شيطان الرواية ليس عابرا قط، ولا ملاكا ساذجاً، لأن الرواية فى مجملها تنطوى على «فخ البراءة المدهش» لمن تيقظ له، ومن لم ينتبه، على حد سواء.
فهذا «الطفل الراوى العليم»، يجوس فى جنبات قريته، متنقلا بين شخوصها وأحداثها وأماكنها، ولا يفعل هذا أبدا بمنطق «مرور الكرام»، بل يتوقف ويتأمل ويغوص، ليستخلص أعمق مافى الأشياء التى يشهدها. هذا ما تقوله رواية شيطان صغير عابر للأديب محسن عبد العزيز الصادرة عن دار المحروسة. فمن دُروب القرية وحقولها، إلى أعماق المشاعر الإنسانية، ينتقل إلى حكايات الكُتّاب والمدرسة، ومنها إلى الإحساس العميق باليتم، ووحشة فقد الأم، ثم اللحظة الأولى التى يقف فيها على عتبات البلوغ وتحرك مشاعره نحو فتاة فائرة، ومعابثته لها فى ظلمة الليل. هذا «الطفل الماكر» فى أول جملة له من أول فصل يقول: «هذا الولد الشقى داخلى من علمه الأدب»، وإن كان المقصود فى النص هو الأدب الأخلاقي، فأنا أظن بدورى إن تلك التجارب التى عاشها، وموهبته هما اللتان علمتاه الأدب الإبداعي، هذا الذى يدهشنا به فى نصوصه هذه، ويلضم فرائطها بحبل من دهاء، ليضعنا أمام معطيات الحياة الباهرة، التى تصوع شخصية الإنسان عبر مسالكها الشائكة، الشائقة. وفى النص ذاته يضيف بعذوبة: «أنا الولد الذى لا يتعظ أبدا.. كيف سألقى الله إذن؟!. عندها أعاهد نفسى على الخوف والأدب.. الخوف من الله فلا تصعد لعناتى إلى هناك.. والأدب مع الكبار فلا أرميهم بالطوب، أو أحرق ملابسهم بالنار وهم نائمون فى ظلال البيوت بالنهار أو ضوء القمر بالليل.. ويكون طريقى إلى الله أعرض من شارعنا الكبير». ويتوقف «المبدع الطفل» كثيرا، ومتمهلا، فى هذا العمل، أمام فقدانه أمه الغائر فى روحه، وحزنه العميق عليها بلا سبب ظاهر، وبكل الأسباب أيضا، ويتجلى شوقه إليها بتجدد أثر حنوها عليه بداخله، وتذكره لمرضها المفاجئ، وموتها المباغت، وحزنه المقيم، «أمى ماتت.. ولا أحد يقول لماذا؟!»، «..ويتولى الأولاد الصغار التفسيرفتراهم يعاملونك برفق، وحنان، وبلا مكيدة، ويقرأ الولد الشقى ما تنطق به عيونهم، فيرسل حزنا طويلا بلا نهاية مهما تكلف الابتسام. وينتقل من هذا الشجن الشجي، إلى وصف البيت الكبير، كأنه روح إنسانية، وجو المدرسة بكل تداعياته، وتأثير المدرس العميق الذى يطال الروح كما يطال العقل، ومشادّات الأطفال فى ذلك العمر، وتفصيل المواد الدراسية بجمالها وصعوبتها، ثم الوقوف على عتبة المراهقة، والانفلات من سذاجة الطفولة، إلى فوران المراهقة والنضوج الفيزيائى المدهش. ويمتد «فخ البراءة المدهش» إلى استعراض شخصيات ريفية بارزة مثل مشايخ المساجد، بطرقهم المختلفة فى إلقاء الخطبة، بين تحبيب الناس فى الصلاة وتنفيرهم منها، وامرأة الحقول المسترجلة، ورؤية الراقصات فى الأفراح، بكل ما يعنيه مجمل هذه الأشياء من تقلبات وتكوينات متباينة فى النفس الإنسانية بتلك المرحلة¡ وما بين الأب المحب للزرع والحقول، الذى يتفادى مجتمع الخلافات بالبقاء فى براح الغيطان والأخ النابغة الذى تحول للفلسفة والأخ الأكبر صاحب الصوت الشجى والجدة الحكيمة الصارمة وظلال الأم التى لا تنقطع عبر الحكايات، يمد ضفيرة نفسية خفية، ومتصلة، تربط حبَّات العُقد الثمين، ويجلوها بقصة «الحب الكبير» تلك المشاعر الصامتة الصادقة، لفتاة رائعة كانت اول من خفق لها قلبه، وكان يتمشى معها ليلا، فى صمت، وبلا خوف من كلاب الليل ولا ظلمة الدروب، حيث كان وجودها ينير له الطريق، ثم يظهر «الشيخ» الذى يعادى المسيحيين بلا سبب ظاهر.
الرواية: شيطان صغير عابر
المؤلف: محسن عبد العزيز
الناشر: مركز المحروسة 2016
رابط دائم: