كان يحلم بأن يكون طبيبا وأديبا مثل الدكتور يوسف إدريس فكتب القصة القصيرة وحصل علي المركز الثالث في الجامعة. لكنه بدأ يتوق إلي فلسفة دكتور زكي نجيب محمود، فكتب المقال وحصل علي المركز الأول علي مستوي الجمهورية.
......................................................
منذ هذه اللحظة أختار الشاب صلاح سالم الفكر والفلسفة طريقا والفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود أبا روحيا وفكريا. كان ارتباطه به غير عادي رغم أنه لم يقابله إلا مرة واحدة في الجمعية الفلسفية. فعندما قرأ له آخر مقال والذي كان بعنوان «تغريدة البجعة» فوجيء بنفسه ينخرط في بكاء شديد لايعرف له سببا، لكن زكي نجيب محمود توفي بعد هذا المقال بشهر واحد!
تعرف صلاح سالم علي فيلسوفنا الكبير في المرحلة الإعدادية فقرأ له تجديد الفكر العربي وثقافتنا في مواجهة العصر. وقد لعب الأب الملقب بالشيخ محمود الحاج شيخ قرية ميت الشيخ بالغربية دورا حاسما في تنشئة الابن ثقافيا فاشتري له أعمال يوسف إدريس الإبداعية ثم كتب الدكتور زكي نجيب محمود ويظهر أن الأب كان يدرك مدي صعوبة كتب فيلسوف الوضعية المنطقية فكان يكافيء الابن بـ 25 قرشا، كلما قرأ كتابا للفيلسوف الكبير. وشغف صلاح سالم بالفلسفة حد العشق، ولم يكن يرق لدموع أمه ويترك كتب الفلسفة حتي أيام امتحانات الثانوية العامة.
ورغم ذلك نجح بتفوق ودخل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ثم التحق بالعمل في مؤسسة الأهرام وأصدر أول كتاب له بعنوان «تجليات العقل العربي» وبكي عندما أمسكه بيده أول مرة ووضعه في حضنه ينام معه لمدة أسبوعين.
وكان كتابه الثاني «تحولات الهوية والعلاقات العربية التركية» عزيزا عليه لأنه أهداه جائزة الدولة التشجيعية وعمره 33 عاما فقط. والذي طبق من خلاله مفهوم الجدل الهيكلي علي الحالة التركية.
وجاء كتابه «التفكير السياسي العربي» أول محاولة للكتابة في الفكر العربي متأثرا بالمفكر الكبير محمد عابد الجابري، ثم كانت الإنتقالة الفكرية الكبري مع كتاب «محمد نبي الإنسانية» لأنه أصبح البداية لدراسة الأديان، فأتبعه بكتاب «كونية الإسلام» ثم انفتحت أمامه الأفاق علي دراسة أديان التوحيد الثلاثة فكان كتاب «المشترك التوحيدي والضمير الإنساني»، ثم اللاهوت التاريخي والخطاب الارتقائي للعقلانية التوحيدية، والذي يعد بمثابة تطبيق لنمو الضمير البشري وارتقاء العقل الإنساني عبر الشرائع الثلاث.
وبعد أكثر من 20 كتابا يمكن لفيلسوف جيلنا الذي يبلغ من العمر 46 عاما تقريبا أن يكشف عن فلسفته التي يشرحها قائلا: إيماني الخاص أن أبقي شاهدا علي العالم بدلا من التصارع فيه، وهذا يقتضي أمرين أحدهما يتجذر في مفهوم بوذا عن اللا تعلق، وهي فكرة تقول علي الإنسان أن يقلل من احتياجاته إلي الأشياء ومن شغفه بالاستهلاك وتطلعه المادي ليبقي قادرا علي امتلاك مصيره وحرية إرادته. الأمر الآخر يتجذر في مفهوم الواجب عند كانط ، ويعني ذلك أن تسلك أخلاقيا بما يتفق مع كونك إنسانا حتي مع غير الأخلاقي لأنه في النهاية يبقي إنسانا:، إيمانا بأن كل الفضائل البشرية تنبع من الطبيعة الإيجابية للإنسان بغض النظر عما يعتنقه من أديان أو ينتمي إليه من هويات وطنية أو قومية .
وكذلك تنبع كل الشرور والرذائل من الطبيعة السيئة للإنسان بغض النظر عن الانتماء الديني أو الوطني.
ومن جماع اللاتعلق البوذي والواجب الأخلاقي ؟ أتصور ما أسميه »بالإنسان المتسامي«
وهو إنسان تتجسد فيه الطبيعة الأخلاقية للبشر استنادا علي ثلاثة مكونات أساسية.
أولها الإيمان لأنه من غير روحانية تربط عالم الشهادة بعالم الغيب تبقي هناك ثغرة في ممكنات التسامي عند الإنسان .
المكون الثاني هو الحب: لأنه الجسر الأفقي الذي يربط بين البشر علي الأرض وهو انعكاس للجسر الرأسي الذي يربط علاقة البشر بالله والسماء. والشخص القادر علي الحب هو نفسه القادر علي الإيمان والقادر علي الإيمان الباطني هو نفسه القادر علي الحب.
الإيمان ليس الإيمان بالإله فقط ولكنه يشمل الإيمان بالقيم والمثل الإنسانية التي يؤمن بها من لا يؤمن بوجود إله.
المكون الثالث: الشوق الي المعرفة والرغبة فيها والسعي إليها يجعلها أكثر اقترابا وتفهما للحقيقة الإنسانية وللتباين بين البشر فنكون أكثر قبولا وتعاطفا مع هذا الاختلاف.
المكون الرابع: الفن بكل أشكاله لأنه قطعة تمثيلية مكثفة للوجود البشري يمكن الإنسان من اكتشاف نفسه. ومن ثم اعتبره هيجل المرحلة الأولي في اكتشاف المطلق.
ولكن هذا الإنسان المتسامي أصبح يواجه ظاهرة الإنسان الوظيفي أي الإنسان الذي ليس له قيمة في ذاته، ويكتسب قيمته من أداء وظائف للآخرين، قد تكون وظائف سياسية أو إعلامية أو ثقافية تجعل منه نجما مشهورا، وتكون قيمته السوقية كبيرة فيما لا تزيد قيمته الإنسانية عن الصفر.
وهو نقيض للإنسان المتسامي ولكن للأسف فإن مثل هذا الإنسان الوظيفي صار يرقص الآن علي كل مسارح مصر.
بمايعني أننا مجتمع مأزوم يفتقد القدوة ويعاني من الانحطاط.
وصلاح سالم الذى يبدو ببسطا فى طرح أفكاره السابقة ليس هكذا دائما فهو فيلسوف عميق، صعب يحتاج الي أن تحشد نفسك له تماما، وهو لا يؤمن بالبساطة مثل زكي نجيب محمود ولكن شديد التعقيد مثل هيجل يؤمن بأن الفيلسوف في حاجة الي شراح، ولا يفهمه كل الناس.
تأثر بجمال حمدان وإستراتيجيته في الكتابة التي تقوم علي التكثيف الشديد والرؤية الواسعة مع تعدد وتشابك مجالات المعرفة، وخصوصا الربط بين الثقافة والإستراتيجية، حتي يعد نصه متعد الهويات.
وكان التأثير الأشد عليه من الفيلسوف كانط لأنه يملك ـ كما يقول ـ أهم نسق فلسفي قابل للحياة وخاصة أن النسق الهيجلي المثالي وانساق أخري مثالية ومادية بدت عاجزة عن مواكبة حركة العقل، لكن النزعة النقدية عند كانط تبدو موقفا جدليا بين المثالية والمادية، وموقفا توفيقيا بين العقل والإيمان هو الأبرز في الفكر الغربي. وعبقرية ـ كانط - يقول صلاح سالم. أنه جاء في مرحلة الدين الطبيعي يعد نيوتن حيث تأليه الطبيعة وبداية الإلحاد.
والأهم أن لديه نسقا أخلاقيا جوهره أنك لو تصرفت كإنسان بما تقتضي القيم الإنسانية سوف تصبح كائنا أخلاقيا ساميا. ثم استدل علي ذلك بأن الأخلاق الإنسانية جزء من تكوين العقل العملي.
كأنه أوقف الفكر الغربي علي قدميه وهو نقطة الذروة في التنوير والنقطة التصالحية بين العقل والإيمان. فقبل كانط كان من المستحيل القول إنك مسيحي وعقلاني والأهم أنه أقام تصورا مشروعا للسلام الدائم يتسق مع نسقه الأخلاقي وقاعدة الحرية للأوطان.
كما تأثر بالمؤرخ الكبير أرنولد تويني لأنه فلسف التاريخ وأسهم في تطور علم تاريخ الأفكار وهو ما قاده إلي موقف تسامحي شديد، فلم ينظر لعبدالناصر كديكتاتور ولكنه نظر إليه كمعبر حقيقي عن روح مصر وتطلع الشرق للنهضة. كما أبدي تقديرا شديدا للحضارة المصرية باعتبارها نمط راق في الاستجابة لتحديات البيئة. واعتبرها حضارة رائدة.
حصل فيلسوف جيلنا علي العديد من الجوائز فبعد جائزة الدولة التشجيعية حصل علي جائزة دبي 3 مرات، كما حصل علي جائزة مبارك عام 2009 عن كتاب »كونية الإسلام« ولكنه تعرض هذا العام لموقف شديد الصعوبة عندما تقدم لجائزة الدولة للتفوق بـ20 كتابا، واتصل به بعض أعضاء اللجنة ويهنئونه بالفوز.. وكان أبرز المرشحين معه دكتور عبدالخالق فاروق.. لكنه فوجيء بأن الجائزة ذهبت للمستشار عبدالمجيد محمود النائب العام الأسبق!
وهو ما يعد ضربة قاسية للإنسان المتسامي من الإنسان الوظيفي وهذه المرة تأتي الضربة من وزارة المفروض أنها المسئولة عن الإنسان المتسامي.. الوزارة أسمها وزارة الثقافة!
رابط دائم: