رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

كلمة 2016... «الكذب السياسى»

رسالة لندن ــ منال لطفى
هذا أمر معقد بقدر تعقيد العام. فـ2016 شهد دراما سياسية غير مسبوقة في الغرب على رأسها تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الأمريكيين دونالد ترامب رئيسا لامريكا. وبخلاف هذين الحدثين كان هناك صعود لافت لليمين الاوروبي والتوجهات المناوئة للعولمة والرافضة للحدود المفتوحة والمهاجرين، مع تصاعد غير مسبوق للنزعات القومية.

فكيف يمكن تلخيص كل هذا في كلمة؟. قاموس اكسفورد وجد الامر صعبا، لكن ليس مستحيلا وأختار الكلمة التي أعلنها «كلمة العام» المعبرة عن المناخ السياسي السائد والحالة الثقافية والمزاجية للعام وقضاياه وهي: «ما بعد الحقيقة» Post Truth.

كيف تلخص عام 2016 في كلمة؟

كلمة «ما بعد الحقيقة» لا تعني ببساطة نشر الأخبار أو القصص الكاذبة، بل تعني تلك «الثقافة السياسية التي يتشكل فيها النقاش العام عبر العاطفة والمشاعر وليس من خلال الحقائق الموضوعية». ووفقا لهيئة قاموس أكسفورد فإن «ما بعد الحقيقة» Post Truth واحد من التعبيرات التي تشكل زمننا المعاصر، لكنها اخذت بعدا جديدا مع حملة استفتاء بريطانيا للبقاء أو مغادرة الإتحاد الاوروبي في يونيو، ثم مع الانتخابات الامريكية في نوفمبر الجاري. ففي الحدثين لعبت المشاعر والعواطف (الخوف-الكراهية-الغضب-اليأس-العداء للآخر) الدور الأكبر في التأثير على قرارات الناخبين، أكثر مما لعبت الحقائق الموضوعية والتفكير المنطقي.

اختيار «كلمة العام» هو تقليد اكسفوردي قديم ويتم اختيار الكلمات المرشحة لإعتلاء القائمة النهائية القصيرة عبر تحليل الخطاب السياسي والثقافي العام، الذي يكشف عن أكثر الكلمات انتشارا وتأثيرا خلال العام أو الكلمات الجديدة التي دخلت القاموس للتعبير عن تحولات أقتصادية وسياسية وثقافية. وفي هذا السياق تلاحظ هيئة قاموس اكسفورد أن كلمة «ما بعد الحقيقة» ارتفع استخدامها 2000% في عام 2016 مقارنة بعام 2015. ويقول جاسبر جراسول رئيس «قاموس اكسفورد» إن اختيار الكلمة لم يكن مفاجئا أو صعبا بعد عام ملئ بالمعارك السياسية الملتهبة. ففي استفتاء بريطانيا على البقاء أو الخروج من الإتحاد الأوروبي في يونيو الماضي لعبت المشاعر والمعتقدات الشخصية دورا كبيرا في تشكيل وتكوين الرأي العام أكثر مما لعبت الحقائق والمعلومات الموضوعية.

فقصص مثل أن تركيا، بتعداد سكانها البالغ 90 مليون نسمة غالبيتهم من المسلمين، ستنضم للاتحاد الأوروبي بحلول عام 2020، لعبت دورا في تصويت الكثير من البريطانيين بالخروج من الإتحاد «خوفا» من «الزحف التركي» على بريطانيا. كما ساهمت قصة مفادها أن ميزانية بريطانيا للاتحاد الأوروبي وقدرها 350 مليون جنيه استرليني اسبوعيا سيتم انفاقها على نظام الرعاية الصحية إذا خرجت بريطانيا من الإتحاد، في دفع البريطانيين للتصويت بالخروج «أملا» في انفاق ذلك المبلغ على نظام الرعاية الصحية.

ولا يمكن اغفال تأثير الملصق الذي نشره نايجل فاراج زعيم التيار القومي اليميني البريطاني على الحافلة التي أستخدمها خلال الحملة والذي يصور طابورا طويلا من المهاجرين السوريين على حدود أوروبا مع تعليق «نقطة الإنهيار»، لا يمكن اغفال تأثير هذا الملصق على مزاج الناخبين المتخوفين من تأثيرات الهجرة.

اما استخدام الرئيس الامريكي المنتخ ب دونالد ترامب تعبيرات مثل «المغتصبين» و«المجرمين» لوصف غالبية المهاجرين من المكسيك فلعب دورا كبيرا في تصويت الامريكيين له «خوفا» منهم و«املا» في طردهم. انها أكاذيب ودعايات تلعب على الافكار المسبقة والصور النمطية ويمكن تصديقها ببساطة لانها تتلاءم مع معتقداتنا او مخاوفنا او صورنا الذهنية عن عرق أو دين او لون او جنس. وربما لم يتم اللعب على المشاعر القومية والأفكار النمطية أكثر من العقد الحالي. ومن هنا كان صعود الكلمة من جديد. فكلمة «ما بعد الحقيقة» ليست جديدة في القواميس، فهي مستخدمة منذ نحو 20 عاما لكن الارتفاع الهائل في معدلات استخدامها أعادها للواجهة. ووجد قاموس اكسفورد أن التعبير استخدم لأول مرة 1992 في مقالة في مجلة «الامة» The Nation الامريكية. فقد استخدم الكاتب المسرحي الامريكي ستيف تازتش كلمة Post Truth في مقالة عن فضيحة «ايران كونترا» وحرب الخليج الأولى. قائلا:»نحن كشعب حر، قررنا بإرادتنا الحرة أن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة».





ومع أن تعبير «ما بعد الحقيقة» اختير من ضمن قائمة قصيرة لكلمات صعدت او صكت عام 2016 تعبر عن التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية. إلا ان القائمة القصيرة نفسها تضم الكثير من الكلمات المعبرة عن تحولات 2016. ومن ضمن الكلمات التي وضعها قاموس اكسفورد في قائمته القصيرة لكلمة العام تعبير Brexiteer ويشير إلى الشخص الذي أيد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. وكلمة Alt-right التي تشير إلى الجماعات المؤيدة للأفكار اليمينية المتطرفة.

وكلمة Woke وأفضل ترجمة عربية لها هي «استيقظ» وهى باتت شائعة وسط الامريكيين من أصل افريقي وتعني أن يكون الشخص مدركا ومتابعا لما يدور في مجتمعه خاصة فيما يتعلق بالعنصرية وانعدام العدالة.

وكلمة Chatbot وهي تعبير جديد يشير إلى برنامج كمبيوتر مصمم لبدء محادثة مع الأفراد الذين ينتظرون الرد على اتصالاتهم الهاتفية. وهي خدمة بدأتها بنوك وشركات كي لا يشعر عملاؤها بالمملل من الأنتظار على التلفون. وكلمة Hygge وليس لها ترجمة بالانجليزية، وهي تعبير دنماركي بات شائعا وشعبيا في أوروبا يشير إلى حالة «السعادة المتناهية» أو «قمة الرضاء». مثلا عندما يصل الانسان إلى منزله ويرفع قدميه على المقعد ويشاهد مسلسله المفضل أمام المدفأة في يوم برد ومعه كوب من الشيكولاتة الساخنة بعد يوم عمل طويل.

اختيار «كلمة العام» ليس إذن تدريبا لغوي محض، بل ثقافي-اجتماعي-سياسي. فهناك تفاعل بين الكلمات والثقافة وعام 2016 تجسده بامتياز كلمة «ما بعد الحقيقة». لكن لا يمكن فصل كلمة «ما بعد الحقيقة» Post Truth كظاهرة سياسية -اجتماعية -ثقافية عن الارتفاع الهائل في معدلات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار. فغالبية مواطني العالم اليوم، خاصة ممن هم بين 15 إلى 30 عاما يعتمدون تقريبا بشكل كلي وحصري على وسائل التواصل الاجتماعي ويثقون بها أكثر من ثقتهم في وسائل الاعلام التقليدية التقليدية أو المسؤولين السياسيين. فهذا العام شهد أيضا تزايدا غير مسبوق في نشر الأخبار الكاذبة والملفقة على مواقع التواصل الأجتماعي التي تلعب بشكل واضح على العواطف والمشاعر لصنع الرأي العام، أو تستخدم عناوين نارية أو مثيرة من أجل تحقيق نسبة تفاعل عالية وبالتالي زيادة العوائد المالية أو احداث تغيير في الرأي السياسي. ومن الأخبار الكاذبة على فيسبوك التي حققت نسبة تفاعل كبيرة سواء عبر «الايك» أو «شير» او «التعليقات»:

-الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب ولد في باكستان. (أكثر من نصف مليون لايك وشير).

-الممثل الامريكي دينزل واشنطن يعلن دعمه لترامب (أكثر من نصف مليون لايك وشير).

ـأحد محققي الـ «ف بي أي» في قضية تسريبات رسائل هيلاري كلينتون وجد مقتولا-منتحرا (أيضا تم التفاعل معه على فيسبوك اكثر من نصف مليون مرة).

-بابا الفاتيكان يصدم العالم ويدعم ترامب للرئاسة. (ظل هذا الخبر لمدة 3 أشهر أكثر الأخبار تفاعلا على الفيسبوك بأكثر من مليون شير ولايك). ووفقا لموقع BuzzFeed فإن الأخبار المزيفة المتعلقة بالانتخابات الامريكية حققت أعلى نسبة تفاعل وتعليق على الفيسبوك من كل الأخبار الصحيحة على أكبر 19 موقعا اخباريا امريكيا مجتمعة. فكيف يتم نشر الأخبار المفبركة ولماذا؟ تنشر تلك الأخبار على مواقع انشئت فقط وحصريا لنشر «أخبار كاذبة» لتوليد ايرادات مالية من رواد الموقع أو للتأثير السياسي. ومن هنا تكون العناوين الصادمة او المفاجئة هى الطعم الجاذب. وللتغطية على الشبهات حول الموقع، تبدأ الكثير من القصص بـ:»اعلنت سي ان ان» أو قالت «بي بي سي» مع وضع العلامة التجارية او «لوجو» المحطة كي تعطي الخبر مصداقية. وفي كثير من الحالات، يتم دمج فقرات صحيحة بفقرات كاذبة في الخبر للتغطية على احتمالات كونه كاذبا. ومع انتشار الأخبار والقصص الكاذبة على جوجل وفيسبوك قررت إدارة الشركتين استخدام آليات لمنع نشر تلك الأخبار الكاذبة التي يقول عدد من الخبراء أنها يمكن ان تكون لعبت دورا في نتائج الانتخابات الامريكية.

وكان «فيسبوك» يصر مرارا على أنه شركة تكنولوجيا وليس ناشرا للأخبار، ويرفض فكرة أن يتحمل مسؤولية المحتوى الذي ينشره المستخدمون على منصته. ولكن بعد الانتخابات الامريكية وظهور حجم القصص الملفقة والكاذبة، قال مارك زوكربيرج رئيس الشركة إن «فيسبوك» بدأ في اتخاذ سلسلة من الخطوات للقضاء على المعلومات غير الصحيحة والأخبار الملفقة. ولخص سلسلة خطوات يجري تنفيذها حاليا ومنها استخدام أكبر لبرامج آلية «ترصد ما سيصفه الناس بأنه زائفا. وقال زوكربيرج إن الشركة ستستهل عملية الإبلاغ عن محتويات زائفة وستعمل مع منظمات وصحفيين في جهود التحقق من المعلومات والكشف عن التدوينات ودراسة مسألة وضع علامات تحذيرية على المحتويات التي تصنف بأنها زائفة.

يصر زوكربيرج على أن نسبة الأخبار الملفقة والكاذبة على فيسبوك لا تتجاوز 1%. لكن هذه ليست هى النقطة، فحتى لو كانت هذه النسبة صحيحة، وهناك شكوك كثيرة في صحتها، يظل المعيار ليس نسبة القصص المفبركة على الموقع، لكن نسبة التفاعل معها. وهذه هى المعضلة، فنسبة التفاعل مع الأخبار الكاذبة أكبر بكثير جدا من التفاعل مع الأخبار «المملة» الصحيحة. وهذا طبعا تحد هائل لوسائل التواصل الأجتماعي، لكن أيضا لوسائل الاعلام التقليدية. فكلما كانت القصة جانحة وبلا أي أساس من الصحة كلما تم التفاعل معها وتداولها بالملايين. وكلما أدت القصة للبكاء أو الضحك أو الخوف أو الغضب، أكثر من التفكير، كلما تم تداولها أكثر.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق