رسالتى لا تعدو أن تكون وصفا لشعيرات بيضاء لاحظتها فى رأس زوجتي، وكأنها تحادثني، وتحكى لى كيف كانت، وكيف ابيضت.
الأولى: عندما كانت زوجتى دون العشرين كان شعرها أسود فاحما ناعما ينسال على كتف قوية لواحدة من بطلات ألعاب القوى حصلت على بطولات الجمهورية والجامعات خمس سنوات متتالية، وزحفت إليها بياضات الشيب مبكرا بالشعرة الأولى عندما تعرفت عليها فى إحدى كليات القمة التى جئت من الإسكندرية للدراسة بها فى المحافظة التى تسكن فيها، وقد زاملتها ثم أحببتها، وعملنا فور تخرجنا فى مؤسسة صحفية أسسنا بها مركزا للدراسات والأبحاث، وكانت هى الأولى دائما على دفعتنا، وتتناوب هذا الترتيب مع زميل آخر، وكنت أنا فى الترتيب الأخير، ثم بدأنا معا خطوات الترجمة التى احترفتها منذ ذلك الوقت وجمعنا مبلغا لا بأس به دفعناه مقدما لغرفة نوم وسددنا الباقى على ثلاث سنوات، واعتمدنا على أنفسنا دون أن نأخذ مليما واحدا من الأهل، وساعدنا الأصدقاء بما تيسر لكل منهم، وتمكنا من شراء المتطلبات الضرورية، وأخذت حجرتى السفرة والصالون الخاصتين بأبى وأمى وجددتهما وبدأنا مسيرتنا فى الحياة!
الثانية: تسلل إليها المشيب بعد ثلاث سنوات من الزواج، وكانت وقتها معيدة بالجامعة، وسكنا فى شقة بحارة جاد الكريم فى عزبة «أبى قتادة» القريبة من الجامعة، أما أنا فقد عملت من الثامنة صباحا حتى الثانية ظهرا مسئولا عن النشر الثقافى فى دار شهيرة بشارع أحمد عرابي، ثم مترجما فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون من الثالثة حتى التاسعة مساء، وأخيرا موظفا باستقبال فندق معروف بالزمالك من العاشرة حتى الرابعة فجرا، وأعود بعدها إلى البيت لأنام ساعتين، قبل أن أصحو لأواصل المسيرة فى يوم جديد، وتحملتنى زوجتى ثلاث سنوات وبعدها استقلت من الفندق، ودب خلاف بينى وبين ابنة صاحبة دار النشر، فأقالونى منها، وقد رزقنا الله بعد تسعة أشهر من الزواج بابنتنا الأولي، وكان الأسبوع كله يمر علينا وليس لدينا من طعام سوى مكعب لمرقة الدجاج، وكسيرات خبز مقدد، وكنا نغلى الماء ونضع فيه المرقة والخبز، ونأكل من هذه الطبخة البسيطة ونحن فى قمة السعادة، وكثيرا ما كنا نلجأ إلى بسكويت ابنتنا بعد أن تنام لنكمل به عشاءنا، ولم ألحظ كيف تسرب المشيب إلى هذه الشعيرة!!
الثالثة: ابيضت بعد ثلاث سنوات من ولادة ابنتنا الثانية التى أصررنا على تسميتها «مصر»، ووقتها دخلت مسابقة فى التليفزيون لأترقى من محرر إلى رئيس تحرير فى قطاع جديد، ورغم اجتيازى كل اختبارات اللغات والحاسب الآلى، فقد تبين أن اللائحة لا تسمح بأن أصبح رئيسا للتحرير لأننى لم أتجاوز سن الثامنة والعشرين، فقدمت استقالتى لكنهم رفضوها، فحصلت على إجازة دون راتب، وسافرت إلى اليونان لمدة عام، ثم إلى إيطاليا أربعة أعوام، وتركت زوجتى وابنتي، وكن يلحقن بى فى الإجازات، ثم انتقلت إلى دولة خليجية رافقننى فيها أربعة أعوام، ثم دولة أخرى لمدة عام، وكانت زوجتى نعم السند والمعين، وظللت فى غفلتى عنها زوجتى، فلم ألحظ شيب الشعرة الثانية، لما ذاقته من متاعب السنين.
الرابعة: عندما مرضت أمى وكبر أبى قررنا أن نترك الغربة، وكان راتبانا وقتها قد وصلا إلى عنان سماء الرواتب فى الخليج، والحقيقة أننى ترددت بعض الشىء فى تقديم استقالتي، فإذا بها تسبقنى إليها، وهنا حدثت نفسي: كيف يتردد الابن، ولم تتردد زوجته فى قرار يتعلق ببره بأبويه، وعدنا إلى مصر، وكان عملنا بالقاهرة، لكن أمى تشبثت بالبقاء فى الاسكندرية، فاشتريت بمدخراتى سيارة، وحولتها إلى الغاز الطبيعي، وكنا نسافر يوميا من الاسكندرية إلى القاهرة من أجل تلبية رغبتها، ثم جاء الفرج ورضيت أمى بالانتقال إلى القاهرة بعد عام كامل، وسكنت فى شقة بمدينة مايو, وتحملت زوجتى كل هذه المتاعب وهى صابرة.
الخامسة: ابيضت حين وقفت زوجتى وابنتاى على غسل أمى عند وفاتها وسترها حتى واريناها الثري، وهى راضية عنى قيراطا، وعن زوجتى أربعة وعشرين قيراطا، وبدأت زوجتى بعدها فصلا جديدا فى خدمة أبى أطال الله عمره.
وإننى اليوم أقف عاجزا أمام انسانية من لا أجد لها مثيلا بين البشر، فلم يعرفها أحد إلا وأحب الدنيا لأنها فيها، ولدى يقين بأننا سندخل الجنة، فلقد ابتلاها الله بمثلى فصبرت، ورزقنى بمثلها فشكرت، والصابر والشاكر فى الجنة بإذن الله.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
إنها الزوجة الصالحة التى قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم» إذا نظر إليها زوجها سرته، وإذا أقسم عليها أبرته، وإذا غاب عنها حفظته فى ماله وعرضه «نعم يا سيدى فزوجتك تتصف بكل الخصال الحميدة، وفوقها علاقتها الرائعة بأبويك، أمك رحمها الله، وأبيك أطال الله عمره، فلقد قدمت لهما الكثير منذ تخليها عن وظيفتها فى البلد العربي، وتحفيزك على أن تصنع صنيعها، وفعلت ذلك ابتغاء رضا الله سبحانه وتعالي، ويكفيها سعادتها الروحية، ونجاحها فى بيتها وعملها، وهى نموذج أرجو أن تحتذى به كل الزوجات اللاتى يسعين منذ اللحظة الأولى للزواج إلى قطع الأواصر والعلاقات مع حمواتهن وأهالى أزواجهن، فكثير من حالات الطلاق يرجع السبب الرئيسى فيها إلى عدم موافقة الزوجات على صلتهم، ويخيرن أزواجهن إما الطلاق، وإما البعد عن الأهل.. أما الشعيرات البيضاء التى تتحدث عنها فلا تدل على شيب، فالشباب هو شباب القلب والروح، ومهما ابيض الشعر تبقى القلوب شابة بعطائها ورضاها.. أسأل الله أن يديم عليك سعادتك مع زوجتك وابنتيك.. إنه على كل شىء قدير.
رابط دائم: