هى أجواء ليست بالطبيعية، بيد أن الفضاء الأناضولى إجمالا ملبدا بالغيوم رغم قيظ الصيف، يعزز ذلك مفرداته المتوترة والملتهبة بوجه خاص فى جنوب شرق البلاد، وهو ما يدركه صناع القرار بالبلاد، ولهذا وحفاظا على قوة الدفع والتاييد الشعبى عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف يوليو الماضي، فهم يسعون لسد الفجوات وكم هى كثيرة فى هذه المناطق المتخمة بالمعضلات.
وتلعب أثنية سكانها وتركيباتهم الديموجرافية الدور المركزى فى إستمرار فقدان الثقة المتأصل بين تلك البقاع بغالبيتها الكردية بامتياز والساسة القائمين على إدارة الدولة التركية الذين بات لديهم منطقهم الاقصائى الخاص الذى سرعان ما يأتى بنتائج عكسية.
فلا أحد يمكن ان يشكك فى نوايا بن على يلدريم رئيس الحكومة الصادقة، وهو يخطب أكثر من ثلاثة ساعات متواصلة يوم الأحد قبل الماضى أمام جمع بذلت جهود مضنية معنوية ومادية لتنظيمه ــ يعدد مشاريع حكومته وهى بحق جديرة بالتأمل .
لكن المشكلة أن الخطاب المرتجل لم يلق صدى لدى الجمهور المستهدف، وهو بالمناسبة لم يكن معظمه حاضرا كما هى العادة ، فهم ببساطة غير مدعوين لأنهم منعتون حكوميا بالمشاغبين تارة وموالون للارهابيين الانفصاليين تارة أخرى، والمشاركون بالاعلام وصور الرئيس الزعيم جاءوا من قرى يعرفها حزب العدالة والتنمية الحاكم جيدا.
ومن أسباب العزوف هو أنهم لا زالوا بين فكى المطرقة وأنياب السندان ، فى إشارة إلى المواجهات المسلحة الدامية التى تجددت بعد هدوء نسبى أستمر زهاء العامين ، بين الجيش الحكومى الذى يطالبهم بأفعال تنوء بها كواهلهم وعناصر منظمة حزب العمال الكردستانى الإنفصالية وبالتالى عليهم أن يتحملوا وزر مصائب لا دخل لهم فيها فقط جريمتهم أنهم ينتمون عرقيا للمتمردين الاكراد، وها هى أعمال العنف تدخل شهرها الرابع عشر منذ إنهيار الهدنة فى يوليو العام الماضي، دون أفق فى نهاية قريبة أو حتى خلال المستقبل المنظور، ومعها يتضاعف حجم الدمار والخراب فى عشرات البلدات ومئات القرى المترامية نتيجة المعارك والقصف فمهما كانت دقة الأخير إلا أنه دائما وابدا يطال ما لا يجب أن يستهدف.
ويلدريم نفسه عندما زار دياربكر التى تعد مرآة تعكس هموم الحياة الكردية فى عموم الأناضول ، دخل موكبه وسط حراسة مشددة وعشرات القناصة أنتشروا على اسطح المنازل وأفراد أشداء من القوات الخاصة مؤججين بالرشاشات اعتلو سقف الحافلة التى نقلته هو ومرافقيه ، مشاهد توضح بجلاء أنه لا أمان فى بقاع لا تعرف سوى صوت المدافع، وكيف له أن يأتى ونيران الحرب مستعرة الأوار تغذيها الشعارات القومية الطورانية فى إقصاء نهائى للقضية الكردية التى لم تعد موجودة فى قاموس القائم على صناعة القرار الذى يدير البلاد والعباد من قصره الابيض بالعاصمة أنقرة.
إنطلاقا من تلك الأرضية الشوفينية (التى لم تكن ضمن مفردات الرئيس رجب طيب اردوغان أبان صعوده على رأس العدالة والتنمية فى مستهل الالفية الثالثة بل العكس كان أشد المناوئين لها)، وهروبا من اتهامات بالتواطؤ مع المتشددين ونقى شبهات تعاون مع الداعشيين، انطلقت قبل ثلاثة أسابيع «درع الفرات» تحت زعم القضاء على داعش والمنظمات الارهابية الأخرى، لكن الحقيقة هى أن هدفها الأساسى تدمير وحدات حماية الشعب الكردية المصنفة فى الادبيات التركية الرسمية بالارهاب كونها الأمتداد السورى للإنفصاليين فى تركيا، وهو ما أعترف به أردوغان ضمنيا حينما قال أن بلاده تشن حاليا أكبر عملية فى تاريخها ضد المسلحين الأكراد فى جنوب شرق البلاد.
وفى منحى مغاير مواز للعمليات العسكرية أنتهجت الدولة ذات الأسلوب الذى اتبعته مع الكيان الموازى فى إشارة لأنصار الداعية الدينى فتح الله جولن المتهم الرئيسى بتدبير المحاولة الانقلابية، بالتخلص من الموظفين الحكوميين المرتبطين بهؤلاء الإنفصاليين وهو أمر اعتبره اردوغان عنصرا أساسيا فى تلك المعركة .
وكبداية تم عزل آلاف المدرسين عن العمل فى الوقت الذى كثفت فيه العاصمة أنقرة حملتها ضد من تتهمهم بأن لهم صلات بالمسلحين الأكراد الذين يشنون تمردا فى جنوب شرق البلاد.والأمر لن يتوقف عند النبش عن متعاطفين بكل مؤسسات الدولة بل العصف بمجالس البلديات المنتخبة ديمقراطيا ورؤسائها.
وهنا المفارقة ففى الوقت الذى انتقد فيه اردوغان الأتحاد الاوروبى والولايات المتحدة الامريكية لتقاعسهما فى مساندة الديمقراطية ببلاده التى أراد أنقلابيو جولن الأنقضاض عليها منتصف يوليو الفائت، يقوم هو نفسه بفرض الوصايا على مجالس البلديات التى تم انتخابها ليضرب بكل بساطة إرادة قطاع من الشعب التركى الذى انتخبهم عرض الحائط.
وطبيعى كان لابد وان ينتفض جزء منه لكن واجهتهم قنابل الغاز المسيلة للدموع وقبلها نظمت مكونات أطلقت على نفسها « تنسيقية العمل والديمقراطية ، مظاهرة فى ميدان بكير كوى بوسط إسطنبول، للمطالبة بوقف التدخل العسكرى فى سوريا وبتسوية القضية الكردية بالطرق الديمقراطية. وشارك فى المظاهرة ممثلون عن حزب الشعوب الديمقراطية والنقابات المهنية، واتحادات الموظفين الحكوميين والعمال الثوريين وغرف الأطباء والمهندسين المعماريين ونقابات عمال الصحة والخدمات الاجتماعية.
المثير فى المشهد أنه فى ظل الاحتقانات كان الإعلام ومعظمه تحت السيطرة الحكومية فى واد آخر وعكس السائد المعاش فى الواقع خرجت صحيفة «صباح» الموالية لحكومة العدالة والتنمية بإستطلاع للرأى جرى فى الفترة من 27 اغسطس الماضى وحتى 2 سبتمبر الشهر الحالى وأعدته شركة البحوث الاجتماعية والسياسية المعروفة إختصارا باسم « ماك «، أظهر أن معظم الاتراك سيصوتون لصالح رئيسهم فى حال جرت الآن إنتخابات رئاسية.
واشارت نتائج الاستطلاع الذى شمل 31 محافظة وبمشاركة 2700 شخصا إلى أن 62% يثقون فى الحكومة برئاسة بن على يلدرم بعد مرور 100 يوما على تشكيلها، و78 % أعلنوا تأييدهم لــ « درع الفرات « فى الاراضى السورية.
الطريف, وهذا هو المهم أن 90% ممن أستطلعت أرائهم قالوا أنهم لا يثقون بالولايات المتحدة خاصة بعد محاولة الانقلاب ومكمن الطرفة هو أن الرئيس اردوغان الذى سبق وندد بمواقف البيت الابيض لإحتضانه عدوه اللدود جولن، فاجأ مواطنيه وبعد مرور خمسة أيام فقط على هذا الاستطلاع الفريد، بتصريحات راح يتغنى بحميمية العلاقات التى تربط بلاده بواشنطن وبجانب أنها إستراتيجة وفقا لوصفه فهى نموذج يحتذى ..
رابط دائم: