رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

عن حياة طبيب نفسى كبير ولامع 6
تفاصيل أساسية عن زماننا المرتبك

منير عامر
«تمتد من أحداث الواقع مخالب غير مرئية تنغرس في أعماق الإنسان فيشعر بنزيف هائل في أعماقه ، نزيف إحساس بأنه مهدر ولا قيمة له ولأن هناك سبعة وثلاثين من الأحماض الأمينية التي يفرزها المخ ؛ لذلك تبدأ تلك الأحماض في مواءمة امتزاجها في محاولة إدارة المخ للواقع الذي تنغرس فيه تلك المخالب».

...........................................................

هذا ما استمعت مندهشا أثناء حواري مع د. أحمد عكاشة، عندما التقيته ذات نهار قديم في الأقصر إبان رئاسته للجمعية العالمية للطب النفسي، وكان بصحبة وفد من علماء الجمعية جاءوا لزيارة الأقصر ويستمعون لمحاضرة له عن الاكتئاب وأثر الأدوية المطمئنة لتهدئة المعارك الطاحنة التي تدور في أعماق الفرد لعله يعيد قيادة ساعات حياته دون أن تدهمه المشاعر السلبية أو العدوانية التي تلقيه مهزوما ومرهقا وشاعرا بأنه مخلوق زائد عن حاجة الكون.

والأقصر في حياة أحمد عكاشة لها ذكريات خاصة ، فزيارتها لأول مرة كانت هي الهدية التي أرادها لنفسه قبل السفر إلى لندن وأدنبرة لنيل الماجستير والدكتوراه ( الزمالة) في الطب الباطني والطب النفسى.

وهل كان من الممكن لشاب مصري أن يرحل إلى الغرب دون أن يرتوي بإضافات الحضارة الفرعونية ؟، كان هذا القرار بالارتواء من نهر التاريخ المتدفق بلا توقف هو ابن مناقشة بينه وبين شقيقه د. ثروت عكاشة ، هذا الذي تبدو ذاكرته مستوعبة لما جرى من إبداع مصري وإنساني عبر العصور المختلفة، فثروت هو الأب الروحي لفكرة الثقافة في حياة أحمد عكاشة وفي حياة أجيال من المثقفين . وارتوى منها كل من تلامس مع موهبة ونظام ثروت عكاشه لإدارة الحياة من خلال إستيعاب التاريخ ليعيش الحاضر ويطل على المستقبل. لذلك كانت رحلة أحمد الأولى إلى الأقصر بعد حوار بينه وبين شقيقه الأكبر. ومن الذاكرة تطل على أحمد صورته قبل زيارة الأقصر ، وكيف قرر هناك قرارا يخص صورته في المرآة_ بعد الزيارة _ وهو أن يحلق شاربه الذي كان يربيه أثناء فترة النيابة بعد مناقشة استمرت ساعات بينه وبين سيدة إنجليزية عن الحياة في إنجلترا التي سيسافر إليها لينال الدكتوراه . يذكر أن السيدة قالت له: « في لندن لم يعد الشاب العادي يربي شاربه ، فبعد هزيمة إيدن رئيس وزراء بريطانيا المهزوم في حرب السويس وهو واحد من أشهر مرضى الاكتئاب ومعظم شباب إنجلترا كان يعلم مدى اعتزاز أنتوني إيدن بشاربه، ومن بعد حرب السويس لم تعد تربية الشارب رمزا محبوبا أو مرغوبا».

تذكر أحمد يومها أن شلة من أصدقاء ثروت قامت بتصوير ملامح أنتوني إيدن بدلا من ملامح الأسد البريطاني وقد أنقلب على ظهره بعد حرب السويس وصار مجرد كائن يرفس بأقدامه وظهره ملتصق بالأرض. وصراخه لا يسمعه أحد، بل هناك ضحكات تتردد من أقصى الكرة الأرضية في الهند ، إلى أقصاها الآخر في الأرجنتين،وعلى مدى هذا الاتساع الكوني تمت مشاهدة رمز بريطانيا العظمى وهو يرفس طالبا البقاء في قيادة العالم، وببساطة كان سقوط هيبة وأهمية الشارب متزامنة مع هزيمة بريطانيا في السويس . وعندما تأتي سيرة تلك الأيام نجد هؤلاء الشباب قد حسموا المسألة . فأسقطت أهمية الشارب الكثيف من تحت أنف أي منهم .

..............................

وقف أحمد عكاشة في الأقصر أمام تمثال «إمحوتب» وهو أول طبيب مصري أهدى للبشرية فكرة عن ضرورة علاج النفس قبل الجسد ، ولم يجد أحمد، لإمحوتب شاربا ، بل وجد الشارب لحتشبسوت التي كانت تحب أن تظهر بمظهر الصرامة . ولأن أحمد لم يكن يملك أدنى رغبة في أن يبدو على غير حقيقته ، ولم يكن في خصام مع سنوات عمره ، وكان عمره يوم أن حلق شاربه هو واحد وعشرين عاما ، وكان الشارب له مهمة واحدة في حياته وهي أن يعطيه بعضا من التقدم في العمر أمام مرضى مستشفى الدمرداش التي قضي فيها فترة النيابة .حيث كان المريض من هؤلاء يدقق النظر إلى وجه الطبيب ليرى هل تعدى الثلاثين أم لا ؟ فالمريض يشك دائما في أن الشباب الصغير يتعلم ويجرب فيه، ويرفض مريض المستشفى الكبير فكرة أن يستخدمه الطبيب الشاب كميدان للتجارب، لذلك يقاوم المريض المصري ذلك بالاستخفاف من الطبيب، فيقابل الطبيب الشاب ذلك بمحاولة فرض الهيبة بشكل أو بآخر؛ والشارب حين ينمو؛ يضيف إلي العمر سنوات. ويتذكر د. أحمد تلك الأيام؛ لم يكن يلهث من أجل أن يكبر ؛ فلم يكن يكره أيام دراسته من الطفولة إلى التخرج. درجة من التوافق العمر أخذها من الموسيقى ، فالموسيقى تنمو وتتدرج وتعلو ، وهي في كل درجة من درجاتها لها قدرة من الجمال الفائق ، لم يكن يدعى لنفسه الحكمة في الصبا؛ ولكن إذا ما نشأت في بيت يفتح لك قمة المجتمع ، وإذا درست في كلية تفتح لك داخل الإنسان وإذا تخرجت من تلك الكلية؛لتفتح لك المستشفي التي تتدرب بالكشف على بشر يعيشون في قاع المجتمع؛ وتجد أمامك أفقر طبقات مصر وهم يصطفون في طوابير ؛فهذا ما يكسبك كطبيب شاب أرقى ما يتمناه أي طبيب في أي بلد على وجه الأرض ، وهو القدرة الفورية على التشخيص المبدئي بالحدس ؛ وهو التشخيص الذي سيجبر الطبيب الشاب نفسه على أن ينساه ، قبل أن يبدأ في فحص المريض بدقة ،وبعد الفحص قد يعود لذاكرته التشخيص الدقيق بما توصل إليه بالحدس من قبل ؛ ذلك أن هناك لغة أخرى غير الكلمات تدور بين الطبيب والمريض . وحين يقوم الطبيب بالكشف على خمسين مريض في اليوم، فالملامح تحكى قصة المرض. والإمكانات دائما قاصرة ، والحلم النابض في قلب كل من الطبيب الشاب والمريض الواقف في الطابور يتلخص في أن تتوفر الإمكانات للقضاء على أي مرض . ولذلك فعيون الطبيب لا تغيب عن ظروف المجتمع ، ومن ظروف المجتمع إلى ظروف العالم .

لا ينسى أحمد لحظة أن قرر أن يحلق الشارب ،لأن تمثال إمحوتب لم يكن له شارب ؛ فأمسك بماكينة الحلاقة وأزال الشارب ، فوجد الوجه نظيفا . لا ينسى أحمد عكاشة هذا اليوم لأنه اليوم الذي قرأ فيه أيضا ترجمة لما جاء بإحدى البرديات تشخص فيها زوجة مرض زوجها بالاكتئاب ، حيث تقول البردية « .. لقد رفع ملابسه و رقد ، لا يدري أين هو .. أما زوجته فقد مدت يدها تحت ثيابه وقالت: يا أخي لا أشعر بالحمى في صدرك أو أطرافك ، ولكنه الحزن في قلبك «وكلمات البردية هي أقدم كلمات في التاريخ تشير إلى أن الحزن يجعل الإنسان مهدود الحيل غير قادر على الإقبال على الحياة . وكان القلب هو مصدر العاطفة عند قدماء المصريين ؛ ولذا كانت الأمراض النفسية تعالج على أنها أمراض قلب ؛ ولهذا لم تكن الأمراض النفسية وصمة عار . وهذه الكلمات في تلك البردية قامت بتشخيص ضراوة الحزن ، لأن الزوجة المحبة كانت تطلب لنفسها ولزوجها راحة البال . ولم تكن المصرية القديمة وهي تقول تلك الكلمات تملك علاجا إلا أن تدعو زوجها إلى صلاة معينة في معابد مصر القديمة فهي أول باب ملكي للخروج من الهموم . وهي الصلاة التي وضعها الطبيب إمحوتب ـ ومعنى اسمه «ذلك الذي يأتي في سلام «ـ هو أول من قام بتأسيس معبد الكمون أو النوم ؛ وكان طبيبا لزوسر وكان العلاج النفسي يقتضي أن يأخذ الإنسان قدرا من المهدئات ثم يدخل إلى معبد النوم، فتتفجر فيه الأحلام أو الكوابيس ثم يستسلم الإنسان للهدوء النفسي بفعل الأعشاب والعقاقير المهدئة ؛ وقد يكون الأفيون من بين تلك المهدئات ،وكان الإنسان يخرج من معبد الكمون هذا وقد امتلك بعضا من التفسيرات لأحلامه ، وهي تفسيرات تعطي الأمان ولا تخرج عن تفسيرات الأحلام التي يمكن أن تقولها قارئة فنجان في زماننا. وكانت تلك هي أولى محاولات العلاج النفسي في مصر القديمة ، علاج اضطرابات التفكير والانفعالات والسلوك بالعقاقير المهدئة ، بالإضافة إلى العلاج الروحاني بتأثير الإيحاء وسلطان الكهنة .

كان قرار حلق الشارب مريحا لأحمد عكاشه فقد تزاحمت في رأسه صور سطوة الإنجليز على شوارع القاهرة وهتاف طلبة مدرسة فاروق الإبتدائية مختلطة بهتاف طلبة مدرسة فؤاد الأول الثانوية أثناء الخروج في مظاهرات تطلب الجلاء ، ثم التجمع في ميدان التحرير أيام أن كان إسمه ميدان الإسماعيلية، ثم تفريق المظاهرات إما بعساكر «بولك النظام» أو بالعساكر الإنجليز، وتطل في ذاكرته ملامح حمدي عبيدعضو الضباط الأحرار المسئول عن جزء من المتطوعين من طلبة الجامعة لمقاومة العدوان الثلاثي ، وكان أحمد قد تطوع ضمن الطلبة منتظرا التدريب والسفر إلى خط المواجهة لكنه عاش أياما في الزقازيق داخل مدرسة تزدحم بالبراغيث ، فلم يكن ينام وتقوده ذاكرته إلى أصدقاء الصبا ورفقاء مدرسة مصر الجديدة الثانوية ، وجوه زملاء تلك الفترة من العمر حسين صبور المعماري الكبير، ونبيل العربى وعبد الهادى قنديل، وحسين سالم الذي يعيش حاليا في أسبانيا على كرسي متحرك بعد أن خدم مع أمين هويدي صديق ثروت عكاشه وعضو الضباط الأحرار ، كان عمله مع أمين هويدي أثناء وجوده سفيرا لمصر في بغداد ثم مديرا للمخابرات العامة بعد صلاح نصر ؛ ولكن الأيام ساقته إلى الجنسية الاسبانية والوقوع في شرك أيام حسني مبارك ، فمضى إلى حياة لم يكن يتمناها لنفسه ذلك أن دنيا « رجال الأعمال» تبدو من الظاهر وكأنها السطوة والسلطان ، لكن في باطنها يوجد الأسر وقلة الحيلة وعدم القدرة على الخروج من شبكة المصالح المتعارضة.

وطبعا هناك فارق بين حسين سالم وبين صلاح نصر الذي عمل معه أمين هويدي نائبا، ثم مديرا للمخابرات بعد هزيمة يونيو 1967 ، فالذين يعرفون تاريخ صلاح نصر لابد أنهم يتذكرون أول كتاب يدرس الأحلاف العسكرية عام 1948 قام بتأليفه صلاح نصر مع زميله كمال الدين الحناوي الذي رأس دار التحرير للطبع والنشر لفترة ما بعد هزيمة يونيو ، ففي اللحظات التي عاشها صلاح نصر خلف القضبان فيما سمي قضية فساد ، كان زميله في البحث الإستراتيجي يرأس دار التحرير والتي صدرت رخصة تأسيسها بإسم جمال عبد الناصر, وطبعا لم يندهش أحمد عكاشة حين إتصل به المدعي العام العسكرى فور بدء محاكمة صلاح نصر طالبا شهادته عن صلاح نصر . وبما أن الشهادة أمر حتمي ومسئولية ، لذلك ما أن وقف أحمد عكاشة أمام من يستجوبه حتى كان السؤال عن العلاقات النسائية لصلاح نصر. ولأن أحمد عكاشة مدرب على فنون الاستجواب سأل هو المحقق أليس لك أبناء ؟ أجاب المحقق ضاحكا « طبعا لي أبناء» ، فقال أحمد عكاشة « وبما أن لصلاح نصر أبناء فلابد أن في حياته علاقة بالجنس الآخر» . حاول المحقق استدراج أحمد إلى منطقة التشهير بصلاح نصر ، فرفض لتذكره زيارات ما بعد صلاة الجمعة لصلاح نصر في منزله ، وهي زيارات رآى فيها الكثير من نجوم قمة المجتمع وهم يقدمون للرجل الولاء، ومن الوجوه التي لا ينساها هو وجه عثمان أحمد عثمان الذي مضى فيما بعد الهزيمة العسكرية كثير الهمز واللمز عن صلاح نصر ، مثلما فعل مع عبد الناصر بعد رحيله . يتذكر أحمد عكاشه أنه قام بأكثر من زيارة لصلاح نصر هذا الذي بدأت رحلة اغتيال سمعته بعد هزيمة يونيو 1967 ، وطبعا لحظة أن احتدم الخلاف بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ، وانتهى الخلاف بإنتحار عبد الحكيم عامر وبقيت محاكمة من شكت أجهزة الدولة أنهم متضامنون معه ، فكانت قصة محاكمة صلاح نصر . وكان في ذاكرة أحمد عكاشه ما قرره صلاح نصر كمدير للمخابرات العامة أن يقوم بدراسة الحرب النفسية عبر التاريخ والواقع الذي نعيشه في مصر ، وقام ثروت عكاشه بإخبار شقيقه أحمد برجاء صلاح نصر، لأحمد أن يساعد فى الاشراف على هذا الكتاب . فكانت هناك زيارة أسبوعية كل يوم جمعة بعد الصلاة لمنزل صلاح نصر ليناقش ويراجع مادة الكتاب . ولا داعي أن نقول أن كمية العلم في كتاب « الحرب النفسية» بجزئية مازلنا في حاجة للتعرف على أسرارها التي مازالت مطبقة حتى كتابة هذه السطور . ولأني أنا كاتب هذه السطور قمت بمراجعة بسيطة وعاجلة لما في الجزئين من وقائع وأساليب تمنيت أن تصدر طبعة جديدة منهما ليكونا تحت عيون المصريين والعرب الذين يعيشون حاليا قمة حرب نفسية تحاول سرقة كل أمل من أي قلب . فمؤلف الكتابين قد وضعهما وهو في قمة النفوذ وطبعا لم يكن يعلم أن خطواته ستقوده إلى قفص المحاكمة بتهمة الانحراف . ومازالت ذاكرة أحمد عكاشة تحمل الامتنان لحسين الشافعي رئيس المحكمة التي حاكمت صلاح نصر ، فقد اتصل به حسين الشافعي ليقول له « أنت رجل تعرف معنى الوفاء فلم تنطق أثناء استجوابك بأي كلمة تسيء لصلاح نصر» ، فكان رد أحمد عكاشه « الطبيب النفسي يتدرب على حماية أسرار من يتعامل معهم. وكان لابد من قول الحقيقة وهي أن زيارات يوم الجمعة لمنزل صلاح نصر كان الهدف منها مراجعة كتاب الحرب النفسية بجزأيه، وهو بالمناسبة كتاب موسوعي يجب على كل مسئول دراسته». وطبعا كان أحمد عكاشة قد سقطت من ذاكرته تلك الزيارة المفاجئة التي قام بها ثروت عكاشة له وهو يدرس البعثة في أدنبرة ، فسأله ثروت: « هل اشتريت سيارة ؟ ّ أجاب: « نعم لأني أعمل بجانب الدراسة وهذه إيصالات أقساط السيارة» وعرف أحمد أن أحد الأجهزة قد أرسل تقريرا لجمال عبد الناصر يقدم بعض الشكوك في كيفية إمتلاك طالب بعثة لسيارة ، وذهبت الشكوك إلى أن أحمد يجمع نكاتا وإشاعات يقدمه لزوج شقيقته أحمد أبو الفتح صاحب جريدة المصري وهو من خرج إلى سويسرا ومتهم من قبل الأجهزة المصرية بأنه ينشر الإشاعات والنكات ضد جمال عبد الناصر. وعندما تأكد ثروت عكاشة من كيفية شراء السيارة وأقساطها ، عاد الشقيقان في زيارة قصيرة لمصر ، التقيا فيها مع جمال عبد الناصر ، الذي شكر لأحمد حرصه على سلامة السلوك . وأضاف عبد الناصر لأحمد عكاشه « ولماذا اخترت لنفسك دراسة الأمراض النفسية ؟ قد تعود إلى مصر ونكون قد وصلنا إلى تطبيق حقيقي وفعال للاشتراكية ، ومن المؤكد أن الأمراض النفسية ستكون قد اختفت بحكم تأسيس المجتمع الاشتراكي « فقال أحمد عكاشة : تلك أمنية طيبة ولكنها مستحيلة التحقيق لأن المجتمع في الشرق خلف الستار الحديدي هو أعلى المجتمعات في نسبة الإٌنتحار والانتحار لا يقع إلا عندما تزيد الأمراض النفسية إلى ما فوق الاحتمال « ، هنا قال ثروت عكاشة «إنجز دراستك وعد . وإن وقعت في مأزق مادي فما تركه لك والدك بالإضافة إلى وجودي لابد أن يكلف لك حياة مقبولة ».

وعندما عاد أحمد عكاشة من البعثة وكان حديث الزواج من السيدة جينفر أقاما في البداية في بيت العائلة ثم استأجر أحمد شقة بمصر الجديدة ليسكن في الدور السادس وكان جاره في الدور الارضى الضابط حسني مبارك .

وافتتح أحمد عكاشة عيادته وعمل مدرسا مساعدا في قسم الأمراض العصبية والعقلية ، وكان هو بداية تأسيس قسم الأمراض النفسية . ويذكر بابتسامة خفيفة الزوجة التي رفضت بكياسة أي عرض للمساعدة المادية من ثروت وهو من كان يرأس وقتها البنك الأهلي ، قالت لي أنا كاتب هذه السطور « يكفي أن ابننا الأصغر هشام صار الآن رئيسا للبنك الأهلي خلفاً لعمه ثروت عكاشه، وقد وصل إلى تلك المكانة بجهد علمي حثيث ودقيق ودراسات مركزة ، وهشام وصل لمكانته بعد سنوات عديدة من اعتزال د. ثروت كل المهام الوظيفية ، وكنت معنا في بيتنا الريفي على بحيرة التمساح وكان يحدثك عن اعتزاله أي عمل إلا عملا واحدا أحبه وأراد استكماله وهو موسوعته « العين تسمع والأذن ترى «التي ترصد الفنون من خلال الثقافات . ومازلت أتذكر قوله لك: أسمع يامنير لقد إعتزلت أي عمل عام بعد كشف طبي دقيق في سويسرا قال لي في نهايتها الطبيب المشرف: « أنت من نوعية البشر الذين يعيشون على أشواك الإحساس بضخامة المسئوليات ، ولو استمرت مواصلتك لعملك العام فأنت تقصف عمرك بيديك . ولك أن تفضل بين أمرين ، هل تفضل أن تكون جنازتك كبيرة تضم كل رجال الدولة والحكم ؟ إن كنت تفضل ذلك فلا مانع من أن تستمر في عملك العام . أما إن كنت تفضل أن تعيش لما تحب وهو التأليف في مجال الفنون فلسوف تعيش عمرك المقدر لك وستكون جنازتك بلا عدد ضخم من البشر».

..............................

الارتقاء بالذوق العام هو ما تفعله زيارة الأماكن الأثرية ، وقد اختار د. أحمد عكاشه زيارة الأقصر لمؤتمر دولي عن الاكتئاب، ووسائل العلاج المعاصرة لكروب هذا الزمان . وطبعا كانت هناك مجموعة من الأمريكيين والإيطاليين، وكان الحديث يدور بين الجميع عن الكرب الجديد اللاهث في سماء الكرة الأرضية ، وكانوا يلتفون حول د. أحمد عكاشه ،وكان سؤال أطلقه طبيب أمريكي: « هل يكرهنا المصريون ؟، وكعادته في بعض المواقف أن يرد السؤال بسؤال آخر ، فقال لهم: «هل شعرت طوال الرحلة بأن هناك من يكرهك ؟ وأجاب كثير من الأمريكيين في نفس واحد « لا» . فقال لهم : لماذا لا تكتبون للساسة الأمريكيين ليتوقفوا هم عن كراهية أهل هذه المنطقة من العالم ؟ أتعلمون أني ألقيت منذ تسعة عشر عاما محاضرة في واشنطن نفسها ، وفي العديد من الجامعات الأمريكية عن كراهية شعوب العالم للسياسة الأمريكية ، ومازال البيت الأبيض غير مستفيد من الدراسات الجامعية ، ومن المحاضرات التي تستحضرون بها أساتذة من كل بقاع الأرض ، على الرغم من معرفة الجميع بأسلوب الولايات المتحدة في التعامل مع البشر قد ينتج لها رفاهية مادية لبعض الوقت ، ولكنه يسبب لها تعاسات متجددة أغلب الوقت .

قاطعه أحد الأمريكيين : مادمتم لا تكرهوننا فلماذا كان الحادي عشر من سبتمبر؟.

أجاب الدكتور أحمد : إن كنت تبحث عن السبب المباشر ، فهو يقطن في أسرار أمريكا الدفينة ، وإن كنت تبحث عن الأسباب القائمة على التحليل ، فدعني أقول لك أن الحادي عشر من سبتمبر هو ابن لحالة الاكتئاب العميق التي وضعتم فيها العالم ، فإن كان الفاعل ـ كما تقولون ـ هو بن لادن ، فأنتم أول من شجع بن لادن ، واستخدمتم فهمه غير المعاصر للإسلام ، لتوجهوا به طعنة للروس ، ففوجئتم به بعد أعوام من فراغه من الروس في أفغانستان يوجه لكم نفس السلاح ، فهم غير معاصر للإسلام ، وصنع من الدمى البشرية ما حقق به أكبر كارثة في بلادكم ، على الرغم من أنكم ترون كل يوم كارثة مماثلة في فلسطين ، حيث يموت الأطفال ، وتقدمها تلفزيونات بلادكم ، وكأنها حوادث مثل حوادث المرور لا ينفعل لها أحد ، بينما حين يحاول الفلسطيني أن يقاوم ويفجر نفسه في أتوبيس إسرائيلي ، أو أن يطعن إسرائيليا بسكين ، فأنتم تصورون الضحايا وكأن كل منهم له قداسة تعلو قداسة السيد المسيح نفسه ، على الرغم من أن هدم المنازل ، وقتل الأطفال ، وحصار المدن ، عمل بطولي في نظر السياسة الأمريكية ، ومن أجل أن تظل محطات البنزين عامرة بالبترول . تماما مثلما تقوم حكومتكم بتمويل حصار مصر حاليا ، والعبث بأقدار منطقة الشرق الأوسط التي باعت لكم برميل البترول لسنوات بثمن يقل عما تبيعون أنتم به لنا برميل الكوكاكولا . دعني أذكر لك أن أسلوب حكم أمريكا للعالم يجعلني وأنا في موقعي هذا كطبيب نفسي أتمنى من أطباء النفس عندكم أن يوجهوا الدعوة لأسلوب السياسة الأمريكية ليقولوا لهذا الأسلوب «أنتم أيها الساسة تجعلون من أمريكا اسما لمرض نفسي جديد اسمه عدم احترام حق البشر خارج الولايات المتحدة في العيش حسب ثقافاتهم». على أية حال من المؤكد أنكم مبدعون حضاريا في جمع التفاصيل ، ولكن بينكم وبين فكرة التاريخ معركة ذاتية أمريكية لم يتم حسمها ، ولابد أن يتم حسمها في يوم من الأيام .

تساءلت إحدى الحاضرات : ماذا تقصد بفكرة المعركة مع التاريخ ؟

يقول د. أحمد : أنتم في الشرق الأوسط توحدون أنفسكم مع إسرائيل ، فإسرائيل هي التكرار الجديد لفكرة إبادة السكان الأصليين ، وقد قام الأمريكيون المؤسسون بإبادة شعب كامل هو الهنود الحمر ، وإسرائيل تكرر القصة من جديد وتصف نفسها بأنها المنارة المعاصرة للحضارة في منطقة يستحق سكانها الإبادة وهم العرب . وأنتم تصمتون على ذلك وتمدونها بكل ما يضمن لها تحقيق ذلك ، وكأنكم تكررون قصة يرويها صديقي الكاتب الصحفي منير عامر نقلا عن عميد معهد القانون الجنائي الدولي د, شريف بسيوني المصري الجذور الأمريكي الجنسية ، حيث يقول د. شريف : هذه حكاية يستخدمها أي محام في الولايات المتحدة كرمز لمهارة المحامي في قلب الحقائق ، ولكنها قصة توضح منطق فكرة العدل الأمريكي ؛ إنها حكاية الهندي الأحمر الذي رفع قضية ليسترد أرضه التي إستولى عليها مستوطن أبيض ، ولكن في الطريق إلى المحكمة تعثر حصان الهندي الأبيض ، وأصبح الحصان عاجزا عن الحركة فأطلق الهندي الأحمر الرصاص على الحصان ، وقام البوليس بالقبض على الهندي الأحمر ، لأن واحدا من المستوطنين الأمريكيين اتهمه بأنه قتل طائرا . وتم حجز الهندي الأحمر في السجن وتقديمه للمحاكمة ، بدعوى أنه قتل طائرا نادرا ، في منطقة محرم فيها صيد الطيور . وحاول الهندي الأحمر أن يقنع المحكمة بأنه لم يقتل طائرا بل حصانا، وأنه يطلب النظر في قضيته كصاحب أرض ، فطالبته المحكمة بأن يثبت أن الكائن الذي قتله لم تكن له أجنحة . هذا بالضبط كان موقفكم من التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق ، وقمتم بالحرب على العراق لتجريب جيل أسلحة أمريكية جديد ، خصوصا أن الولايات المتحدة اعتمدت على صدام حسين حاكم العراق الذي ادعيتم أن حربكم عليه هي لتحرير الإنسان العراقي، وكان صدام حسين هو من اعتمدتم عليه لمدة ثماني سنوات على الأقل في محاولة تحجيم إيران بعد سقوط شاه إيران . وكان يقدم الخدمات لكم ليل نهار . ولكن جاء وقت إبادته كرجل يعرف كثيرا ، نفس المسألة التي حدثت مع بن لادن ، لا لأن أي منهما غير ديمقراطي ، ولكن لأن كل منهما كان له دور وانتهى. إن ناتنياهو الذي يحترف تزوير الواقع والوقائع ، هو في نظركم رجل سلام !!!! فلا أظن أن هناك شيئا آخر غير الصدمات الكهربائية التي يمكنها أن تعالج نظام إنتاج الاكتئاب السياسي في الكرة الأرضية ، وأعني به السياسة الأمريكية المعاصرة . وهي سياسة لم ينتج الطب أدوية لعلاجها !!!!








مقالات منير عامر

عن أحمد عكاشة

فى كتاب لطلاب الطب



الأخ العزيز الأستاذ: محمد عبدالهادي علام

رئيس تحرير جريدة الأهرام

تابعنا سلسلة المقالات الخمس في ملحق الأهرام الجمعة للكاتب الكبير منير عامر، عن حياة طبيب نفسي كبير ولامع، عن أ.د. أحمد عكاشة.. ونعتبر هذا المسلسل عن عالم كبير هو عمل خلاق لقدوة علمية، ثقافية إنسانية، حيث إن مصر، خاصة كلية طب عين شمس، تفخر بالأستاذ الفاضل الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ طب المخ والأعصاب والطب النفسي بلكلية، الذي حصد أكبر جوائز مصر من جائزة الدولة في الإبداع الطبي.

لذا نرجو موافقتكم علي نشر هذا المسلسل، سواء عشر أو عشرين حلقة في كتاب يوزع علي أعضاء هيئة التدريس، والأهم طلبة كلية طب عين شمس، الذين يتراوح عددهم نحو ثماني آلاف، وهذا علي حساب الكلية، ويوزع مجانا، ليكون بداية لدراسة حياة أحد علماء مصر، الذي اختاره الرئيس السيسي أحد أعضاء المجلس الرئاسي الاستشاري لكبار علماء مصر.

ونتوجه بالشكر لجريدة الأهرام علي نشر سيرة أحد علماء مصر بطريقة تجمع بين الثقافة والعلم والفن والسيرة الذاتية «كوكتيل ثقافي علمي»!!

أ.د. محمود المتيني

عميد الكلية

ورئيس مجلس إدارة المستشفيات

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق