهدف النيل من مواقعها او اى من مصالحها الوطنية. وفى معرض تأكيده لرفض محاولات التدخل فى شئون بلاده الداخلية، قال بوتين إن «المواعظ الخارجية تثير مللنا، لكننا لا نريد الدخول فى مواجهة مع أحد»، فى اشارة الى محاولات البرلمان الاوروبى فرض الحصار على مؤسسات روسيا الاعلامية، وتحديدا قناة «روسيا اليوم»، ووكالة «سبوتنيك»، بحجة انهما تمارسان «الدعاية المضادة»، وهو ما سخر منه بوتين من خلال دحض اتهامات الدوائر الغربية لروسيا بفرض «الرقابة» و»خنق حرية الكلمة». ونذكر ان بوتين قال ما نصه «إننا ضد أى احتكار، من نمط الحديث عن ادعاءات البعض بشأن «خصوصيتهم»، أو محاولاتهم تعديل قواعد التجارة العالمية بصورة تناسبهم، أو تقييد حرية التعبير وفرض الرقابة على مجال الإعلام العالمي». وفى نبرة تتسم بالكثير من السخرية قال بوتين «ان الغرب، الذى كان يتهم موسكو بفرض رقابة على وسائل الإعلام داخل البلاد، بدأ بنفسه يمارس الإجراءات نفسها التى زعم أنها مطبّقة فى روسيا».

وكان بوتين اسهب فى خطابه فى الحديث عن قضايا الداخل، من خلال استعراضه لما تحقق على صعيد تزايد حجم الصادرات الزراعية التى بلغ حجمها ما يقرب من 17 مليار دولار، فضلا عن ازدياد احتياطيات بلاده من الذهب والعملات الصعبة وارتفاع نسبة صادرات السلاح، رغما عن وطأة العقوبات الاقتصادية، التى يجمع المراقبون فى الداخل والخارج على انها كانت حافزا اضافيا من اجل تاكيد ضرورة الاعتماد على القدرات الذاتية، وزيادة دعم مراكز الابحاث العلمية، وقطاعات التعليم والصحة والاسكان، بعيدا عن الاغراق فى «ترف استيراد الكماليات»، والركون الى عائدات الصادرات الوطنية من الغاز والنفط والمعادن، وهو ما حظى باهتمام المراقبين فى الداخل والخارج ممن اعتبروا ان الاهتمام بقضايا الداخل، يظل فى صدارة مفردات السياسة الخارجية للرئيس بوتين. وقد كشف الرئيس الروسى عن ذلك من خلال ما قاله حول انه لن يقبل اية ضغوط على بلاده سواء فى المجالات الاقتصادية او العسكرية او السياسية، مؤكدا قدراتها على مواجهة اية محاولات للنيل من مواقعها او مكانتها. وطرح الرئيس بوتين اقتراحه حول ضرورة تضافر الجهود من اجل بناء منظومة جديدة للعلاقات الدولية فى القرن الحادى والعشرين، فى نفس الوقت الذى اشاد فيه بالجهود التى تبذلها القوات الروسية فى سوريا وما تقوم به اجهزة الامن والمخابرات من جهود فى الداخل لمواجهة المؤامرات الاجنبية واخطار الارهاب.

ولذا فلم يكن غريبا ان تعلن موسكو فى مطلع ديسمبر الجارى عن تصديق الرئيس بوتين على «العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية». فلم تكن السياسة الخارجية ومنذ جاء بوتين الى سدة الحكم فى مطلع القرن الجاري، بمنأى عن عملية الاصلاح الشاملة التى بدأها فى اطار برنامجه لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. كان بوتين مطالبا بالبحث عن الصياغات المناسبة لانقاذ روسيا من تبعات اخطاء سلفه بوريس يلتسين واستمرائه الارتماء فى احضان الغرب فى اعقاب انهيار الاتحاد السوفييتى السابق. وفى هذا الصدد نذكر ان الرئيس بوتين بذل الكثير من المحاولات لتحقيق هذا الهدف من خلال سياسات اتسمت فى بداياتها بطابع المهادنة والتعاون مع نظرائه وفى مقدمتهم جورج بوش الابن. وقد تجلى ذلك فى مواقفه من مكافحة الارهاب الدولي، وفى ما قدمه من تسهيلات فى بلاده وبلدان الكومنولث، للولايات المتحدة والناتو فى اعقاب احداث 11 سبتمبر 2001 . غير انه سرعان ما ادرك ابعاد ومغبة اصرار الادارة الامريكية على مواصلة سياسات «القطب الواحد» ومحاولات تحقيق الهيمنة خصما من الشرعية الدولية وصلاحيات الامم المتحدة، وهو ما دفعه فى وقت لاحق الى اعادة النظر فى الكثير من سياساته وتعاونه مع الشريك الامريكي.

ولذا كان من الطبيعى ان يتحول الرئيس الروسى الى نهج مغاير يحاول من خلاله تأكيد مواقع بلاده واصرارها على اعلاء الشرعية الدولية ورفض هيمنة القطب الواحد، وليصيغ «عقيدته الجديدة للسياسة الخارجية» انطلاقا من مصالح روسيا واهدافها الوطنية. وتكمن اهم خطوط السياسة الخارجية الروسية فى «صياغتها الجديدة» فى ان «روسيا لا تعترف باية فعاليات عابرة للقارات من جانب الولايات المتحدة خارج اطار القانون الدولي، ولا تقبل محاولات فرض الضغوط العسكرية والسياسية او اى اشكال اخرى من الضغوط وتحتفظ لنفسها بحق الرد بشدة على اى تصرفات غير ودية ، بما فى ذلك دعم امنها القومى واتخاذ الاجرءات على كل ما تراه خطرا على مصالحها الوطنية، لكنها على استعداد لبناء علاقات بناءة مع الولايات المتحدة». وتؤكد الصياغة الجديدة كذلك ان روسيا تنطلق فى ذلك من التطور المستدام والشفاف للحوار مع الولايات المتحدة سواء فى قضايا العلاقات الثنائية ، او فى القضايا ذات الاهمية العالمية، على اساس التكافؤ والاحترام المتبادل للمصالح وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للغير»، وكلها مبادئ تبدو على وفاق مع ما تضمنه ميثاق الامم المتحدة وكل المواثيق الدولية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق