ولأن الشعر المصري مطبوع بشخصية مصر ومعبر عنها فنحن نعرف مصر أو نزداد معرفة بها حين نعرف شعرها. والشعر إذن بالنسبة لنا ضرورة من ضرورات حياتنا. وهل كان بوسع المصريين أن يزرعوا ويحصدوا ويبنوا ويعمروا ويحبوا ويعشقوا ويفرحوا ويحزنوا دون شعر ينظمونه ويغنونه ويستمعون إليه؟
هل كان بوسعهم أن يبنوا هذه الحضارة الشامخة الباذخة دون لغة يتواصلون بها ويجتمعون ويعبرون عن المعاني والأفكار والعقائد والأحلام التي عبروا عنها في معابدهم ومقابرهم وتماثيلهم وصورهم ونظمهم وقوانينهم؟ وهل كنا نعرف هذه الحضارة ويعرفها العالم دون أن نقرأ متون الأهرام، وكتاب الموتي، وأناشيد أوزوريس، وأغاني إيزيس، وانتصار حورس؟
وهل كانت العربية تتوطن في مصر وتتمصر سواء في صورها الدارجة أو الفصحي إذا كان المصريون لم يحولوها إلي أزجال، وسير ملحمية، وعديد (بكائيات) ومواويل حمراء وخضراء؟
وهل كانت مصر في هذا العصر الحديث تنهض من رقدتها الألفية وتستعيد وعيها بنفسها وفتوتها وقدرتها علي الإبداع إذا لم يكن قد ظهر فيها محمود سامي البارودي، وعبدالله النديم، وأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وبيرم التونسي، ومحمود حسن اسماعيل، وعلي محمود طه..؟
الشعر إذن بالنسبة لنا، كما هو بالنسبة لغيرنا، ضرورة من ضرورات الحياة، وخاصة في الزمن الذي نحتاج فيه لمزيد من الوعي والشجاعة والثقة بالنفس والثقة في المستقبل كما هي حالنا في هذه الأيام. غير أننا نفتقد الشعر في هذه الأيام ولا نكاد نجده. وهذا ليس انطباعا شخصيا وإنما هو رأي عام يراه الشعراء والنقاد ويقدمون الدليل عليه ويتساءلون عن مستقبل الشعر فيتفاءل البعض ويتشاءم البعض ويتحدث البعض عن موت القارئ وموت القصيدة.
وقد ذكرني هذا بما قرأته قبل بضع سنوات في عدد خاص من مجلة «أدب» الفرنسية يدور كله حول موت الشعر أو زواله ومحوه من الوجود كما جاء في اللفظة التي استخدمت في التعبير عن هذا المعني effacement.
الشعر .. وجد مع الإنسان
قالوا إن الشعر لم يعد له وجود ولم يعد له جمهور يقرؤه أو يسمعه مثله مثل بقية الأنواع الأدبية التي تراجعت كلها في السنوات الأخيرة، لا بسبب تراجع اللغة كما كان يحدث في الماضي، ولكن بسبب المناخ الثقافي العام والتغيرات الجوهرية التي شهدتها وسائل الاتصال وأثرت في الفرد وفي المجتمع وأصبحت معها الأجيال الجديدة تنشأ وتمارس حياتها بعيدا عن القيم الثقافية والفنون التي كانت تتربي عليها الأجيال الماضية!
وأنا لا أستطيع أن أنفي ما جاء في هذه المجلة عن موت الشعر في فرنسا ولا أستطيع أن أثبته. لكني ميال لعدم التصديق.
لأني أعتقد أن الشعر يعيش قبل كل شىء بالحاجة إليه. وهي فطرة وجدت يوم وجد الانسان ووجدت اللغة، وربما تمكنت فيما يلي من هذا الحدث أن أشرح هذا الذي قلته وأوضحه. أما الآن فسوف أعود لموضوعي الأصلي وأسأل: هل مات الشعر في مصر؟
وأنا علي يقين من أن الشعر لم يمت في مصر. بل هو يواصل حياته التي بدأها منذ بدأت الحياة وينجب أجيالا جديدة من الشعراء ترفع لواءه وتبدع فيه وتضيف إليه. فإذا كنا لم نستمع لهذه الأجيال ولم نسمع بها فالعيب فينا لا فيها.
العيب فينا لأننا لا نؤدي واجبنا نحو الشعر، ولا نعرف مكانه في حياتنا ولا نحتفي به ولا نرعاه. وأنا هنا لا أتحدث عن أفراد يهتمون بالشعر أو لا يهتمون به. فنحن في موقفنا.
من الشعر لسنا مجرد أفراد، لأن الشعر ليس هواية خاصة تمارس في الفراغ أو في الهامش كما يعتقد الكثيرون، وإنما هو لغة أولي وتراث جامع. والموقف الذي نقفه من الشعر محسوب علينا جميعا. وهذا مايجب أن نفسره لأنفسنا ونشرحه،لأنه موقف يناقض نفسه بنفسه. فنحن نحتاج للشعر، لكننا منصرفون عنه كما يبدو لنا في هذه الأيام.
وهناك من يتهربون من الوقوع في هذا التناقض ويجعلون الانصراف عن الشعر حجة ضد الشعر ويستنتجون منه أن الشعر ليس حاجة ضرورية، وأننا نستطيع الاستغناء عنه كما يحدث الآن بالفعل، فنحن لا نطلبه، ولا نسأل عنه، ولا نهيئ له منابر نلقاه فيها. فإذا مر اليوم بعد اليوم والعام بعد العام وتعودنا غيابه استنتج هؤلاء من ذلك أن الشعر ليس ضروريا وأننا لسنا في حاجة إليه.
لكن هؤلاء يخدعون أنفسهم ويريدون أن يخدعونا، إذ يعتبرون أن كل ما لا نستطيع الحصول عليه زائد عن حاجتنا، وباستطاعتنا أن نستغني عنه.
يستطيع الجهلاء الذين عاشوا حياتهم راضين عن أنفسهم أن يبنوا علي جهلهم نتيجة مماثلة ويقولون إن المعرفة ليست حاجة ضرورية وإن الإنسان يستطيع أن يعيش ويمارس النشاط الذي قدر له أن يمارسه ويكسب رزقه الذي قدر له أن يكسبه دون أن يقرأ كتابا أو يطلب جوابا.
بل يستطيع الجوعي والأرقاء الذين تعودوا الجوع وعاشوا طول عمرهم في حكم الطغاة أن يناموا مطمئنين معتقدين أن الانسان يمكنه أن يستغني عن الطعام والحرية. ويمكنه من باب أولي أن يستغني عن الشعر، فليس الشعر في أفضل الأحوال إلا كلاما جميلا. ليكن، فالجمال ليس حاجة ضرورية !
طبعا، الجمال ليس حاجة ضرورية عند من لا يعرفونه ولا يتذوقونه. أما الذين عرفوه وتذوقوه وأدركوا قيمة تكتمل بها القيم الأخري وتزدهر. فالحق لا يكون حقا في القبح، والخير لا يكون خيرا في الدمامة والبشاعة.
والجمال إذن شرط للحياة لا نستطيع أن نعيشها بدونه. لكن الناس في سعيهم لتأمين جانب من حياتهم يهملون الجوانب الأخري،وربما ناصبوها العداء واعتبروها سببا لما يعانونه من فقر وتعاسة. وهو موقف لا يفقهه الجهلاء وحدهم، بل يشاركهم فيه زعماء وقادة وعلماء وفلاسفة كرهوا الشعر وأساءوا الظن فيه.
الشعر إبداع. والإبداع حرية. والذين يخافون من الحرية كثيرون، الضعفاء المحتاجون الذين فقدوا الثقة في أنفسهم واستسلموا لغيرهم، والأشرار المحتالون المتاجرون بالدين. والمستبدون المنفردون بالسلطة، والذي يخاف من الحرية يخاف من الشعر ويعتبره نقيصة، ولهذا قتل المهدي الخليفة العباسي صالح بن عبد القدوس، وقتل بشار بن برد. وقتل الفقهاء المنصور الحلاج، وقتل صلاح الدين السهروردي.
ونحن نعرف أن بعض النقاد العرب القدماء، وبعض القضاة المصريين في هذه الأيام يقحمون الأخلاق في حديثهم عن الشعر والنثر، ويحاسبون الشعراء والكتاب علي ماقالوه في الخمر والغزل كما فعل الباقلاني مع امرئ القيس إذ اتهمه بالخسة والنجاسة وهو يتحدث عن معلقته ويقف أمام البيت الذي يقول فيه امرؤ القيس :
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
فقالت: لك الويلات، إنك مُرجلي
يقول الباقلاني في نقده لهذا البيت «فما كان أغناه عن الإقرار بهذا. وما أشد غفلته عما أدركه من الوصمة به. وذلك أن فيه أعدادا كثيرة من النقص والنجس. منها دخوله متطفلا علي من كره دخوله عليه. ومنها قول عنيزة له : لك الويلات ! وهي قولة لا تقال إلا لخسيس ولايقابل بها رئيس». وفي سيرة امرئ القيس أن أباه نفاه لما قال الشعر. وهذا مافعله أفلاطون من قبل حين اعتبر الشعر نوعا من الكذب والجهل وقال لو أن الشاعر كان يعلم حقا مايتظاهر بعلمه لكان يعمل بدل أن يقول». ولهذا نفي أفلاطون الشعراء من جمهوريته الخيالية. وكذلك فعل الفرنسيون في القرن الثامن عشر حين ظنوا أنهم مخيرون بين العقل والعاطفة فاختاروا العقل، وبين الواقع والخيال فاختاروا الواقع معتقدين أنهم بهذا يبدأون زمنا جديدا يحل فيه النثر محل الشعر والخبرة العملية محل الحدس والتخيل.
وبعض المشتغلين بالنقد عندنا يقلد الفرنسيين حين يتحدث عن أن العصر عصر الرواية وليس عصر الشعر معتقدا أن الأشكال الأدبية تتصارع وأن بعضها يقتل البعض الآخر ويحل محله كأن الحياة لا تتسع إلا لفن واحد !
وقد كذب الواقع هذه النبوءة الباطلة وكذب أصحابها وأثبت أن ظهور ستاندال، وبلزاك، وفلوبير، وأتاتول فرانس، ومارسيل بروست وغيرهم من الروائيين الفرنسيين لم يمنع لا مرتين، وفيكتور هيجو، وألفرد دو موسيه، وبودلير، وفرلين، ورامبو، ومالارميه، وبول فاليري، وكلوديل، واراجون، وبول ايلوار، ورنيه شار وسواهم من الشعراء الفرنسيين الذين ظهروا خلال القرنين الاخيرين، بل نستطيع ان نقول إن ظهور الرواية ايقظ الشعر ومكنه من ان يعرف نفسه أكثر وأن يتميز بلغته التي تختلف عن لغة الرواية ولغة النثر بشكل عام، والشعر إذن قد ينسحب فترة أو يتراجع لكنه حين يتهيأ له المناخ يظهر من جديد ويستعيد نشاطه وحيويته.
ومن كان يصدق ان عصور الانحطاط التي أصبح فيها الشعر العربي تقليدا ركيكا سمجا وانزوت فيها اللغة الفصحي وتوارت في المعاجم وكتب النحو والصرف وانقطعت صلتها بالحياة ـ من كان يصدق ان اللغة العربية وشعرها سينهضان من جديد في القرنين الماضيين ويعودان مع البارودي وشوقي وحافظ ولطفي السيد وطه حسين والعقاد والحكيم ونجيب محفوظ ومن عاصروهم في الأفكار العربية الاخري ومن ظهروا بعدهم من الشعراء والكتاب المصريين أكثر حياة وغني وخبرة.
الشعر لايموت. والحاجة إليه لا تنقضي لأنه بكل بساطة أصل اللغة، لا اللغة من حيث هي أدوات، بل اللغة من حيث هي ذاكرة أو تراث جامع أو هوية تمنحنا الشعور الذي نحتاج إليه بالانتماء. والشعور بالانتماء يصلنا بالعالم المحيط بنا ويمكننا من الاندماج فيه ورصد حالاته وتسمية مفرداته، وعندئذ تعرفه ونشعر فيه بالأمان.
وقبل أن تكون اللغة تقريرا وتصويرا، قبل أن تكون أداة للاتصال من جهة وأشكالا أدبية من جهة أخري ـ قبل هذه المرحلة التي تميزت فيها وظائف اللغة وانفصل بعضها عن بعض كانت اللغة كلها شعرا يعبر به المتحدث عما يراه وما لايراه وعما يتخيله ويتمناه ويحلم به. في تلك المرحلة كانت اللغة ناطقة بما في الكيان كله، العقل والقلب والجسد من أحاسيس وصور ورغبات ومشاعر وأفكار وعواطف وذكريات وشهوات وأحلام وأصوات وإيقاعات وهواجس. وهذا هو الشعر الذي نقرؤه أو نسمعه فيعود به إلي أصل اللغة نتمثل به هويتنا ونستعيد قدرتنا علي الاتصال بالعالم اتصالا حميما في تجربة شبيهة بالتجربة الصوفية التي ننتقل فيها من ظاهر الاشياء الي جوهرها أو نتردد بينهما ونتمثل الوجود في وحدته ونندمج فيه وننتشي به، وذلك لان الشعر لغة كلية تتراسل فيها الاسماء والأفعال والاشارات والاستعارات والمعاني الصريحة والمعاني المضمرة، وقد انتبه النقاد لخصوصية لغة الشعر منذ ألف ارسطو كتابه عن فن الشعر وأعلن فيه أن «الشعر أقرب إلي الفلسفة من التاريخ، لأن صناعة الشعر صناعة كلية اكثر، وأما التاريخ فيخبر بالجزئيات».
وقبل أن يكون الشعر فنا مثقفا ينسب لمن تفرغوا له وأوقفوا جهودهم عليه كان فطرة ينطق بها من وهب القدرة علي القول دون أن ينسب ما يقوله لنفسه أو يعتبره ملكا خاصا. والشعر بهذا كالماء والهواء حاجة مشتركة وملكية عامة. فإذا كان صحيحا أن الشعر حاجة مشتركة وملكية عامة كيف نفسر إذن غيابه وانصراف الجمهور عنه؟
هل يكون هذا الغياب الذي نلاحظه ونشكو منه عقما أصاب المصريين فلم يعودوا قادرين علي إنجاب أجيال جديدة من الشعراء، وأصاب الشعراء فلم يعودوا قادرين علي تلبية حاجتنا للشعر؟
وباستطاعة القارئ العزيز أن يجد في الفقرات التي سبقت إجابة مبدئية علي هذا السؤآل. فمادام الشعر حاجة ضرورية لكل جماعة إنسانية فهو فن حي، قد يصاب بالضعف والهزال، وقد يتراجع في العصور التي لايجد فيها ما يحتاج إليه كل نشاط حي من رعاية واهتمام، لكنه ينهض من جديد ويزدهر حين يلقي الدعم والرعاية، من يطلبونه ويحتاجون إليه.
نشكو من عدم الرعاية
مع أننا نمر في هذه الأيام بمرحلة صعبة تراجعت فيها ثقافتنا تراجعا مخيفا في كل المجالات فنحن في الشعر لانشكو من العقم وإنما نشكو من عدم الرعاية. نحن ننجب أطفالا كثيرين، لكننا نلقي بهم في الشوارع. وكذلك نفعل في الشعر.
مصر تنجب كل يوم مواهب جديدة في كل الفنون، لكنها لاترعاها. وباستطاعتي الآن، وأنا وثيق الصلة بالحركة الشعرية، أن أسمي عشرات من الشعراء الموهوبين لايعرفهم ولم يسمع بهم ولم يقرأ اشعارهم إلا القليلون. إيهاب البشبيشي، ومحمد المعصراني، وأحمد عبادة، وأحمد ابراهيم، وسامية سلوم، وهاجر عمر، وشيرين العدوي، وشيماء بكر، وجيهان عمر، ومحمد منصور، وعماد غزالي، وأشرف البولاقي، وحسن عمار، ومحمد هشام، وحسين قباحي، وسعد عبدالرحمن.. وأنا هنا لا أقصد الحصر، ولا أتعمد هذا الترتيب، فضلا عن أني لا أدعي معرفة الجميع ، وهم كثيرون منتشرون في أنحاء البلاد ، في الدلتا والصعيد وفي سيناء والواحات ، لم يغادروها إلي العاصمة التي لم تعد تهتم بأبنائها فكيف تهتم بأبناء الأقاليم البعيدة أو القرية ؟ وكيف نهتم بالشعر وكيف نحتضنه ونرعاه اذا كانت كل صور الاهتمام وكل أدوات الرعاية ناقصة أو مفتقدة ؟ برامجنا الدراسية لا تمكن أبناءنا من قراءة الشعر وتذوقه . بل هي لا تمكنهم من أي قراءة ، لأنها لا تعلمهم اللغة كما ينبغي أن يتعلموها . وأنا لا أجازف هنا بما أقول ، وإنما أتحدث عما جربته وامتحنته بنفسي في حديثي مع الكبار والصغار وفي أحاديثهم معي ومع غيري ، فضلا عما رأيته ونظرت فيه من الكتب المدرسية المقررة علي التلاميذ المصريين في اللغة العربية .
وكيف نهتم بالشعر وكيف نحتضنه ونرعاه اذا كانت مصر الآن خالية من أي منبر خاص بالشعر؟ لا مجلة شهرية ولا فصلية ولا حتي صفحة في جريدة يومية . وهي التي كانت في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته ، أي في الوقت الذي كانت فيه الثقافة نشاطا خاصا يقوم به الأفراد والجماعات ولا تتحمل الدولة أعباءه ولا تتدخل فيه - في ذلك الوقت كانت مصر تصدر الرسالة ، والثقافة ، والكاتب المصري ، والكتاب ، والشاعر ، والرواية ، والقصة وغيرها وغيرها .
وكيف نهتم بالشعر ونرعاه اذا كانت إذاعاتنا المسموعة والمرئية تتجاهله وتفضل عليه أي ثرثرة وأي مشهد مبتذل ؟ بل نحن نري أن هذه الصحف وهذه الإذاعات لا تكتفي بتجاهل الشعر والانصراف عنه وعن أصحابه ، وإنما هي تحاصره وتقطع عليه الطريق باللغة السوقية والأغاني الرديئة التي تتبناها وتشيعها في أوساط القراء والمستمعين والمشاهدين ، فإن التفتت مرة للشعر فهو إعلان مدفوع أو مجاملة يقدمها من لا يملك لمن لا يستحق .
وقد كان المنتظر وقد أصبحت عندنا وزارة للثقافة أن نحسن قراءة الواقع الثقافي ونضع أيدينا علي ما فيه من ثغرات وسلبيات ونتدارك الخطر قبل وقوعه ونعالج ما يطرأ ويجد بالصورة التي تقلل الخسائر وتضاعف المكاسب . لكني أري أن العكس هو ما يحدث فالشعر لا مكان له في مجلات وزارة الثقافة ، والسلاسل الشعرية التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب ومنها « ديوان الشعر العربي» و « الإبداع الشعرى المعاصر» لم تعد تصدر وليس هناك تبرير وليس هناك تفسير !
ويبقي الدور الذي يؤديه النقد في التعريف بالشعر والشعراء وفي عقد الصلة بين هذا الفن وجمهوره ، وهو دور لا يجد من يؤديه . فنقاد هذه الأيآم يُضلون الكتابة عن الروايات والقصص ، لأنها أكثر رواجا في هذه الأيام ، ولأن الكتابة عنها أسهل . كما أن قراءتها أسهل . والمنبر الوحيد الذي بقي للشعر في مصر هو بيت الشعر الذي أنشأته وزارة الثقافة قبل خمس سنوات باقتراح قدمته للفنان فاروق حسني فاستجاب مشكورا . فضلا عن بيت آخر أنشأه الشيخ سلطان القاسمي أمير الشارقة في الأقصر في نهايات العام الماضي وتولي إدارته الشاعر حسين القباحي . هل آن لنا أن نعرف للشعر حقه ، وأن نؤدي واجبنا نحوه ؟
كلانا لاعبٌ
إلى روح رفيق الدرب: الشاعر حلمي سالم
كلانا لاعبٌ
ـ ماذا تٌريدُ من القَصيدِ؟
ـ أُريدُ تَولِيدَ الجَديدِ من القديمِ..
كمثلِما تتولَّدُ الخمْرُ النَّبيذُ مِن الكُرومِ
بدونِ عَمدٍ في الدِّفاعِ.. أو الهُجومِ
علي عُمومِ قواعِدِ النَّظْمِ المُقررَّةِ!
ـ اتفَقْنا.. واختَلفْنا يا أخِي
أمَّا أنا فأُريدُ تلقِيحَ القَصيدةِ ما استطعْتُ
بوَمْضِ روُح العصْرِ في الدُنيا الجديدَةِ..
ـ اختلفنا.. واتفقنا يا رفيقِي
إنِّما لو كنتَ تَشرحُ:
كيفَ يمُكنُ أن تُلقِّحَ ما تُنقِّحُ!
ـ انِّها نَظريَّةٌ في الشِّعرِ مُحدَثَةٌ
يكونُ الشَّكلُ فيها ـ عيْنُةُ ـ المضمونَ!
حتي إنْ نزعْتَ عن القصيدةِ قشرةَ المعْنَي
تبقَّتْ في اللُّبابِ أَثارةٌ لِمُطالِعِيها مِن مَعانِيها المُقشَّرَةِ!
ـ اتَّفقْنا.. أو نكادُ..
وإنِّما تَبدُو كأنكَ يا شَريكُ:
تلوكُ ما يهْذِي بهِ النُّقَّادُ!
ـ لا تُنكِرْ عليَّ الأخْذَ بالنَّقدِ الحَداثِيِّ الجَريء..
وما يَجىءُ بهِ من الرؤُّيا المُبلوَرَةِ!
ـ احترِسْ مِن هَرْطقاتِ الجاهلينَ
ألا تَراهُمْ يَهرِفُونَ بكلِّ ما لا يَعرفونَ!
يُفسِّرونَ ويَشْرحونَ..
ولا يَعُونَ حَقيقةَ النَّصِّ الذي يَتأوَّلُونَ!
فلا تُصدِّقْهمْ
غُموضُ النَّصِّ أَبهَي مِن حَواشيهِ المُفسِّرَةِ!
ـ اتَّفقْنا يا رفيقُ إذنْ
فما هُو خيْرُ وقتِكَ في الكتابَةِ؟
ـ خيْرُ أَوقاتِي:
إذا رئَةُ الحُروفِ تنفَّسَتْ
بين اللُّيونَةِ والصُّعوبَةِ أسْلَسَتْ
ومِن العَذابِ إلي العُذوبَةِ أسلَمَتْ
فتراقصَتْ في النَّصِّ أطيافُ الدَّلالَةِ..
مِن وراءِ غُلالةِ الرَّمزِ المُشفَّرةِ!
ـ اقتربْتَ مِن الذي أصبو إليهِ
فخيْرُ أوقاتِي انعِطافٌ للِوصولِ ـ
إذا استوَتْ كلُّ الحُلولِ معاً ـ
إلي الحَلِّ البَديلِ..
هُو انحِرافٌ بالقصيدِ عن السَّبيلِ
لكيْ تذوبَ مع الكتابَةِ:
مُعطَياتُ الواقعِ المَبذولِ
في الصيِّغِ المُحوَّرَةِ!
ـ اقتربتَ من الذي أبغيهِ
لكنْ كيفَ تَرْوِي ما كتبتَ؟
ـ كمَا أتَي أرْوِيهِ..
ـ كلَّا يا أخِي
فأنا إذا أَشفقْتُ أنْ يُروْيَ عليَّ..
رَدَدْتُهُ خلفَ التَّراقِي.. والحُنيْجِرَةِ!
ـ اختلَفْنا في اتِّفاقِ يا رَفيقُ..
أنا اعترفْتُ الآنَ: أنتَ نحَتَّ مِن صخْرِ
ففجَّرْتَ المَعيِنَ لنا مِن اللُّغةِ المُحجَّرَةِ!
ـ اتَّفقْنا في اختلافِ
واعترفْتُ أنا بأنكَ يا صديقُ غرفْتَ مِن نهْرِ
فرطَّبْتَ الشَّفاهَ بِرشفَةٍ في يوم حَرِّ
أنتَ كم أَرْويْتَنا.. فكأنَّ مِن خَمرٍ
وغيْركَ ظلَّ يمتَحُ بالدِّلاء لنا
مِن التُّرَعِ المُعكَّرةِ!