أنا شاب اقترب من سن الأربعين, تفتحت عيناى فوجدتنى يتيم الأب,
فى أسرة تضم خمسة أفراد ولاعائل لنا سوى أخى الكبير الذى تحمل عبء الأسرة, ونسى نفسه تماما, وركز كل حياته لإسعادنا دون ضيق أو ضجر, وكان يتابع أحوالنا منذ طلوع شمس الصباح إلى أن نخلد للنوم فى الليل, وحرص على توفير كل مستلزمات الحياة الكريمة، وعبر بنا جميعا إلى بر الأمان وأنهينا دراستنا بنجاح, وشق كل منا طريقه فى الحياة، واطمأن أخى إلى مستقبلنا, والتفت لأول مرة إلى نفسه, وفكر فى الارتباط بزوجة يكمل معها مشوار الحياة, ووقع اختياره على فتاة جميلة من أسرة متوسطة مشهود لها بالأخلاق الكريمة, وأعددنا حفل زفاف بسيطا وجميلا
ولا أستطيع أن أصف لك مدى سعادتنا ونحن نرى شقيقنا ــ أو أبانا الذى ربانا ــ والابتسامة تعلو وجهه الصافى البريء، وتمنيت أن يرزقنى الله بزوجة فى أخلاق زوجته واستمر ارتباطنا بأخى بعد زواجه, ولم تمض تسعة أشهر حتى رزقه الله بطفلة جميلة أعتبرناها فاكهة المنزل وبهجته. ولم تمر أيام معدودة بعدها حتى وقعت الصدمة التى هزتنا جميعا إذ شعر أخى بتعب شديد فحملناه إلى الأطباء الذين أجروا له التحاليل الطبية, ثم خرجوا إلينا بالخبر الذى أفزعنا وأحال حياتنا إلى جحيم, وهو أن أخى أصيب بالفشل الكلوى وأنه فى مرحلة حرجة تتطلب اجراء جلسات الغسل له يوما بعد يوم, ولم يتحمل جسده الجلسات القاسية طويلا ففارق الحياة بعد ثلاثة أشهر فقط, وخيم الحزن على منزلنا, وانهارت زوجته وظلت تبكى حتى فقدت وعيها, وكلما أفاقت وتذكرت ما حدث لزوجها الذى لم تكمل عاما واحدا معه تعاودها نوبات البكاء الهيستيرى من جديد، ولم نفارقها لحظة واحدة, وحاولنا التخفيف من وطأة المصيبة عليها قدر استطاعتنا, وكان واجبا علىّ أن أرد لأخى دينه وجميله علىّ. ووجدت أن موعد رد الجميل قد حان, وأن على أن أرعى أسرته الصغيرة من بعده, وبذلت قصارى جهدى فى تلبية طلبات أرملة أخى وابنته التى أصبحت بمثابة ابنتى, وزاد ارتباطى بهما..
ومر عامان طويلان لم أنس للحظة فيهما أخى الحبيب، وضغط علىّ أخوتى لكى أتزوج, فلم أفكر كثيرا ولم أذهب بعيدا, إذ وجدت أمامى زوجة جميلة وابنة أكثر جمالا، فعرضت الأمر على أرملة أخى ففكرت ثم وافقت وتزوجنا، وعرفت أسرتى الجديدة طعم الاستقرار، وأصبحت ابنة أخى تنادينى بكلمة بابا، وكلما سمعتها ازددت رضا وسعادة، ورزقنى الله بولد وبنت, وأصبح لدى ثلاثة أبناء وقد كبروا جميعا، وهم لا يعرفون أن أختهم الكبرى غير شقيقة، وأنها فى الحقيقة ابنة عمهما, ومرت الأيام فى سلام حتى جاء موعد مفاجىء مع زائر غير مرغوب فيه سبق أن زارنا وتسبب فى تعاستنا ألا وهو المرض, الذى جاءنى هذه المرة فى صورة تليف كبدى حاد ودوال بالمرىء وتضخم بالطحال, وهكذا تكرر معى نفس سيناريو ما حدث لأخى الكبير, من المرض الشديد الذى سينتهى حتما إلى الموت، ووالله اننى لا أخشاه، وإنما أردت فقط أن أقول للجميع: إن الحياة أقصر مما نتصور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
هل تعرف أن نصف العلاج يتوقف على الحالة المعنوية للمريض؟, فإذا كان مؤمنا بقضاء الله وبأن الإنسان لا يملك من أمره شيئا, ومضى يمارس حياته بصورة طبيعية, تتلاشى الخلايا المرضية, وتحل محلها الخلايا السليمة.. إن هذه الحقيقة أكدها لى أستاذ كبير فى جراحة الأورام, حيث أتاه مريض تقول التحاليل الطبية إن حالته المرضية متدهورة للغاية, وأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت, لكنه أخفى عنه حقيقة مرضه وطالبه بتعاطى الأدوية التى وصفها له, والانطلاق فى الحياة وزيارة الحدائق والملاهى وممارسة الرياضة, وأن يعود إليه بعد شهرين لمتابعة العلاج. قال له ذلك وهو يشك فى أنه سيعود إليه مرة أخري, ومر الشهران وفوجيء الطبيب الشهير بالمريض أمامه, فأعاد إجراء التحاليل له من جديد فإذا بالخلايا السرطانية تتلاشى وتحل محلها خلايا سليمة، فاندهش وأخذ يردد «سبحان الله».
ومن هذه التجربة الواقعية يتأكد لنا أن المقادير كلها بيد الله, فهو القادر وحده على شفاء المريض, «وإذا مرضت فهو يشفين»، وعلينا أن نأخذ دائما بالأسباب, ونترك الأمر لله عز وجل، فلا تنزعج يا أخى وما أراده الله سوف يكون, وقد صارت جراحات الكبد أمرا عاديا مع تقدم الطب، فلا تلق بالا للزائر غير المرغوب فيه, وتقرب إلى الله, وسوف أتواصل معك وأسأله عز وجل أن يزيح عنك المرض إنه سميع مجيب الدعاء.
رابط دائم: