كانت الثقافة العربية في القرن التاسع عشر مثل سائر ثقافات العالم، عرضة لتأثير الثقافة الفرنسية العائدة للقرن الثامن عشر، عبرت عن نفسها بمقالات الانسكلوبيديا التي أشرف عليها ديدرو وشارك فيها دالامبير وڤولتير وروسو هؤلاء المفكرون المعارضون الذين أمضوا بعض سنوات حياتهم في السجن أو النفي أو التخفي هم الذين ألهموا الثورة الفرنسية ومنحوها شعاراتها في الحرية والمساواة والأخوة والمواطنة وحقوق الانسان وفصل السلطات وصياغة الدستور وإقامة الجمهورية والثورة على التقليد والكنيسة.
...........................................................
كانت الثقافة واللغة الفرنسية في القرن الثامن عشر، هي لغة الثقافة الأوروبية، وأصبح الفكر الفرنسي العائد للثورة الفرنسية هو الفكر الأكثر انتشاراً في أرجاء العالم، قبل أن تطغى التيارات الايديولوجية الاشتراكية والقومية بعد الحرب العالمية الأولى.
في بداية القرن التاسع عشر حدث أول اتصال مع أفكار الثورة الفرنسية مع حملة بونابرت على مصر (1798-1801) والبيان الأول للحملة توجه إلى الجمهور، ومنه كلمة جمهورية، واستخدم البيان كلمتي حرية ومساواة. لكن تأثير الحملة في الجوانب العسكرية والتقنية كان أبعد أثراً، وهو الأمر الذي راقبه محمد علي باشا. وتطلب الحصول على المهارات العسكرية والتقنية ايفاد البعثات العلمية إلى أوروبا وخصوصاً فرنسا وايطاليا.
وفي المشرق الذي لم يشهد مشروع بناء دولة على غرار دولة محمد علي في مصر. تلقت الولايات التي ستصبح دول سوريا ولبنان وفلسطين، أثر التجربة المصرية بين عامي 31-1840، ثم أثر الاصلاحات العثمانية في حقبة التنظيمات التي عرفت انفتاحاً على المعارف الأوروبية. وكان للتعليم الأهلي والإرسالي دوره في تعريف الطلبة بالمفاهيم الجديدة الواردة من أوروبا.
في السنوات الأخيرة انتقل عشرات من المتعلمين فى لبنان إلى مصر. ولهذه الهجرة أسباب عديدة، ومن بينها البحث عن فرص عمل، فأسسوا الصحف ودور النشر والمطابع والمجلات وأسهموا في نهضة المسرح، ونقلوا معهم العربية الفصحى إلى مصر التي فرضت نفسها تدريجياً كلغة تعبير في المقالة والرواية والمسرح والقانون والعلوم.
لم يكن كل ذلك يحدث بعيداً عن التطورات والأحداث التي شهدها النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن ذلك اعتراض القوى المحافظة على التنظيمات العثمانية في المشرق، في مقابل الاندفاع إلى تبني الاصلاحات من فئات مدينية استجابت للتحديث الذي ترجم في نشوء حيز عمراني ووسط مديني حديث، يستوعب المصرف والمسرح والمقهى والساحة العامة. وكان للأحداث المجتمعية والسياسية أثرها البالغ في تطور الوعي، فالأحداث الطائفية في لبنان وسوريا، جعلت بطرس البستاني يطرح مبدأ الوطنية على المبدأ الديني، وكانت فكرة الوطن قد برزت في أعمال الطهطاوي المتأخرة. إلا أن الحدث المركزي الذي عبر عن تحول كبير في المجتمع والسلطة هو اقرار الدستور عام 1876 من جانب السلطان عبد الحميد والذي نتج عنه انتخاب ممثلين للمجلس التشريعي في استامبول المعروف باسم مجلس المبعوثان.
كانت الأحداث الطائفية عام 1860 سبباً من أسباب الهجرة، إلاّ أن توقيت هذه الأحداث قد تناسب مع انفتاح أبواب الهجرة إلى القارة الأمريكية. كما توافق مع بداية أعمال الحفر في قناة السويس، ومع الاحتلال الانجليزي لمصر، برزت الحاجة إلى مترجمين، وكان جرجي زيدان في بداية هجرته قد عمل مترجماً ملحقاً بالحملة الانكليزية في السودان.
خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر توافد إلى مصر عشرات بل مئات من المتعلمين/ المثقفين الذين وجدوا فيها بيئة ملائمة لممارسة الوظائف الثقافية وإطلاق مواهبهم في الكتابة والتعبير عن آرائهم وأفكارهم التنويرية.
أضحت مصر في بداية القرن العشرين مركزاً للثقافة العربية، وبالإضافة إلى احتضانها للاتجاهات الفكرية والتعبيرات الأدبية. وأصبحت القاهرة عاصمة للتيارات السياسية من عثمانية ولامركزية وعروبية. واحتفظت بكونها عاصمة للنشر .
كان إنشاء المعاهد العلمية العالية أثره في تطهير وتطوير صورة المثقف. وكان أثر الجامعة الأمريكية (1866) بارزاً في تطوير الفكر العلمي وترجمة المؤلفات في الفيزياء، والبيولوجيا حين كان التدريس فيها باللغة العربية حتى عام 1888، فقد أسهمت هذه المؤلفات المترجمة إلى العربية في إكساب المتعلمين معرفة بالنظريات التطويرية والنشوئية والفلكية. من جهة أخرى فإن إنشاء مدرسة الإدارة والألسن عام 1886 في القاهرة الدور البارز في بروز نخبة حقوقية، وكان إنشاء دار العلوم 1872 تخريج مدرسين في المدارس الحكومية. وقد لعبت دار العلوم دورها في إرساء قواعد اللغة العربية الفصيحة كلغة تدريس، واشتهر من خريجيها أدباء ونقاد تقلدوا مناصب رفيعة في التعليم والدولة. أما مدرسة الإدارة، فكان دورها أبعد أثراً، إذ أن خريجيها صاغوا مصر الليبرالية المبنية على القانون والدستور.
رابط دائم: