أنا صحفى شاب نشأت فى أسرة تضم ستة أفراد، وكان أبى مديرا بالتربية والتعليم، وأمى معلمة فى المجال نفسه، وكرسا حياتهما لتربيتنا ورعايتنا، وكان كل همهما أن يجدانا سعداء
وناجحين فى الحياة، وسارت الأمور بلا أى منغصات، وسافرنا إلى دولة عربية قضينا بها أربع سنوات، وتعبت أمى وقتها بالتهابات فى الكلي، وخضعت للعلاج لدى طبيب شهير، ولم يثنها مرضها عن متابعتنا وتوجيهنا، ومرت السنوات واشتد المرض بها، واضطر أبى إلى السفر بمفرده إلى دولة عربية أخري، وكنا وقتها نقترب من الثانوية العامة، وسافرت وقتها معه لأكمل دراستى هناك، وكان شقيقى الاكبر فى الثانوية العامة، فلم يحصل على المجموع الذى يؤهله للالتحاق بكلية الطب التى كانت رغبته ورغبة أمي، فأعاد السنة والتحق بها وكانت فرحة عارمة عمت الأسرة برغم الآلام الرهيبة التى تعانيها، وتبعته بمجموع كبير أهلنى لدراسة الإعلام، ثم التحق أخى الأصغر بكلية السياحة.
وذات مرة وفى أثناء خضوعها للفحص الطبى قرر الطبيب المعالج إجراء عملية زرع كلية جديدة لها من متبرع بعد فشل كليتيها تماما، وبالفعل أجريت لها الجراحة وعادت إلى سابق عهدها تحوطنا بعطفها وحنانها ورعايتها، وعملت صحفيا والتحقت شقيقتى الصغرى بكلية الطب ثم شقيقى الأصغر الذى تخرج أيضا فى كليته، ومرت الأيام وتزوجت وصارت لى أسرة صغيرة، وتزوج شقيقى الأكبر وسافر إلى الخارج لاستكمال دراساته العليا، وبكت أمى كثيرا لبعده عنها، وبعد حوالى عام من سفره، هاجمتها آلام الكلي، ونقلناها إلى المستشفي، ورحت أنا وشقيقتى الطبيبة ننتقل من غرفة إلى أخري، ولم تتوقف دموعنا لحظة واحدة، ونحن نرى أمنا تقترب من الموت، واستجمعت قواي، ودخلت عليها غرفة العناية المركزة، فوجدتها غائبة عن الوعي، فانفجرت فى بكاء مرير، ودخل الطبيب الحجرة فربت على كتفى وأخذنى إلى الخارج، فلقد صمتت أمى إلى الأبد، وأدخلوها إلى المغسلة وتأملت وجهها بعد الغسل، فوجدتها تبتسم.. أى والله العظيم، فقسمات وجهها تظهر نورا شديدا يزداد مع نظراتى إليها فقبلتها وجلست إلى نفسى أستغفر الله، وقضت ليلتها فى قبرها، أما أنا فقد غبت عن الحياة، ومرت الأيام ونسيت طعم السعادة، وسكن سواد الدنيا فى أعماقي، وسرى فى جسدى حزن دفين وكبت عميق، وجفت بداخلى دماء الحياة.
بقى أن أقول لك إنه مرت على رحيل أمى تسعة أعوام لكن رائحتها مازالت عالقة فى «خياشيمي»، ولم أزرها فى قبرها طوال تلك السنوات خوفا من أن تتجدد الأحزان، وأخيرا توجهت هذا الأسبوع إلى محافظتى، وذهبت إلى قبرها، وتذكرت الماضى بكل أفراحه وأحزانه، وظللت أحدثها بصوت مرتفع والدموع تنهمر من عينيّ.. أمى إننى مشتاق إليك، أريد أن أراك، فأنا أشعر بأننى ميت يمشى على قدميه، والله لم تفارق صورتك خيالي، وفجأة أفقت بعد وقت طويل على أننى وحدى وسط المقابر، فجررت جسمى وعدت إلى بيتى لكن صورتها ماثلة أمامى ولا أدرى كيف ستمضى بى الحياة؟.. فماذا أفعل؟.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
فى قصتك مع أمك درس كبير لكل الأبناء بما يجب عليهم تجاه الآباء والأمهات، حتى بعد رحيلهم عن الدنيا، فبر الوالدين يستمر بعد موتهما بالدعاء لهما، وإنفاذ وصيتهما، والصدقة باسميهما، والحج والعمرة إن لم يرزقا حجا أو عمرة، وقضاء الدين عنهما، وإيفاء الحقوق التى عليهما، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما، وأحسب أنك أديت كل ذلك عن أمك رحمها الله، فاهدأ بالا بما صنعت، وثق أن من أنجبت أبناء بارين بها لن تشقى أبدا فى قبرها، فلقد أدت ما عليها ولقيت وجه ربها آمنة مطمئنة.
والارتباط الروحى بينك وبينها ليس بزيارة قبرها، وإنما بالترحم عليها والدعاء لها، وإذا زار الإنسان القبور، فليزرها متعظا لا عاطفة، فالأولى دائما أن يزورها للعلة التى ذكرها النبى صلى الله عليه وسلم، وهى تذكر الموت والآخرة، فهؤلاء الذين تمتلئ بهم القبور كانوا بالأمس على ظهر الأرض، والآن أصبحوا فى بطنها، مرتهنين بأعمالهم، لا يملكون زيادة حسنة، ولا إزالة سيئة، ويشترط لجواز زيارة القبور ألا يسافر إليها لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.. المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى».
إن الترحم على والدتك من أعظم أعمال البر التى يمكن أن تقدمها لها، فاستغفر الله عن بكائك ونحيبك الذى لن يفيدك، وربما يؤثر بالسلب على حالتك النفسية، ولتعلم أن زيارة قبرها ليس شرطا فى البر بها، فبإمكانك الدعاء لها وأنت بعيد عنها، وأذكرك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فادع لوالدتك ـ رحمها الله حيثما كنت بعيدا أو قريبا، وإياك والسقوط فى دائرة الحزن والبكاء، وفقك الله وسدد خطاك.
رابط دائم: