كان الضابط محمد نجيب مفعما بالوطنية، وفي يوم من الأيام قال لزميله في الكتيبة إن أمه مريضة ويريد زيارتها لساعات قليلة ويعود.
في الحقيقة لم تكن أمه مريضة لكنه كان يود مقابلة الزعيم مصطفي النحاس بعد أن قام الملك فؤاد بحل البرلمان ذي الأغلبية الوفدية عام 1929
تنكر الضابط نجيب في جلباب نوبي وذهب لمنزل الزعيم مصطفي النحاس، وقال للبواب أنا ضابط وأريد مقابلة النحاس باشا، ولما لم يصدقه البواب، صعد إلي منزل حمد الباسل الذي يجاور منزل النحاس، وقفز لمنزل زعيم الأمة فهاجمه كلب شرس، ولم ينقذه إلا البواب الذي قاده هذه المرة إلى النحاس باشا.
كان النحاس يجلس مع مكرم عبيد ومحمود النقراشي.. فقال لهم نجيب أحمل لكم رسالة من الجيش.. الجيش مستعد لتنفيذ أي أمر توجهونه إليه.
قال النحاس: كيف؟
قال نجيب: نريد أن تقتحموا البرلمان وتدخلوه بالقوة؟
قال مكرم عبيد: كيف؟
قال نجيب: الأورطة التي تحرس مجلس الشيوخ والتي تحرس مجلس النواب لن يتعرض أفرادها لكم، بل إنهم مستعدون أن يفتحوا لكم الأبواب ويحلوا لكم السلاسل.
فقال النحاس: أنا أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة وأن تكون الأمة هي المصدر الوحيد للسلطات، واتمني أن يكون انتماء الضباط للوطن أكثر من انتمائهم للملك.
ولم يستوعب الضابط محمد نجيب الدرس بدليل أنه بعد سنوات قليلة تزعم ثورة يوليو التي أطاحت بالملك فاروق وأخذت في طريقها النحاس باشا وحزب الوفد والحياة الحزبية والديمقراطية إلي أجل غير مسمي.
وبعد عامين أخذت اللواء نجيب نفسه وحولته من زعيم ثورة تهتف الجماهير باسمه إلي عجوز سجين في فيلا مهجورة يربي القطط والكلاب!
ففي اختبار السلطة يفشل الثوار والحالمون والنبلاء. لا فرق بين ضابط كبير حنكته الأيام مثل اللواء محمد نجيب أو ضابط نبيل مفعم بالحياة كجمال عبدالناصر أو سياسي داهية كالسادات أو فارس بوهيمي كعبدالحكيم عامر أمام السلطة تسقط كل القناعات والأقنعة، وبدلا من معركة تحرير الوطن. والقضاء علي الفقر والجهل والمرض تبدأ معارك التصفية والإزاحة. وهي معارك بلا قلب ينتصر فيها الأقوي والأكثر مكرا، ولحظتها يتذكر المهزوم «الديمقراطية» تلك الكلمة الساحرة التي تقوم من أجلها الثورات.
لكنه عندما يتذكرها يكون الوقت فات.
وأول من انطبقت عليه قواعد هذه اللعبة كان اللواء محمد نجيب (مواليد 1903 لأم سودانية وأب مصري) ذلك الرجل النقي الطيب الذي تحالفت عليه أفضاله وعيوبه كما قال فتحي رضوان، وقد وصفه بأنه كان نزيها إلي أقصي الحدود شجاعا لا يخاف شيئا ولا شخصا وكان جذابا يحصل علي حب الجموع والأفراد بغير قصد منه. وهذه الفضائل لم تجعل طريقه سهلا ولا مفروشا بالرياحين، لانه الزعيم وفضائله محسوبة عليه.
كان عبدالناصر يبحث عن رتبة كبيرة في الجيش يكون الواجهة التي يلتف حولها الشعب عندما يقوم بثورته، ووجد ضالته في اللواء محمد نجيب الذي يتمتع بسمعة طيبة بين ضباط الجيش الكبار.
اشترك نجيب في حرب 1948 وقاتل بشجاعة حتي أصيب في صدره ووصل المستشفي في حالة اغماء حتي ظنوه ميتا.
وأصيب مرة أخري عام 1949 لدرجة الموت وكتب وصيته لابنائه: «تذكروا يا ابنائي أن أباكم مات بشرف وكانت رغبته الأخيرة أن ينتقم من الهزيمة في فلسطين، ولكنه نجا مرة أخري وحصل هذه المرة علي نجمة فؤاد لبسالته».
يحكي اللواء محمد نجيب الذي تخرج فى المدرسة الحربية عام 1918 في مذكراته كيف تعرف بالضباط الأحرار وقبل أن يخوض معهم مخاطرة الثورة ضد الملك فاروق: «في يوم من الأيام جاء عبدالحكيم عامر ومعه عبدالناصر وعرفت أنه جاء ليزن تقدير عامر لشخصي.. وبعد لقاءات عدة دعاني لتنظيم الضباط الأحرار واتفقنا علي الخطوط العريضة».
وكانت انتخابات نادي الضباط في الأسبوع الأخير من عام 1951 الخطوة الأولي في طريق الثورة، عندما قرر نجيب أن يرشح نفسه في تحد واضح للملك الذي قبل التحدي ورشح حسين سري عامر، وفاز نجيب في هذه الانتخابات بأغلبية كاسحة وغضب الملك وحل مجلس إدارة النادي بعد شهور قليلة، لكن الرسالة وصلت لمن كان له عقل، الأنظمة في هذه اللحظات تصاب دائما بالصم والعمي فلا تري ولا تسمع إلا نفسها ويكون هذا من حسن حظ الثوار بالطبع.
وحدث أن تم استدعاء اللواء محمد نجيب يوم 19 يوليو 1952 لمقابلة الوزير محمد هاشم صهر حسين سري رئيس الوزراء وسأله الوزير (كما يروي خالد محيي الدين في كتابه الآن اتكلم) عن أسباب تذمر الضباب وموقفهم العدائي من النظام، وتحدث نجيب عن الحكم غير الديمقراطي وعن الخضوع للاحتلال ففاجأه الوزير بالقول: هل يكون تعيينك وزيرا للحربية كافيا لإزالة أسباب التذمر وخلق حالة من الرضا لدي الضباط؟ لكن نجيب بلا تردد رفض المنصب، وفى أثناء النقاش أفلتت من الوزير جملة كأنها زلة لسان قال: ان السراي لديها قائمة باسماء 12 ضابطا هم المسئولون عن تحريك وقيادة الضباط الأحرار، ويقول خالد محيي الدين إن هذا الكلام كان السبب في التعجيل بقيام الثورة ليلة 23 يوليو بدلا من 2 أغسطس كانت الخطة أن يقوم الضباط بالاستيلاء علي مبني القيادة واعتقال كبار الضباط، وطلب نجيب أن يكون بجوار مبني القيادة داخل سيارته الأوبل الخاصة.
لكن عبدالناصر وعامر قالا له: أنت مراقب ولو قبض عليك في الطريق ضاع كل شيء الأفضل أن تجلس في البيت بجوار التليفون حتي نبلغك بالاستيلاء علي مبني القيادة.
كانت ساعة الصفر هي الواحدة صباحا يوم الأربعاء 23 يوليو وقبل ساعات اتصل مرتضي المراغي وزير الداخلية بمحمد نجيب وقال له: اتوسل إليك كضابط وطني أن توقف هذا العمل.
فقال له نجيب: ماذا تقصد
قال: أنت تعرف ما أعني، فأولادك بدأوا شيئا في كوبري القبة وان لم تمنعهم فسيتدخل الإنجليز.. كما حدث في ثورة عرابي.
ثم اتصل نجيب الهلالي رئيس الوزراء وقال له: يا نجيب ما يحدث الآن عواقبه وخيمة يفتح الباب لتدخل الإنجليز.
يقول نجيب وفي حالة القلق والارتباك رن جرس التليفون وكان المتحدث جمال حماد يهنئني بنجاح المرحلة الأولي.. مبروك يا أفندم كله تمام.
وتحرك نجيب من منزله إلي مبني القيادة وجلس علي مكتب رئيس الأركان اللواء حسين فريد، وبدأ يرد علي مكالمات الفريق حيدر ورئيس الوزراء ووزير الداخلية كانوا جميعا يطلبون تأجيل إذاعة البيان الأول الذي سيذاع مع افتتاح الإذاعة، فقال لهم: البيان سيذاع في موعده وصدر البيان الأول بتوقيع القائد العام للقوات المسلحة لواء أ.ح.محمد نجيب.. وكان يذاع كل نصف ساعة بصوت السادات.
للتاريخ اذكر أن يوسف صديق كان أشجع الرجال في تلك الليلة وهو الذي نفذ عملية الاقتحام والسيطرة علي مقر القيادة هكذا يتحدث نجيب وأن عبدالناصر وعامر لم يقتربا من المبني إلا بعد الاستيلاء كانا يقفان في مكان جانبي أمام سيارة عبدالناصر الأوستق السوداء وقد ارتديا الملابس الحديثة، ووضع ملابسهما العسكرية داخل السيارة، ومجرد أن أحسا بنجاح الاقتحام ارتديا الملابس العسكرية ودخلا مبني القيادة.
ويذكر خالد محيي الدين أنه تم القبض علي ناصر وعامر لحظة الثورة وأفرج عنهما يوسف صديق.
نجحت الثورة وتم تكليف علي ماهر بتشكيل الحكومة وأصبح محمد نجيب قائدا عاما للقوات المسلحة. وبعد أيام وقع الملك فاروق علي وثيقة تنازله عن العرش لابنه الرضيع أحمد فؤاد. ولم ينس قبيل مغادرته البلاد علي يخت المحروسة أن يقول للواء نجيب حاكم مصر الجديد: إن مهمتك صعبة جدا فليس من السهل حكم مصر.
وإذا اعتبرنا هذه الكلمة بمثابة الحكمة التي تهبط علي الحكام والمسئولين بعد أن يتركوا الكرسي أو يخرجوا مهزومين من صراع السلطة. انها نفس الحكمة التي يتحدث بها نجيب بعد ترك السلطة أيضا قائلا: ان الجماهير التي ترفع الحاكم إلي سابع سماء هي التي تنزل به إلي سابع أرض، لكن لا أحد يتعلم الدرس.
كان أول صدام لنجيب مع رشاد مهنا أحد الأوصياء الثلاثة علي العرش الذي اتهمه نجيب في مذكراته بأنه تجاوز سلطته الدستورية بالتدخل في شئون تطهير الأحزاب والهيئات السياسية فتم إزاحته عن السلطة.
لكن نجيب يعود بعد صفحة واحدة في نفس المذكرات ليقول: انه كان ضحية مثلي. فقد أراد عبدالناصر إبعاده في منصب شرفي بعيدا عن السلطة الفعلية وعندما غضب سارعوا بابعاده، أكلوه لحما ورموه عظما كما فعلوا بعد ذلك معي تماما.
ولن يكون هذا هو التناقض الوحيد في حياة أو مذكرات الرئيس نجيب فالمذكرات حافلة بالقرارات السلطوية والديكتاتورية التي وقع عليها كقائد للثورة ثم عاد يتبرأ منها ويطالب بالديمقراطية.
فعلي ماهر كان ضد قانون الإصلاح الزراعي وكان من أنصار الضريبة التصاعدية.. وبعد عقد اجتماع موسع حضره الأوصياء علي العرش ورئيس الوزراء وعدد من الوزراء وضباط الثورة.. انتهي الاجتماع بالتصويت لصالح تحديد الملكية بـ200 فدان كحد أقصي. ولكن علي ماهر أوقف المشروع عندما دخل مجلس الوزراء.. فتمت اقالته وأصبح نجيب رئيسا للوزراء في سبتمبر 1952.
وفي اليوم التالي لتوليه المنصب صدر قانون الإصلاح الزراعي.. المفاجأة أن نجيب كان يعارض هذا القانون! واتهم قادة الثورة بعد ذلك بأنهم كانوا يهدفون من ورائه إلي تحويل ملاك الأراضي من خانة المعارضة إلي خانة الاهمال والظلام. وبذلك كسبت السياسة وخسر الاقتصاد. هكذا يقول.
ولا يمكن أن تتوقف علامات التعجب، ولا نستطيع أن نخفي دهشتنا من قائد ثورة لا يستطيع أن يحمي رئيس الوزراء المشارك له في الرأي وعندما يتولي هو المنصب ينفذ القانون الذي لا يؤمن به!!
وأكثر من ذلك يحكي نجيب قائلا: كان موعد الانتخابات البرلمانية في فبراير 1953 لكنني فوجئت في منتصف ليل 17 يناير بإعلان دستوري أذيع باسمي بصفتي القائد العام ورئيس حركة الجيش إلي الشعب يقول بحل الأحزاب السياسية ومصادرة ممتلكاتها لما تمثله من خطر شديد علي البلاد وإعلان فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات حتي نتمكن من اقامة حكم ديمقراطي سليم، والغريب أيضا أن نجيب قام يبرر ويدافع عن هذا البيان الذي لم يكن يعرف عنه شيئا، والذي هو بالتأكيد ضد الديمقراطية التي سيطالب بها فيما بعد!
كثيرة هي الأخطاء والتناقضات التي وقع فيها الرئيس محمد نجيب كالاستئثار بالسلطة وقرارات حل الأحزاب والتوقيع علي إعدام خميس والبقري مما سهل علي، عبدالناصر مهمة إزاحته عندما احتدم الصدام بينهما.
كان عبدالناصر يحكم سيطرته علي مجلس قيادة الثورة وأراد أن يزيح نجيب من منصب القائد العام للقوات المسلحة فتقدم بمشروع لإعلان الجمهورية يكون فيه نجيب هو رئيس الجمهورية علي أن يتم تعيين صديقه الصاغ عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة، وقاوم نجيب بشدة إعلان الجمهورية حتي لا يترك منصبه كقائد عام ويفقد نفوذه داخل القوات المسلحة، لكنه رضخ في النهاية. وفي الصراع الذي احتدم بين نجيب وعبدالناصر يقول خالد محيي الدين لم يكن نجيب وحده صاحب الطموح غير المحدود، كان هناك عبدالناصر لكن جمال عبدالناصر كان أكثر ذكاء لانه كان يربط طموحاته بطموحات الثورة.
لجأ نجيب إلي الجماهير فأكثر من جولاته الجماهيرية وتحدث بلهجة خالية من الترفع وظهر أمام الناس حاكما بسيطا يمتلك مشاعر أبوية، وأكسبه ذلك جماهيرية واسعة، كانت تثير قلق عبدالناصر كما كان يملك نفوذا لدي السودانيين في وقت تسعي فيه مصر للوحدة ولكن كل هذه الأوراق كانت أضعف بكثير من أوراق الأغلبية التي يملكها عبدالناصر في مجلس القيادة.
وفي 18 يونيو 1953 تم إعلان الجمهورية وتولي محمد نجيب الرئاسة وكان أول قرار له تعيين الصاغ (الرائد) عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة!
وهو قرار يدل علي مدي ضعف نجيب ورضوخه لقرارات عبدالناصر مهما كانت خاطئة كان الأفضل للرئيس نجيب أن يوافق علي ترك منصب القائد العام للقوات المسلحة بما يظهر عدم استئثاره بالسلطة علي أن يتولي المنصب شخصية ذات كفاءة عسكرية.
لم يكن الصراع بين نجيب وعبدالناصر من أجل الديمقراطية وانما كان صراعا علي السلطة وقتها.
فنجيب كانت لديه الفرصة بما كان يملكه من الاحترام في قلوب ضباط الثورة أن يقود دفة البلاد إلي الديمقراطية وإجراء انتخابات حرة تنقذ البلاد من دوامة الفساد والاستبداد لكنه مثل الآخرين استسلم لإغراء السلطة.
ويؤيد ذلك ما قاله خالد محيي الدين «عندما سافرت مع نجيب للمرة الأولي ذهلت للأبهة الخرافية فالقطار الملكي بفخامته أصبح قطار رئيس الجمهورية هذا بالإضافة إلي ما يحيط الرئيس من سلطة وهيلمان وأبهة ونفاق من الجميع.
وادركت لماذا يتخذ الخلاف مع نجيب أبعادا حادة ، فالصراع لم يكن حول موقف بل صراع علي السلطة بكل ما تعنيه الكلمة وبكل ما تحمله من نفوذ وسلطان.
كما يعيب خالد محيي الدين علي نجيب أنه أهمل مسئولياته كرئيس للجمهورية ورئيس للوزراء وتفرغ للاحتفالات والزيارات وبناء كاريزما جماهيرية وسرعان ما تلقفت أيدي عبدالناصر النشيطة واليقظة ما تركه نجيب من مسئوليات حتي أصبح عبدالناصر صاحب الكلمة العليا في كثير من أمور الدولة.
لم يكن محمد نجيب كما يقول صلاح عيسي في كتاب شخصيات لها العجب: ديمقراطيا ولم يعترض على أى من القرارات التي اتخذها مجلس قيادة الثورة والتي وصفت بعد ذلك بأنها ديكتاتورية: من قرار حل الأحزاب إلي قرار اسقاط الدستور ومن قرار حل الإخوان إلي قرار إعدام عمال كفرالدوار.
كان متحمسا لحكم الفرد مادام هو الفرد ولما بدأ الصراع بينه وبين عبدالناصر علي السلطة ثار ولوح في وجه الجميع بقميص الديمقراطية.
ومع الأيام راح الصدام بين نجيب وعبدالناصر يزداد اشتعالا كل يوم عن سابقه، وحدث أن طلب أعضاء مجلس قيادة الثورة من محمد نجيب التصديق علي الحكم بإعدام إبراهيم عبدالهادي رئيس وزراء مصر الأسبق في أكتوبر 1953 فرفض محمد نجيب وسافر إلي الإسكندرية احتجاجا علي ذلك وأعلن أنه مريض.. وزاره عبدالناصر وانتهت الأزمة لكن حدثت أزمة أخري عندما قدم عبدالناصر كشفا بوصفه وزيرا للداخلية بأسماء بعض الزعماء الخطرين علي النظام ويري ضرورة اعتقالهم ومن بينهم مصطفي النحاس الذي رأي ضرورة تحديد اقامته فرفض الرئيس نجيب ووافقوا علي هذا الرفض لكنه فوجيء بأنهم أعادوه للكشف بعد توقيعه عليه.
بل وصلت التجاوزات كما يقول الرئيس نجيب إلي حد تعيين الوزراء دون علمه، عينوا جمال سالم وزيرا للمواصلات وزكريا محيي الدين للداخلية وكمال الدين حسين للتربية والتعليم.
ووصل العبث إلي الحد أن زكريا محيي الدين وجمال سالم رفضا أن يؤديا القسم أمامه وإلي حد تنازل المجلس عن صلاحياته وسلطاته لجمال عبدالناصر في حالة عدم انعقاده.
ويعترف محمد نجيب بأنه المسئول عن كل ذلك قائلا: «هل أنا المسئول عما حدث لمصر علي ايديهم بعد ذلك؟ ويجيب: أظن أنا المسئول» وكالعادة كان هذا الاعتراف متأخرا وبعد ذهاب السلطة بالطبع وتلك هي الكارثة. وبعد حدوث كثير من الإهانات والتجاوزات ضده قرر الرئيس محمد نجيب يوم 22 فبراير 1954 الاستقالة من مناصبه العديدة كرئيس للجمهورية ورئيس للوزراء رئيس لمجلس قيادة الثورة.. ورغم كل هذه السلطات التي كان يتولاها إلا أنه كان كمن لا يتولي شيئا علي الإطلاق.. والكلمة الأولي والأخيرة كانت لعبدالناصر ورفاقه.
لكن كانت المفاجأة خروج المظاهرات تطالب بعودة نجيب فور أن اعلن مجلس قيادة الثورة بيان الاستقالة وأمام ضغط المظاهرات عاد نجيب للسلطة مرة ثانية لكنه أدرك أنها عودة مؤقتة ولذلك بدأ في نغمة الديمقراطية والتعجيل بعودة الحياة النيابية وتم عقد اجتماعات حتي صدرت قرارات 5 مارس 1954 التي طالبت بعقد جمعية تأسيسية منتخبة تناقش مشروع الدستور واقراره وتقوم بمهمة البرلمان لحين تشكيله كما تقرر إلغاء الأحكام العرفية وإلغاء الرقابة علي الصحف.
وكان معني هذه القرارات عودة الضباط إلي الثكنات بعد إقرار الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية ولم يعارض عبدالناصر ورفاقه في السلطة هذه القرارات لكنه بالتأكيد كان يدبر لشيء يقلب الطاولة علي نجيب وبدأ يهيئ المسرح لخطته اتصل بأحمد طعيمة المشرف علي هيئة التحرير والصاوي أحمد الصاوي رئيس اتحاد عمال النقل، وحشد حوله أكبر عدد من الضباط علي أساس رفض الديمقراطية وأنها ستؤدي للقضاء علي الثورة.. واستمر عبدالناصر خلال معظم الاجتماعات يقول إما حزم وإما ديمقراطية كما يذكر خالد محيي الدين، ثم استطاع عبدالناصر أن يمرر قرارات 25 مارس التي تسمح بقيام الأحزاب وحل مجلس قيادة الثورة يوم 24 يوليو علي أساس أن الثورة انتهت بتسليم مهمتها إلي برلمان منتخب.
وكانت كل هذه القرارات لاستهلاك الوقت حتي تأتي اللحظة المناسبة وكانت هذه اللحظة يوم 27 مارس فى اثناء زيارة الملك سعود لمصر.
وقد روي لي أحمد طعيمة أحد قادة مظاهرات هذا اليوم أن جمال عبدالناصر عرض أن يرسل له مبلغ 50 ألف جنيه.. ولكنه رد عليه بالقول إننا لا نشتري العمال: فقال له عبدالناصر سوف أرسل لك خمسة آلاف جنيه مصاريف كتابة اللافتات وتأجير السيارات وخلافه، وهو نفس ما ذكره عبداللطيف البغدادي في مذكراته والذي أكده خالد محيي الدين أيضا عندما قال له عبدالناصر بصراحة لما لقيت المسألة مش نافعة قررت اتحرك وقد كلفني الأمر أربعة آلاف جنيه.
استغل عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة مرافقة الرئيس نجيب للملك سعود خلال زيارته للإسكندرية وتخلفوا هم ليشعلوا المظاهرات التي تطالب بسقوط الديمقراطية.. وتنادي: لا أحزاب.. ولا برلمان.
وحاول الملك سعود أن يتدخل.. لكن نجيب قال إن الأمور وصلت لنقطة الافتراق.. وأعلن استقالته مرة ثانية. ولكن عبدالناصر رفضها خوفا من أن تنقلب المظاهرات لصالح نجيب كما حدث من قبل.
وفي يوم 29 مارس وقع الاعتداء الشهير علي الدكتور السنهوري بعد ان اقتحم المتظاهرون مجلس الدولة وحبسوا الأعضاء في القاعة وأجبروهم علي بيان يؤيد الثورة.
في الساعة السادسة والنصف لبي أعضاء مجلس قيادة الثورة نداء الشعب بضرب الديمقراطية وصدر بيان بتأجيل تنفيذ قرارات مارس حتي نهاية فترة الانتقال 1956 وبعد يومين من هذه القرارات تولي عبدالناصر رئاسة الوزراء وسيطر علي الوضع تماما. وفي يوم 14 نوفمبر 1954أرسل عبدالناصر كلا من عبدالحكيم عامر وحسن إبراهيم إلي محمد نجيب في مكتبه بالقصر الجمهوري وقالا له في خجل: مجلس الثورة قرر اعفاءكم من منصب رئيس الجمهورية.
خرج محمد نجيب وركب معهما عربة اتجهت به إلي منزل كان استراحة ريفية لزينب الوكيل بالمرج وقال له عامر: إن اقامتك في المرج لن تزيد على بضعة أيام لكنها استمرت إلي عام 1983 حوالي 29 سنة. ويحكي الرئيس محمد نجيب مأساته في معتقل المرج قائلا: عندما دخلت حديقة الفيلا جلست علي أقرب كرسي واشعلت البايب ورحت أتأمل ما يحدث حولي في هدوء.. كان أحمد نوار قائد البوليس الحربي يزرع حوالي 20 نقطة قوية من نقاط الحراسة حول الأسوار وفوق السطح مع تسليح قوي مدافع رشاشة وقنابل يدوية ومدافع صغيرة كأنها حرب. ثم سارع الضباط والجنود وحملوا ما بداخل الفيلا من أثاث وسجاجيد وستائر ولوحات وتحف.. وتركوها عارية الجدران وحتي الثلاجات وأدوات المطبخ أخذوها.
ولم يتوقف العقاب علي نجيب وحده بل وصل لأولاده فابنه الأكبر فاروق استفز احد المخبرين الذين كانوا يراقبونه وقال له: أبوك كان طرطورا في الثورة.. ولم يتحمل فاروق هذا الكلام وضربه، فأخذوه إلي ليمان طرة وعذبوه خمسة أشهر ونصف الشهر وبعد فترة قليلة مات عام 1969، وقبل ذلك بعام قتل الابن الثاني في ألمانيا طاردته سيارة نزل منها ثلاثة رجال ظلوا يضربونه حتي الموت ونقل جثمانه من ألمانيا لمصر دون أن يسمحوا له باستقبال جثته أو قراءة الفاتحة علي قبره.
والابن الثالث قام أحد أقارب شمس بدران بافتعال مشاجرة معه انتهت بفصله من عمله ثم عمل علي سيارة أجرة وسائق تاكسي.
بعد 6 سنوات من السجن سمحوا له ببعض الزيارات علي أن يرافقه أحد الضباط، وعندما جاء السادات رفع معاشه إلي 100 جنيه وقال له أنت حر طليق عام 1971
وحكي لي السفير رياض سامي مدير مكتب اللواء محمد نجيب أن السادات استأذن للدخول علي الرئيس نجيب وقام بتحيته تحية عسكرية فيها إجلال شديد حتي شعرت بأنه يبالغ في اظهار ولائه له.. ولكن بعد أن أصبح السادات رئيسا وأفرج عن نجيب التقيا مصادفة في جنازة اللواء أحمد بدوي وتقدم نجيب ليصافح الرئيس السادات فتأفف منه بصورة واضحة جعلتني أكره السياسة وتقلباتها تماما.
ورغم كل ما عاناه الرئيس نجيب من عذاب وإهمال وتجاهل وصل إلي شطب اسمه من كتاب التاريخ إلا أنه عاش حتي شيع معظم من عذبوه إلي قبورهم بعد أن قتلتهم الصراعات فيما بينهم ومن نجا منهم لم تتركه أمراض السلطة يهنأ بالحياة.
ومات الرئيس نجيب عام 1984 عن عمر يناهز 81 عاما. وفي عام 2013 كرمه الرئيس المؤقت عدلي منصور ومنح عائلته قلاده النيل العظمي.
وسبحان من له الدوام.
رابط دائم: