أن يصرح رئيس مجلس الوزراء المهندس شريف اسماعيل في لقائه كبار كتاب مصر بتزايد نسب الفقر علي مستوي الدولة لتصل الي معدلات عالية هذا العام، تلامس 30% في الدلتا، و 56% في الصعيد، لهو كلام في منتهي الخطورة والجدية،
خاصة حينما يؤكده التقرير الأخير للجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء التابع لمجلس الوزراء، وهو يدل دلالة يقينية لا تحتمل الشك ولا تبعد عن اليقين ولا تخفي علي مراقب أو متابع للأحوال ببر المحروسة علي أن تزايد معدلات الفقر ونسبه في مصر يرمز إلي أن أقاليم مصر الزراعية في الوجهين البحري والقبلي هي أكثر أقاليم مصر تعرضا لخطر الفقر وما يترتب عليه من أزمات العيش ومخاوف الستر، وأن المشروع الزراعي الذي عشنا علي أنغام أحلامه منذ أكثر من نصف قرن لم يعد يطرب ولا يغني ولا يوفر معني الاستقرار والديمومة، خاصة أننا رأينا بأنفسنا معاناة الفلاحين خلال السنوات الأخيرة في توريد محاصيلهم للدولة في ظل سياسات أفسدت المنظومة الزراعية من الأصل، ويكفينا ما تابعناه من مآسي قصص صوامع القمح وفساد التوريد لها، وهو المحصول الاستراتيجي، وكيف تدخلت فيه المحسوبيات والعلاقات الخاصة، وتسببت في خسائر للدولة قدرت بمليار جنيه، وخسائر للفلاحين بدرجة متساوية في مجموع محاصيلهم.
إن المشروع الزراعي المصري، والذي نتوسع فيه الآن بتخصيص المليون ونصف المليون فدان في أنحاء البلاد وتحديدا في الصعيد والواحات وتوشكي، لن يؤتي ثماره مادامت السياسة الزراعية في بلادنا، محكومة بالمجاملات والعلاقات والمحسوبيات، وبالفكر الروتيني المعقد، الذي يضيق علي الفلاح سبل معايشه، ومسالك حياته، فالدولة تدع الفلاح يقترض من البنوك الزراعية ليزرع أرضه من غير خطة واضحة لمساحات الزراعة المطلوبة، ونوعية المحاصيل التي تحتاجها، ودون إرشاد لمتطلبات الدولة نفسها، وفي النهاية يجد نفسه في حيرة من تصريف حصاده، أو توزيع نتاجه، ويخرج من المسألة برمتها مديونا للبنوك الزراعية، عاجزا عن بيع محاصيله في ضوء كثرة المعروض منها في الأسواق، وتوقف حركة التصدير للخارج بسبب التعقيدات من الدول المصدر لها ـالموقف الروسي الأخير نموذجا ـ وفي النهاية يزداد موقفه تعقيدا وفقرا، وتكون النتيجة هي نسب الرعب التي تخرج علينا ليل نهار من تضاعف معدلات الفقر في الأقاليم الزراعية في الوجهين البحري والقبلي، ومن تزايد جرائم البناء علي الأراضي الزراعية، بعدما أيقن الفلاح أن الأرض لم تعد تعطيه ولا تيسر له سبل المعيشة.
وهنا يطرح السؤال نفسه: إلي متي سندور في المتاهة نفسها، ونحن نتكلم عن معدلات الفقر الصادمة في بلادنا، والتي تتضاعف سنة بعد أخري ومتي تخرج الدولة من شرنقة التفكير التقليدي في خططها المستقبلية، وتفيق من غفلة الحركة في المكان الواحد، والعجز عن الانتقال إلي المربعات الخالية، وإلي متي سنغفل الواقع الحقيقي، وهو أن العالم حولنا يعايش نهضة صناعية حقيقية، يتحرك من خلالها إلي المستقبل الآمن، في حين باتت هذه النهضة عندنا حلما بعيد المنال، مع أننا عايشناه في يوم من الأيام، ولكنه للأسف لم يتكرر، يوم أن تجاوبنا مع معني فكر النهضة الصناعية إبان ثورة يوليو 1952 بالتوازي مع النهضة الزراعية، فابتنيت المصانع علي امتداد خريطة مصر كلها بداية من الإسكندرية شمالا (مصانع البترول والتكرير والاسمدة) ومرورا بقلاع الصناعة الراسخة لذهبنا الأبيض في كفر الدوار والمحلة الكبري وكفر الزيات ووصولا إلي قلب العاصمة في حلوان (مصانع الحديد والأسمنت والسيارات بمصانعها الشاهقة، ومنها إلي قلب الصعيد (مصانع السكر) في قنا، ومصانع (البترول والمنجنيز والفوسفات) في البحر الأحمر، والآن خسرنا كل شيء بعد أن أغلقت العشرات من المصانع أبوابها، خاصة مصانع الغزل والنسيج والأقطان، وسرحت العمالة النادرة، وفقدنا أهم مورد من موارد العملة الأجنبية التي كنا نصدرها للخارج (الأقطان والصناعات القطنية والغزل والنسيج) وعدنا نبحث من جديد عن توسعة الرقعة الزراعية علي حساب الحلم الصناعي!
إن حكومتنا مطالبة بإعادة النظر في استراتيجيات المستقبل، والاحتياجات الحقيقية للنهضة المطلوبة، والتنوع فيها، وخاصة في الوقت الراهن، ونحن نعاني نقص العملة، والأزمة الاقتصادية الأكيدة، وتعقد نوافذ التصدير، واعتمادها علي المنتج الزراعي الواحد، فلابد أن ننتهج أكثر من طريق وأن نستفيد من تجارب الآخرين في النطاق الصناعي ومخرجاته، الذي ضاعف من اقتصاديات عشرات الدول هذا العام، وأن ننفتح علي أصحاب التجارب في الخارج، والعقول المصرية المنتجة والمفكرة في الداخل بجامعاتنا ومراكز البحوث والأكاديميات العلمية، والكليات الصناعية والتكنولوجية، المهم أن تحرك قبل أن تتسع فجوة العجز المرعبة، وتتضاعف نسب الفقر الصادمة.
د. بهاء حسب الله
كلية الآداب ـ جامعة حلوان
رابط دائم: