هل هو انقلاب في التحالفات الداخلية والخارجية، أم مخاطرة كبري ـ حسب تعبير سعد الحريري زعيم تيار المستقبل قي لبنان ـ أو اعتراف بالأمر الواقع ومحاولة التعامل معه لإنقاذ لبنان ؟
تساؤلات كثيرة برزت منذ إعلان الحريري رسميا عصر أمس الأول تأييده ترشيح الجنرال ميشال عون زعيم التيار الوطني الحر رئيسا للبنان، والذي سيتم انتخابه خلال جلسة مجلس النواب المقرر عقدها يوم 31 أكتوبر الحالي، بعد نحو عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي في البلاد.
ومنذ موافقة فرنسا علي استقلال لبنان في 22 نوفمبر 1943حتي الآن والتدخلات الخارجية تلعب الدور الأبرز في اختيار الرئيس اللبناني، خاصة أن نظام المحاصصة الطائفية الذي كرسه اتفاق الطائف عام 1989 لينهي رسميا فترة الحرب الأهلية، أتاح الفرصة للتدخلات الخارجية من خلال استقواء التيارات السياسية والطائفية بقوي إقليمية ودولية.
ورغم تصريحات بعض الزعامات اللبنانية عن أن رئاسة عون هي صناعة لبنانية، فإن جميع المتخصصين في الشأن اللبناني يعلمون أنه لولا الضوء الأخضر من العواصم المعنية بالوضع اللبناني ماتم الاتفاق علي دعم ترشع عون أو غيره رئيسا.
ومنذ الخروج السوري من لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005، وهناك قوي إقليمية مهمة هي الحاضنة الأساسية للطوائف اللبنانية المختلفة والتيارات السياسية المعبرة عنها، حيث تعد إيران وسوريا الداعم الأكبر لحزب الله وحركة أمل اللذين يمثلان شيعة لبنان وحليفهم السياسي الماروني العماد ميشال عون الذين يجمعهم تحالف 8 آذار، بينما تعد السعودية الحاضنة الرئيسية لتيار المستقبل المعبر عن الطائفة السنية مع دعم حلفائه السياسيين وأبرزهم سمير جعجع قائد حزب القوات اللبنانية والذين يجمعهم تحالف 14 آذار.
ورغم أن الأزمة السورية ألقت بظلال كثيفة علي الوضع في لبنان، حيث تورطت أطراف لبنانية مثل حزب الله في القتال المباشر داخل سوريا إلي جانب النظام، بينما دعمت أطراف أخري مجموعات المعارضة السورية، ونزح نحو مليون ونصف المليون لاجئ سوري إلي لبنان، وهو رقم ضخم يعادل نحو ثلث سكان لبنان، إلا أن التحالفات اللبنانية الأخيرة التي أوصلت عون إلي باب القصر الجمهوري بدعم مباشر من الحريري، توضح بجلاء أن القوي الأساسية في لبنان بدأت تدرك بيقين أن السقوط الكامل للدولة السورية ستكون له تداعيات سلبية ضخمة علي المنطقة وأولها لبنان نفسه، وأنه لابد لهذه القوي أن تنأي بلبنان عن هذه التداعيات، عبر اتفاق موحد و»تفاهمات» محددة، بغض النظر عن التناقضات الضخمة بين مواقف الدول الحاضنة لهذه القوي من الأزمة السورية، ولهذا شاهدنا منذ فترة التحالف بين الخصمين الأقوي علي الساحة المسيحية ميشال عون وسمير جعجع، وتفاهمات بين زعيم تيار المردة المقرب جدا من النظام السوري سليمان فرنجية وبين سعد الحريري، وصلت إلي حد تأييد الحريري لترشيحه رئيسا للجمهورية، وهو التأييد الذي اصطدم بتمسك حزب الله بترشيح عون، وقد حاول الحريري إجراء تفاهمات مع معظم الأطراف ومنها حزب الله للخروج من الأزمة اللبنانية خاصة أن الحريري بدأ يعاني من مشكلات كثيرة مثل تعثر أعمال شركته الكبري سعودي أوجيه نتيجة انخفاض التدفقات المالية بدول الخليج بسسب انخفاض أسعار البترول، وتعقد الوضع في اليمن وسوريا وتأثير ذلك علي الخليج.
وعند القراءة الأولي لهذا المشهد، يتبادر للأذهان علي الفور الموقف المصري من الأزمة السورية الذي يتمحور حول الحفاظ علي الدولة السورية ووحدة أراضيها وحق الشعب السوري في تقرير مصيره، والمشهد اللبناني الذي نراه الآن يؤكد صوابية الموقف المصري من الأزمة السورية.
لكن الانفراجة في الأزمة الرئاسية في لبنان لم تكتمل علي ضوء موقف زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب نبيه بري الذي أعلن معارضته انتخاب عون، رغم التحالف الذي يجمعهما مع حزب الله، وقال بوضوح وصراحة أمام بعض النواب:أنا سأحضر جلسة الانتخاب، وقد بدأت بإعداد خطاب تهنئة الفائز من بين المرشحين، لكن لن أصوّت للجنرال مع محبتي وتقديري له.
ويري نبيه بري أن سعد الحريري أبرم صفقة كاملة مع ميشال عون، لا تقتصر فقط علي تقاسم السلطة باختيار عون رئيسا للجمهورية والحريري رئيسا للحكومة، وانما تتضمن أيضا تفاهمات علي تفاصيل المرحلة المقبلة والتعينات في بعض المناصب الكبري مثل قائد الجيش ومحافظ البنك المركزي، دون أن يكون له دور في أي دور في هذا الاتفاق المفصل خلافاً لقواعد إنتاج السلطة التوافقية في لبنان.
بينما يعتقد عون ـ وفقا للمحللين اللبنانيين ـ أنه ليس بمقدور بري أن يتخلي بهذه البساطة والسهولة عن حضوره المتأصل في السلطة، وما أفرزه من امتدادات ومصالح علي مدي عقود، وأن الهدف الأساسي من الموقف المتشدد لرئيس مجلس النواب في هذه المرحلة هو تحسين شروط التفاوض اللاحق، لا نسفه.
ويبدو عون مستعدا للذهاب بعيداً في تفهم شكوي بري ومعالجتها، علي قاعدة أن ما يجمعهما هو أكثر مما يفرقهما، ومن يستطع التفاهم مع الحريري الآتي من بعيد فلن يستعصي عليه التفاهم مع بري الشريك في خيارات استراتيجية هي أهم من تفاصيل السلطة.
ومن المؤكد أن حزب الله سيلعب دورا أساسيا في التقريب بين حليفيه عون وبري، لكنه بحاجة إلي مزيد من الوقت وخاصة أن بري غادر بيروت إلي جنيف لحضور اجتماعات البرلمان الدولي، وسيعود قبل اجتماعات مجلس النواب المقررة يوم 31 أكتوبر بثلاثة أيام فقط، ولذلك اقترح البعض تأجيل اجتماع البرلمان لمدة أسبوعين لإتاحة الفرصة أمام التفاهم بين بري وعون، لكن الأخير يرفض التأجيل خوفا من ظهور مفاجآت جديدة قد تعرقل مسيرته، خاصة أنه قد ضمن الأغلبية النيابية بعد تأييد الحريري له، رغم رفض بعض نواب تيار المستقبل انتخابه.
وتري مصادر لبنانية ان دور »حزب الله» لم يعد محصورا في مسألة اقناع بري بالاقتراع لعون، لكن الاتصالات ستتركز علي إقناعه بالعدول عن لعب دور المعارض، خصوصًا ان جزءًا من الاتفاقات هو أنْ يكون برّي رئيسا للمجلس النيابي والحريري رئيسا للحكومة في عهد العماد ميشال عون.
لكن الزعيم اللبناني الدرزي وليد جنبلاط الذي يحاول الوقوف علي الحياد، فله حسابات أخري تتعلق بالانتخابات النيابية القادمة، فهو لا يستطيع ان يواجه حلف «الحريري - عون - جعجع» في مناطق جبل خلال الانتخابات النيابية، واذا تحالف سنّة اقليم الخروب المؤيدون للحريري مع مسيحيي عون وجعجع في الجبل، فان الدروز يصبحون خارج المعادلة، ويخسر جنبلاط في قلب بيته، وبالتالي فأنه سيعطي الحرية لنواب كتلته في التصويت وهو أمر يصب بالنهاية في مصلحة عون.
وفي النهاية سيشهد لبنان في عهد الرئيس عون إعادة صياغة جديدة للتحالفات السياسية تشير إلي تكتل كبير يضم «المستقبل» و«الوطني الحر» و«القوات» و«حزب الله»، مع إمكانية إنضمام كل من «حركة أمل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي» إليه، علي أساس القاعدة التي يروج لها أنصار العماد عون منذ فترة طويلة، أي تحالف «الأقوياء» داخل كل طائفة ومذهب.
وستظل تداعيات المشهد السوري جاثمة ظلالها علي لبنان، إلي جانب خريطة التحالفات الإقليمية والدولية المتغيرة، وقد يكون ذلك أحد أسباب الجولة الخارجية التي يعتزم سعد الحريري القيام بها قريبا لعدة دول منها مصر.
رابط دائم: