جاءت مناقشات وتوصيات المؤتمر العالمى الذى نظمته دار الإفتاء المصرية برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، تحت عنوان «التكوين العلمى والتأهيل الإفتائى لأئمة المساجد للأقليات المسلمة»، وبمشاركة مفتين وعلماء دين ووفود 80 دولة عربية وإسلامية وأجنبية،
لتشكل بارقة أمل نحو مواجهة الفكر التكفيرى المنتشر بين الجاليات الإسلامية فى المجتمعات الغربية، وخطوة أولى لوضع حد لظاهرة الإرهاب الفكرى والتلاعب بالفتاوى لاستخدامها سلاحا شرعيا أمام الجماعات المتطرفة لاستقطاب الآلاف من الأقليات المسلمة للقتال فى بلاد العرب تحت مزاعم مغلوطة وخاطئة للانضمام للتنظيمات المسلحة مثل«داعش» وغيرها للجهاد تحت رايتها.
وتمخض عن المؤتمر الذى اختتم أعماله، الثلاثاء الماضي، عدة توصيات ومبادرات، حملت فى طياتها بعضا من الأمل للجاليات المسلمة، التى تعانى كثيرا مرارة الفتاوى المتشددة التى تصدر من قبل الجماعات التكفيرية والمتطرفة، وكان من أبرزها «إعلان القاهرة»، لمبادئ التعاون والتعايش للأقليات المسلمة فى بلدان العالم الذى يمثل مرجعا للإفتاء وينظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم فى تلك الدول، وربط دور وهيئات الإفتاء العربية والمراكز الإسلامية بالخارج لسد فراغ المساجد الأوروبية من وتأهيل الأئمة المعتدلين لسحب البساط من تحت أقدام تيارات الإسلام السياسى المسيطرة على مساجد الجاليات.

مقاتلون أوروبيون فى صفوف داعش
وناقش المؤتمر فى جلساته المتعددة، عددا من الأبحاث حول تجارب المؤسسات الإفتائية للجاليات المسلمة تجاه قضاياهم، وسبل دعم وتأهيل قادة الرأى الدينى فى مجال الإفتاء فى الخارج، وآليات التجديد فى الأحكام الفقهية بما يحقق مصلحة الأقليات، إشكاليات التشدد فى فتاوى الأقليات، ومرتكزات وضع برنامج علمى لتأهيل أئمة المساجد. كما شملت محاور المؤتمر أبحاثا متعددة منها، كيفية مواجهة الإفتاء ظاهرة الخوف من «الاسلاموفوبيا»، والتهديدات الاجتماعية والسياسية والقانونية للأقليات المسلمة وكيفية التعامل معها، والتعايش فى الإسلام، ووسائل مواجهة التحديات الاقتصادية للأقليات الإسلامية عبر الإفتاء.
مرصد للجاليات
وانتهى المؤتمر إلى إطلاق عدة مبادرات منها إنشاء مرصد للجاليات المسلمة حول العالم، وتقديم الدعم العلمى والفنى فى إنشاء مؤسسة إفتاء، وإنشاء ملتقى دراسات وبحوث الأقليات. وتضمن إعلان القاهرة عدة مبادئ، أهمها المطالبة بحرية المسلمين فى أداء عباداتهم وشعائرهم وفق النظم الدستورية والقانونية والاهتمام بدعم الأقليات المسلمة بعيدًا عن الأيدلوجيات والصراعات السياسية الحزبية أو المذهبية، وأن تصبح المراكز الإسلامية فى بلاد العالم حلقات للتواصل الحضارى والتبادل المعرفى وجسورًا للتعاون بين المسلمين وغيرهم بكل الوسائل المتاحة وذلك بإحياء دور المراكز الإسلامية الوسطية ودعمها علمياً وإفتائيًا.
آليات التنفيذ
وإذا كان المؤتمر يعدُّ لبنة محورية فى العمل على تكامل الجهود التى تبذلها دور وهيئات الإفتاء فى شكل منضبط ومنظم للمساهمة فى تصحيح الصورة والمفاهيم المغلوطة المشوهة وتخفيف ما لحق بالإسلام من عداء وتشويه تقوم به الجماعات المتطرفة، فإنه يبقى التساؤل الأبرز حول دور الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء التى تم تشكيلها بالقاهرة برئاسة الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية، فى التصدى لكافة أشكال استغلال الجاليات المسلمة من قبل كيانات الإسلام السياسى المنتشرة فى الغرب؟ وما آليات تنفيذ توصيات المؤتمر حتى لا يكون مصيرها كغيرها من التوصيات والمبادرات التى تصدر فى ختام اعمال المؤتمرات الدينية وتبقى حبرا على ورق؟!
خطوات وبرامج عملية
يجيب على تلك التساؤلات الدكتور شوقى علام، قائلا: فى أولى الخطوات العملية، قررت دار الإفتاء المصرية تشكيل عدد من اللجان لمتابعة تنفيذ التوصيات الختامية التى اتفق عليها المشاركون بالمؤتمر ووضع جداول زمنية محددة لتنفيذ جميع التوصيات، كما قرر المفتى إنشاء لجنة لمتابعة آليات تفعيل إعلان القاهرة للتعايش، ولجنة ثانية للانتهاء من وضع تصور تنفيذى لإنشاء مركزٍ عالميٍّ لإعدادِ برامج تأهيلية على الإفتاء، ولجنة مماثلة لوضع أسس إنشاء وتشغيل مركزٍ عالميٍّ لفتاوَى الجالياتِ المسلمةِ بهدفِ إعادةِ المرجعيةِ الوسطيةِ فى الفتوى لدار الإفتاء المصرية. كمَا تقرر البدء الفورى بعمل لائحة ميثاقِ شرفٍ للفتوى يضعُ الأُطُرَ القانونيةَ والإجرائيةَ للتصدِّى لفوضَى الفتاوى بالتعاون مع كبار العلماء والمفتين فى العالم، وتم تكليف لجنة من علماء دار الإفتاء بتنفيذُ المشروع العلميّ لتحليلِ وتفكيكِ وتفنيدِ الفتاوى التكفيريةِ والشاذة التى أعلنت عنه الدار فى توصياتها، مشددا على أهمية التنسيقُ الدائمُ بين دُورِ الفتوى ومراكزِ الأبحاثِ لصياغةِ ردودٍ فعالةٍ فى مُخاطبةِ الرأى العامِّ فى مِلفِّ الردِّ على الفتاوى الشاذةِ والتكفيريةِ باللغات المختلفة أولًا بأول.
وأوضح المفتي، أن العالم حاليا يشهد موجة عنف لتيارات تبحث عن فتاوى تشرعن لها العنف وما الإحصائيات عنا ببعيد، فما يقدر بخمسين ألف مقاتل فى صفوف «داعش» نصفهم من أبناء الأقليات المسلمة، وإعلام التنظيم يتحدث بـ12 لغة، فكان على المؤسسات الدينية العريقة وذات الشأن فى هذا المجال أن تعلن عن نفسها لترد بقوة وبحسم على الأفكار الضالة بمنهجية علمية رصينة، ولا شكَّ أن هذا مؤشر خطير للحالة الراهنة للجاليات المسلمة، ومن يحلل هذا الوضع بدقة يجد أن الفتوى التى تصدر من غير المتخصصين، خاصة من تيارات التشدد والتطرف من أبناء هذه الجاليات وغيرهم تسبب اضطرابًا كبيرًا فى مجتمعات هذه الجاليات كما نرى الآن فى حالة داعش وأخواتها.
وأضاف: إن الأئمة والدعاة فى الغرب هم نواة نشر الإسلام، وتصحيح المفاهيم فى الخارج، فموضوع المؤتمر ومحاوره خطوة غاية فى الأهمية فى منظومة تجديد الخطاب الديني، وسحب البساط من تيارات الإسلام السياسى المسيطرة على الجاليات المسلمة فى الغرب، ومن الأهمية بمكان أن يتم تدريب الأئمة والدعاة وتأهيلهم للتعامل مع النصوص الشرعية، والتعاطى مع معطيات الواقع، وامتلاك أدوات وأساليب الخطاب الدينى الصحيح والوسطي، لذا تعمل الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم على إيجاد منظومة علمية وتأهيلية للقيادات المسلمة فى العالم يكون من شأنها تجديد منظومة الفتاوى التى يستعين بها المسلم على العيش فى وطنه وزمانه، كما ترسخ عنده قيم الوسطية والتعايش، وتعمل أيضًا الأمانة العامة على تأصيل الرباط بين الأئمة والدعاة وبين العلماء الثقات والمؤسسات الإسلامية الكبرى فى العالم الإسلامى وعلى رأسها الأزهر، ودار الإفتاء المصرية.
مواجهة الإسلاموفوبيا
وفى السياق ذاته، جاءت كلمات الوفود والمؤسسين والجاليات، لتؤكد تطلعات الأقليات المسلمة فى العالم لغد أفضل، فمن جانبه أكد الدكتور مصطفى سيرتش رئيس العلماء بجمهورية البوسنة والهرسك ومفتيها السابق، أن الدعوة الوسطية التى تعلمناها من الأزهر بمؤسساته العلمية المختلفة، تعد المتنفس الروحى لنا فى شبه جزيرة البلقان فى القرنين الأخيرين، فالأزهر له فضل على العرب والعجم، ونريد منه ان يكون كما كان منارة للعالم الإسلامى كله شرقه وغربه شماله وجنوبه، وان الخطاب الوسطى المعتدل هو السبيل لمواجهة ظاهرة »الاسلاموفوبيا«.
نماذج للتعايش
الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، شارك فى فعاليات المؤتمر، ببحث جاء تحت عنوان« نماذج التعايش فى عصر النبوة«، اعتمد على دراسة النماذج الأربعة للسيرة النبوية، تلك النماذج التى شملت الحياة فى مكة وما تميزت به، والتى اختلفت عن نموذج الحياة فى الحبشة، وكذلك عن المدينة التى تميزت بالتعددية، ونموذج الحياة فى المدينة بعد دخول النبى إليها، مطالبا القائمين والمعنيين من العلماء بدراسة واقع تلك النماذج الأربعة للوصول إلى نموذج لحياتنا المعاصرة يقوم على احترام الغير والتعددية والسلم الاجتماعي.
وناقش الدكتور على جمعة ما تضمنه بحثه حول توصياته لعلاج مشاكل الأقليات والتى أوجزها فى التعامل بأخلاق النبى الكريم، مؤكدا أنه لابد أن نلتفت للسيرة والتعلم من نماذج التعايش فى عصر النبوة لأنها ستساعد كل مسلم أن يتعايش فى أى مكان، موضحا أن الإسلام قد أرسى قواعد وأسسا للتعايش مع الآخر فى جميع الأحوال والأزمان والأماكن, بحيث يصبح المسلمون فى تناسق واندماج مع العالم الذى يعيشون فيه, بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه دون تفريط فى الثوابت الإسلامية. وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا أربعة نماذج للتعايش مع الآخر داخل الدولة الإسلامية وخارجها.
أول هذه النماذج هو نموذج مكة, وكان المقام فيها مقام الصبر والتعايش, والثانى نموذج بقاء المسلمين فى الحبشة, والمقام فيها مقام الوفاء والمشاركة, والثالث نموذج المدينة فى عهدها الأول, والمقام فيها مقام الانفتاح والتعاون, أما النموذج الرابع فهو نموذج المدينة فى عهدها الأخير, والمقام فيها مقام العدل والوعى قبل السعي. ولا يخرج بقاء المسلم فى مجتمعه وتعايشه مع كافة النظم والأديان كافة عن هذه الصور الأربع. ودعا العلماء المجتهدين إلى التعمق فى إدراك هذه النماذج الأربعة وحسن الاستفادة منها باستخلاص الأحكام الشرعية التى تحقق للمسلم فردا أو جماعة المصلحة, وتضمن له الأمن والحرية, وتأخذ بيده إلى التوفيق بين القيام بمتطلبات دينه من دعوة للحق وتأدية للعبادات والشعائر وبين السلام مع الآخرين وعدم الاصطدام بهم.
فقه التعايش
أما الدكتور مجدى عاشور المستشار العلمى لمفتى الجمهورية، فقد شارك فى المؤتمر ببحث عن «خبرات المؤسسات الإفتائية فى التواصل مع الأقليات»، موضحا ان لفظ الأقليات جمع »أَقَلِّيَّة« مصدر صناعى استُخدم استخدام الأسماء، مأخوذ من »القِلة« بكسر القاف، وهو يعني: خلاف الكثرة، مؤكدا أن اعتبار العدد فى تحديد مفهوم الأقلية يقصد به وجود المسلم فى ديار لا يغلب عليها أحكام الإسلام.
أما عن التعامل مع قضايا الأقليات، فأوضح البحث تجربة دار الإفتاء المصرية فى ذلك الشأن، موضحا انها تنطلق من منهجية علمية واعية، تتجلى سماتها من خلال مستويين:أولًا: منهج اعتماد الفتوى للأقليات وذلك بالاعتماد على المذاهب السنية الأربعة المعروفة المشهورة: (الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة)، والاعتراف بالمذاهب الأخرى والاستئناس بها، بل وترجيحها أحيانًا، نظرًا لحاجة الناس أو لتحقيق مقاصد الشرع. وهى تلك المذاهب التى يتبعها بعض المسلمين فى العالم، أصولًا وفروعًا، وهي: (الجعفريَّة، والزيدية، والإباضية)، بل والظاهرية التى يؤيدها جمعٌ من العلماء.
وتتسع كثيرًا دائرة الحجية لدى دار الإفتاء فى تخيراتها الدينية إلى مذاهب المجتهدين العظام، كالأوزاعى والطبرى والليث بن سعد وغيرهم، فى أكثر من ثمانين مجتهدًا فى التاريخ الإسلامي؛ فتستأنس بآرائهم وقد ترجحها لقوة الدليل أو لشدة الحاجة إليها أو لمصلحة الناس أو لتحقيق مقاصد الشرع الشريف، وهو المنهج الذى ارتضته الجماعة العلمية فى عصرنا شرقًا وغربًا والعقلاء من جميع مذاهب المسلمين، وتلتزم دار الإفتاء بمقررات المجامع الإسلاميَّة، وعلى رأسها هيئة كبار العلماء بالأزهر، ومجمع الفقه الإسلامى الدولى التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامى بجدة، ومجمع الفقه الإسلامى التابع لرابطة العالم الإسلامى بمكة؛ خاصة فى القضايا العامة من الأمور المستحدثة، التى تشتد حاجة الناس للفصل فيها بشكل جماعي، مع مراعاة الصورة الذهنية للمجتمعات التى تستوطنها الأقليات، من خلال الاجتهاد وَفْق المقاصد، وفقهِ الواقع، وفقهِ الموازنات، وفقهِ الأولويات، وفقهِ المآلات. وهذا لا يعنى بحالٍ من الأحوال التنازلَ عن الثوابت التى وضعها الإسلام أو المساسَ بما يمثل هوية الإسلام، كما تعتمد على ما أخذ به السادة الحنفية من جواز التعامل بالعقود الفاسدة فى ديار غير المسلمين، بما يُساهم فى اندماج الأقليات فى مجتمعاتهم وتفاعلهم مع قضاياهم، من غير صدام ولا نزاع مفتعل.
ثانيًا: منهج التواصل مع الآخر: ترتكز دار الإفتاء المصرية فى قضية تحسين صورة الإسلام والمسلمين فى الخارج، على مبدأ البيان والتوضيح والتفاعل الاستباقي، لرد الإساءاتِ والتشويهِ المقصود وغير المقصود للإسلام والمسلمين، من دون اللجوء إلى الهجوم أو الدفاع، حتى تنأى هذه المؤسسة العريقة بنفسها عن مآخذ الفعل ورد الفعل أو الدخول فى سجالات غير مفيدة ولا مجدية فى شيء.
رابط دائم: