رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

المحطة السابعة فى حياة طبيب نفسى كبير ولامع
عقارب ساعات العشق والخيانة

منير عامر
لم أتوقع أن يحدث لي ذلك في أول زيارة لي لمركز الطب النفسي بجامعة عين شمس الذي أسسه أحمد عكاشة لعلاج من لا يقدرون على نفقات العلاج النفسي بحالاته المستعصية، فالعلاج داخل المصحات النفسية صار باهظ التكلفة لا يقدر عليه إلا من يملكون الكثير من المال ،

أما متوسطو الحال فليس لهم مكان في مصحة اللهم إلا مستشفى العباسية أو الخانكة أو المعمورة بالإسكندرية . ولا داعي أن تسأل عن كيفية حياتهم داخل تلك المستشفيات ، لأن الدولة توفر الضروريات أما إمكانات الشفاء فتكاد أن تصبح صعبة لصعوبة كيفية التحكم في إدارة تلك المصحات . ولذلك بدأ أحمد عكاشة في تأسيس هذا المركز التابع للجامعة بأن حصل على قطعة أرض من وزير الأوقاف بعد أن كانت مقبرة تم نقلها إلى الإمام الشافعي كذلك ساعده على تخليص أوراقها وبنائها الفريق أول يوسف صبري أبو طالب محافظ القاهرة في أواسط الثمانينيات ، فابن الفريق يوسف طبيب نفسي مقيم بالولايات المتحدة وكثيرا ما حدثه عن مصحات تبدو مقبولة ، وبتكلفة بسيطة لعلاج المرضى النفسيين وأيضا علاج المدمنين ، لذلك ما إن سمع يوسف صبري أبو طالب فكرة المركز النفسي كبيت للعلاج بأجر زهيد ومجانا في بعض الأحيان وبتمويل من التبرعات الخاصة والعامة وأستطاع د. كمال الجنزوري توفير باقي البناء، حيث أنها كانت للدولة ، وتقدم مصطفى أمين بنصف مليون جنيه من تبرعات ليلة القدر في خلال أسبوعين من مقابلة د. عكاشة له . ولم يتوقف حينها أحمد عكاشة عند تفاصيل خلاف مصطفى أمين مع صلاح نصر مدير المخابرات العامة إبان عصر عبد الناصر هذا الرجل الذي ألف موسوعة لا يجب أن يجري تجاهلها في أيامنا تلك عن الحرب النفسية والحرب الاقتصادية، وقد قام أحمد عكاشة بالمراجعة العلمية لكتابي الحرب النفسية بعد أن طلب صلاح نصر من زميله ثروت عكاشة أن يقوم الطبيب النفسي أحمد عكاشة بتلك المراجعة . وطلب أيضا أن يختبر أحمد عكاشة قدرات بعض من يحتاجهم الجهاز الحساس في عمليات معينة. وكثيرا ما ضحكت مع أحمد عكاشة سائلا إياه « كل ما نشر عن صلاح نصر كان يفرض عليك علاجه أولا من إتهامه بالهوس الجنسي كما أشيع « قال د. أحمد : لم يطلب أدنى مساعدة طبية ، والطبيب النفسي لا يقدم خبرته في العلاج إلا لمن يطلبها ، ونفس ما قيل عن صلاح نصر من هوس جنسي، قيل ايضا عن الذي قام بأكبر عملية هدم سواء في شخصية صلاح نصر أو في رجال عصر عبد الناصر وهو الكاتب مؤسس أخبار اليوم مصطفى أمين ؛ وهو من يضم متحف المخابرات قضيته المكتملة الأركان للتجسس لحساب الولايات المتحدة ، وقد خرج من السجن بعد أن منحه أنور السادات العفو الصحي بناء على رجاء تلاميذ الكاتب الكبير للسادات في ليلة زفاف أبنته. وحين فكر في منحه عفوا شاملا ، جاءه من يشرح له استحالة ذلك لأن قضيته تدرس في معاهد المخابرات محليا وعالميا فصار العفو صحيا . وطبعا انتقم مصطفى أمين من عصر عبد الناصر بأكمله عبر جوقة اكتشاف الخطايا والأخطاء . وقام عبر تأسيس مشروع ليلة القدر كي يقدم القادرون في المجتمع مساعداتهم للضعاف . وكان ذلك له أثر كبير لمكانة مصطفى أمين على مستوى العالم العربي كله .

كان المهم بالنسبة لأحمد عكاشة أن يؤسس مركز الطب النفسى الذي يمكن أن يعالج شابا مدمنا أو سيدة من أسرة متوسطة أو إنسانا طحنته ظروف الحياة بين الرقي والخفض ، وبين المتعة والذنب فباتت روحه محاصرة في هلاوس تحتاج إلى إعادة ترتيب وبناء جسور للواقع في قدراته ليعود مقبولا .

..........................

ولمحت عيوني تلك السيدة وهي عجوز متهدلة تسافر عيونها إلى غروب لا يصل بها إلى الموت ولا يعود بها إلى ما حولها من واقع ، فهي تنادي كائنا اسمه « توني» وقد رأيته في منزلها كمدرب ومدلك جاء من روما وعاش عاشقا لها في الظل وقت أن كانت متزوجة في السر من شخصية لها من النفوذ ما يمكنه إزهاق روح أي كائن يناقضه ، ثم جاءت الهزيمة في يونيو 1967 لتطيح به من الحياة كلها . ولقائي بها كان عام 1965 بناء على دعوة منها بسبب إعجابها بشخصيات تم علاجهم نفسياً. وعندما علمت الكثير عنها كان الابتعاد هو خير أسلوب للتعامل مع من تملك نفوذا يمكن أن يدهسني .

طبعا ضاع الجمال وضاعت الثروة وهبط الهوس لتتحدث إلى الفراغ . كانت رؤيتها سببا لتدور بي الأرض كدوامة فكدت أترنح من فرط الدوار. وتماسكت ليتم لقائي مع د. عكاشة ثم لأخرج إلي سيارتي ولا أعلم كيف قدتها . ولتدور في رأسي كلمات أحمد عكاشة عن أستاذه في لندن «سير أوبري لويس» أستاذ الطب النفسي الكبير الذي كان من أوائل أساتذة الطب النفسي المؤمنين بأن الفنون والآداب من قصة ومسرحية وشعر ولوحة وتمثال وموسيقى هي المفاتيح الأساسية لفهم الإنسان ؛ متزنا أو مضطربا. وكان «أوبري لويس « هو أول من استقبله في لندن حين ذهب ليدرس الطب النفسي هناك ، ويتذكر أحمد عكاشة أن الأستاذ الكبير طلب منه شراء و قراءة كتابين للكاتب التشيكى كافكا بعنوان «المحاكمة» و«القلعة» وبعض مسرحيات شكسبير ؛ ليحلل الشخصيات. لكن أحمد عكاشة قال ضاحكا للأستاذ: كنت أستطيع أن أقرأ هذه الروايات في بلدي ، دون أن أحضر إلى إنجلترا ، اللهم إلا إذا كان لهذه الروايات علاقة بالطب النفسي ؟ فقال الأستاذ كلمات محفورة في رأس أحمد عكاشة : أنت تريد أن تعالج أعماق الإنسان بما فيها من شروخ وجروح داخلية ، والروايات والمسرحيات والقصائد واللوحات والتماثيل والموسيقى والباليه والأوبرا ، كل تلك الفنون إنما تعرض أوجها متعددة لروح الإنسان . وأنا لن أغير طريقتي في التدريس لمجرد أنك قادم من بلد الكولونيل ناصر ، وقد تكون هناك خصومة بين ناصر وبين ساسة إنجلترا ، وقد يكون هناك تاريخ من الألم عند كل مصري بسبب احتلال إنجلترا لمصر لمدة سبعين عاما، ولكن مادمت قد جئت لتدرس معنا ، فسوف تدرس كما ندرس نحن ، ثم إنك تدرس أيضا درجة الدكتوراه في الأمراض الباطنية ، لأن الطبيب النفسي لابد أن يجيد التشخيص ، ليعرف الفارق بين من يعاني توترا وغضبا بسبب ارتباكات المعدة ، وبين من يعاني من غضب عنيف لأنه يشعر أن أحدا لا يحتاجه .

ترى هل عانت هذه المرأة التي سبق وأن كتبت عنها بعد زوال خطرها ؛ بأنها عبثت بالكثير من العلاقات الطارئة ، وامتلكت من النفوذ ما يفوق أي خيال ثم انتهزت فرصة موت عبد الناصر ونمو بثور من انتقموا من زمانه ، فكانت ضمن المنتقمين . لكن العلو والانخفاض وتقدم العمر ونفاذ الثروة جاء بها إلى مصحة الطب النفسي شبه المجانية .

كانت كلماتها للدكتور احمد تتكرر في رأسي «لماذا وضعت شريحة كشريحة المحمول داخل رأسي ؛ هذه الشريحة أنبتت لي ذيلا .. ألا تراه ؟» ضحك د. عكاشة قائلا لها : ليس لك ذيل .

تركتنا لتسير إلى غرفتها أو إلى عنبر النوم . وهي تتحدث بصوت عال: «الدكتور لا يرى ذيلي رغم أنه هو الذي قام بتركيبه لي بعد تركيب شريحة المحمول داخل مخي». أقول للدكتور عكاشة: « لعلها تقصد أنك تدخلت بشكل أو بآخر في مقدمة الجبهة حيث أنك قلت لي من قبل أن بها منظما عاطفيا رقيق كأنه شريحة موبايل . ضحك د. عكاشة متسائلا: «هل إنتقلت إليك الهلاوس منها ؟ إنها تتحدث عن شريحة الكترونية أنبتت لها ذيلا . وهذه ضلالات و هلاوس لا أكثر ولا أقل . ويتم علاجها منها هنا بعد أن أودعها أقاربها . لكن ألا تلاحظ أن التقدم التكنولوجي دخل ضمن ضلالات المرضى ؟ . أقول : قديما كنا نجد مثل هذه المرأة وهي تتحدث عن كائن ينظر إليها وهي عارية ويحكي عن تفاصيل جسدها لأنه من صنف الجن وليس من نوع الإنس. وقد رأيت معك حالة كهذه في مستشفى العباسية . وكان علاجك لها أيامها فيما أذكر بحقنها بإبرة دواء ما زلت أذكر اسمه .. هلوبريدول .. ثم إبرة أخرى هي «موديكيت» ولا أعلم الجديد في علاج الهلاوس في أيامنا التي تزدحم بالتليفون المحمول والفيس بوك والتويتر ، ويمكنها أن تعود تلك السيدة لتحكي عن تفاصيل اكتشاف من تزوجها وهو في السلطة بحكاية علاقتها بالعشيق توني ، وأنه يفكر في قتلها .. لذلك هي تحتمي منه بالبقاء في المصحة . يبتسم أحمد عكاشة: من عيوب مهنة الصحافة أنها تكشف لصاحبها أحيانا عن جوانب من الضعف البشري الذي يمارسه بعض رجال ونساء القمة فيعتبرون ذلك فرصة لكشف عيوب أهل القمة . ويتناسى الصحفي أن على رف أي مكتبة عامة هناك روايات شكسبير وكافكا وتشيكوف وديستوفسكي وهي كلها تكشف ألوانا من الضعف البشري . فالإنسان المثالي يوجد في الخيال وحده وليس منا من ليس له الوان من الضعف البشري .وهو سمة غالبة .

أقول : ولكن الضعف البشري لشخصيات تقود مجتمعات هو أمر لا يليق .

يقول : أنت تذكرني بضرورة كانت مفروضة على القيادة المصرية حين ترشح محمد مرسي لمنصب رئيس الجمهورية ، وكان الكثير يعلم حقيقة إصابته بأورام في الفص الجبهى من المخ استدعت استئصال أجزاء من مخه ، ومن منطقة يتحتم وجودها سليمة ليتصرف بما يليق ، ولذا تميز سلوكه أثناء حكمه بالانفلات النفسى. ولعل ذلك كان السبب في أن لجنة الانتخابات قررت ضرورة الكشف الطبي والنفسي على الصحة بأوجه أشكالها لمن يتقدم كمرشح لمنصب الرئيس .

أقول: أنت قمت مع لجنة بالكشف النفسي على كل من المشير عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي وحوالي عشرة آخرين كانوا مرشحين لرئاسة الجمهورية.

قال : أقول لك بمنتهى الثقة ان الثبات الانفعالي والتفكير النقدي المسئول عن المنطق وحل الأزمات للرئيس السيسي وتآزر العمليات العقلية لديه يبلغ مستوى عاليا للغاية، فضلا عن دماثة خلق بلا افتعال . وكل العمليات النفسية التي جرى الكشف عليها أثبتت سلامة وظائف الفص الجبهى .

..........................

ظلت المرأة التي تشكو من نمو ذيل لها تسيطر على أفكاري . وأجزم أن لكل منا تاريخا يتعلق به ويبدو كذيل لا يراه أحد سواه. فالتجارب الحياتية بما فيها من توتر وصخب وفرح وحزن ، وانتصار وهزائم تبدو في ذاكرة أي منا كالذيل المتوهم عند هذه السيدة ابنة الحارة الشعبية والتي لمعت على سطح المجتمع بفضل مهنة التمثيل، واصطادها أحدهم ليقدمها على مائدة الترفيه، فنالت إعجابا إلى حد الهوس من أحدى الشخصيات وعقد عليها بعقد زواج ، ولكنها أدمنت علاقة جانبية.

ترى هل كانت الجاذبية العاطفية مع المدرب الإيطالي سببا في الخلل الوجداني الذي عانت بالرضوخ الجسدي للشخص القوى الذي انتمت إليه بالزواج ، ثم هبط عليها جسر الهروب من الواقع بتلك العلاقة مع المدرب الإيطالي ؟ لم يجب أحمد عكاشة على سؤالي ذلك ، كما لم يجب عن سؤال كبير ضباط أمن الدولة بعد القبض على الريان بطل قضايا توظيف الأموال ، فقد كنت موجودا بمكتب د. أحمد عكاشة ومعي صديقنا المشترك الراحل الدمث الطبيب النفسي محمد شعلان، وكان ضابط أمن الدولة يسأل د. عكاشة : كلما سألنا الرجل عن وسائل تهريبه للأموال كان يقول: « زوجوني بمراة تهبني السعادة وأنا أقول لكم أين الأموال .. فهل هذا الرجل مجنون ؟ أريدكم أن تكشفوا على قواه العقلية «طبعا بعد الكشف كانت الإجابة أن الريان مسئول عن تهريب وضياع أموال المودعين . أما قصة الجنون بسبب العجز الجنسي ؛فتلك مسألة أخرى . كان الكثير يعلمون أن الريان استأجر مأذونا ليعقد له عقد زواج مع أي جميلة تستهويه فيمنحها من المال مهرا كفيلا باستحالة أي رفض له ، وكان معه اثنان من الأصدقاء يضعان بطاقة تحقيق الشخصية في الجيب الأمامي لقميص أي منهما ، وما أن يعقد القرآن حتى يطلق أحدهما زغروته ويتم إعطاء المأذون مكافأته . وطبعا كان رجل توظيف الأموال غير قادر على مواصلة الاستمرار في أي علاقة زوجية ، لذلك يطلق العروس بسرعة ، والمأذون موجود والشهود موجودون وإبراء المطلقة لهذا الزوج موجود أيضا . والغريب أن صديقي الريان اللذين شهدا على عقود زواجه قاما باستئجار مجموعة من البلطجية كي يأخذوا من منافذ الريان بضائع كالمواشي والأخشاب ليبيعوها بأي ثمن عندما وضعت الدولة محاولة لرد بعض الأموال لمن يحملون صكوك إيداع لأموالهم ، وكان الريان قد أعطى صكوكا بالملايين لصديقيه شاهدا الزواج . وقامت بينهما خناقة استدعت تدخل الشرطة حين أراد مسئول أحد المخازن أن يعطي أحدهما خمسة آلاف قصرية بلاستيك لتبول وتبرز الأطفال .

ولعل تلك الوقائع ومثيلاتها كانت الدافع للطبيب النفسي الكبير أن يضع كثيرا من ألوان السلوك تحت منظار يكشف عن إنها ثقوب في الضمير العام للمصريين المعاصرين .

وطبعا كان لابد من تنبيه المجتمع إلى الفجوات والصدمات بين الأبعاد الثلاثة للشخصية، البعد الأول هو الصورة الذاتية التي يعتقد الإنسان أنها صفاته التي يراها عندما يخلو منقبا عن ملامح سلوكه . والبعد الثاني هو صورته الاجتماعية وكيف يقيم من حوله شخصيته ، وقد يكون تقدير المجتمع للشخص مختلفا عن صورته التي يعتقدها أنها تعبر عنه ، أي تختلف مع صورته الذاتية ، والبعد الثالث هو الصورة المثالية التي يصبو الواحد للوصول إليها. ويعتمد نجاح الفرد _ أو المجتمع _ على التآزر بين الصور الثلاث مضافا إليهم عامل الذكاء العاطفي ، فقد يكون الفرد_ أو المجتمع _ يتمتع بإيجابيات كثيرة ولكنه يفتقد الذكاء العاطفي فيسلك كأنه إنسان آلي أو مجتمع آلي . وطبعا يكون النجاح للفرد أو المجتمع معتمدا على الذكاء العاطفي، فيعبر عن نفسه بما يمكن أن يحققه له ذكاؤه ومواهبه الطبيعية .

ونحن أمام الشخصية المصرية نراها انبساطية ، عاطفية ، تجيد التواصل وسهولة الإيحاء بما يمكن أن نصفه بـ «طيبة القلب». ولكن توجد سمات أخرى تقتضي المواجهة ومحاولة السيطرة عليها لإعادة صياغتها بما يتناسب مع تطورات عصر التكنولوجيا، منها السلبية، الإتكاليه، منافقة وتأليه الحاكم منذ 6 آلاف عاماً، وأحد حسنات 25 يناير إزالة حاجز الخوف من الحاكم.

ولعل ركود الحراك الاجتماعي في زمن حكم الرئيس السابق حسني مبارك سمح للتطور التكنولوجي أن يهزمه لانعزاله عن أنات مجتمعه وغرقه في أوهام أرقام لم تتعامل مع البشر كبشر ، بل مجرد كائنات الكثير منها زائد على الحاجة كما توهمها مبارك ، فكانت ثورة الخامس والعشرين من يناير لتلحقها ثورة الثلاثين من يونيو رفضا لحكم مدعي التأسلم .

..........................

يرقب د. أحمد عكاشة هذا الطمع الصغير في عيون البشر ، طمع الاحتفاظ بكل ما يمتعهم، والخوف مما يؤلمهم ، على الرغم من أن كل منا يعلم أن الألم لن يبقى على حاله إلى الأبد ، ولا المتعة ستظل إلى الأبد . ولكن هذا القانون المنطقي لا يستقر في وجدان أي إنسان ، ففي وجدان كل إنسان هذا الطفل الراغب في الحلوى الهارب من العقاب في نفس الوقت والذاكرة تحمل لي ما كتبته بعد حوار معه عن التأمل المتسامي ، وهو نوع من العلاج النفسى الذاتي للوصول إلى الانفصال عن القلق وتحقيق الذات وتنمية الانسجام الذاتي من خلال جلسات التأمل والاسترخاء الذاتي وهى مشتقة من اليوجا الروحانية، هذا الذي يمارسه أبناء جنوب شرق آسيا خصوصا الهنود واليابانيين. فهم يجددون فرص التآزر في الشخصية بأسلوب حياة متناسق يعي عمق العمل الجماعي ، ويقفز بقيمة العمل فوق المظهرية ، ويحاول كل منهم أن يقدم خلاصة ما يستطيع تقديمه لخدمة المجموع ويكفي النظر إلى أسلوب حياة الأثرياء هناك وأسلوب حياتهم عندنا لنعرف في أي فجوة عميقة نسقط فيها قدراتنا العامة ، تلك التي ظهرت بوضوح لافت أثناء حرب الاستنزاف وفي أيام القتال في حرب أكتوبر. لكن زراعة الأطماع الصغيرة فيما بعد الحرب ثم السباحة في أوحال الأنانية المفتقدة للذكاء الاجتماعي ، نسجت بحيرة من الأوحال عطلت إيجابيات ما أنجزناه ، سواء فيما قبل ثورة يوليو بتراث أحمد لطفي السيد والشيخ محمد عبده وحرارة إيمان سعد زغلول بفكرة الديمقراطية ، ثم بتطوير ثورة يوليو لأساليب العدل الاجتماعي . كل ذلك ترك السلبيات تنمو كطفيليات تأكل الإيمان بالنفس وبالمجتمع وجاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير كصحوة ضرورية لمواجهة هذا الوحش الشرس اللامرئي الصامت وهو الاكتئاب المصحوب بحالة الترهل في الأداء العام ، وتبعتها ثورة الثلاثين من يونيو لترفض الجمود والتعبئة في قوالب كالأصنام باسم الدين .

وطبعا كان الخروج من ذلك يقتضي إعادة النظر في أسلوب التفكير الجمعي عند المجتمع بدلا من أن نترك الوحوش غير المرئية وهي تأكل الضمير الجمعي للمصريين

..........................

ظلت صورة المرأة المتهدلة بمركز الطب النفسي تحتل خيالي ، وأرى ذيلها غير المرئي الذي تحدثت عنه وهو عبارة عن غرف صغيرة ملتصقة ؛ وفي كل غرفة تضم تفاصيل واقعة من وقائع أحداث حياتها وحياتنا . وعلى البعد من تلك الغرف يقف خيال الشهيد عبد المنعم رياض جار طفولة أحمد عكاشة وهو يعيد ترتيب أوراق الحياة في الجيش المصري ، وكان يرى بعيون الواقع انتصار أكتوبر الذي خطط له بإعادة ترتيب أسلوب الحياة داخل القوات المسلحة المصرية ، ويستشهد الرجل أثناء رحلة إعادة البناء ليتحقق الانتصار .

ودارت بي الأرض فور وصولي إلى منزلي، في نوبة من «الدوخة» العنيفة التي تشبه الدوران في لعبة من ألعاب الملاهي ، ثم غرق في عرق كثيف ، وطلبت على الفور د. شريف مختار سيد الرعاية الحرجة بأمراض القلب . وقمت بقياس الضغط ، لأجده متراقصا . نصحني د. شريف أن أستلقي على ظهري لدقائق كي تذهب هذه النوبة التي أرجعها إلى العصب الحائر الذي يشتت سلوك الإنسان إذا ما مرت به كروب من ذكريات ووقائع . وبعد ساعات كنت مع د. شريف مختار الذي قال هي حساسية الكاتب بما تفرضه عليه الذكريات ، لكن لا شيء بالقلب أو الدورة الدموية.

يعلم شريف مختار أني منذ اثنين وثلاثين عاما وأنا أتبع تعليماته ، ويضحك عندما أقول له كما أقول لأحمد عكاشة «المريض الذي هو أنا أقوم بالكشف على الطبيب أثناء قيام الطبيب بالكشف الطبي على ما أعاني منه، فدراسة الطب توجزها عبارة « الطب علم المناظرة» أي اثنين كلاهما يفحص الآخر، الطبيب يفحص المريض والمريض يفحص الطبيب أيضا» .

وكنت أظن أن الطب النفسي هو أحد فروع العلم الذي يمارس فيه من لا يجيدون سرعة التشخيص مبدأ صيادوى الخيول في الصحارى الأمريكية، حيث يلقي الواحد منهم طوقا من حبل ليجر به الفرس الأول في قطيع الخيول ، فيرضخ الفرس ليتبعه بعض من قطيع الخيول . والطبيب النفسي الذي لا يجيد التشخيص يلقي بحبل من كلمات ليضمن إعادة الزيارة من المريض للطبيب ، وعادة ما يحتاج المريض إلى صداقة مؤقتة مع الطبيب لمدة عدة أسابيع لعل النقاش واستخدام بعض المطمئنات يهدئ من تأثير الأعباء النفسية التي دفعت المريض إلى العيادة.

وعادة ما يضحك كل من الطبيبين لقولي هذا، وهو ما يدفع شريف مختار إلى تدريس كيفية كتابة الروشتة الطبية للأطباء . فمصر بلد فقير واستخدام الطبيب لأساليب العلاج يقتضي دقة التشخيص وسرعة العلاج بأقل تكلفة ممكنة . أما أحمد عكاشة فيقول لي: «كان صديقنا الأستاذ الدكتور محمد شعلان محقا عندما اقترح عليك تنظيم بعض من خبراتك لتقوم بعلاج غيرك نفسيا», ودائما أقول لأحمد عكاشة عندما يقول ذلك « أعوذ بالله من تلك المهنة الشرسة ». وطبعا كانت رؤيتي للذيل غير المرئي الذي تشكو منه الجميلة سابقا المتهدلة حاليا بقرب ضمور المخ والتي تقضي أيامها في المصحة النفسية، كانت رؤيتي لهذا الذيل وكيف يتكون من حجرات متلاصقة، ظهرت في إحدى المشاهد التي شاهدتها فيها، وكانت تشتري من البقال توني بميدان روكسي صندوقا من نبيذ قبرصي فعال ورخيص ، ومازلت أذكر كلماتها لي «يجب أن ألطش مخي بزجاجة كاملة حتى أنام».

سألت د. أحمد عكاشة تليفونيا : ماذا أفعل كي ألطش مخي فلا تدور أفكاري عن هذه المرأة وتجاربها المثيرة ، ثم وصولها إلى هذا الدرجة من الهلاوس ؟

أجابني : لديك قدرة فنية تنقذك من ذلك فلا تضن على نفسك باستخدامها .

وطبعا هو يعلم أن سطوري تلك فيها لمحة من قدرة فنية ساعدني فيها شقيقه ثروت باستيعاب الفنون الرفيعة كي أغسل أعماقي ، وصقلت صداقتي مع أحمد عكاشة ذات نفسه واستطعت التدرب على الموازنة بين الايجابيات و السلبيات في حياتي .

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق