صارت كلمة « سد الحنك» هى اصطلاح بينى وبين د. أحمد عكاشة عن غياب حق إبداء الرأى . فالحياة لا يخنقها شىء قدر أن يعجز الإنسان عن التنفس والكلام ، فالتنفس والكلام يساعدان على صناعة موسيقى الحياة الداخلية للنفس البشرية.
لكل إنسان سماء خاصة به ، ويمشى على أرض لا يسير عليها أحد غيره . والسيارة التى تحمل د.أحمد عكاشة من العيادة التى فى وسط البلد ليست هى السيارة التى حملته من منزل الأسرة إلى المطار عام 1959 ليسافر إلى لندن كى يدرس هذا التخصص الذى قبلته العائلة لمجرد أن أحمد اختاره ، فدراسة العقول المتعبة لم تكن مشهورة فى تلك الأيام ، لكن شقيقه ثروت عكاشة هو من رحب بالمجال الجديد ، فلعل شقيقه الأصغر يكتشف موقع المواهب فى النفس البشرية ويخرج لنا بكيفية وصول «فاجنر» للراحة النفسية بعد ان وضع أوبرا تانهاوز التى توجز البراءة والخطيـئة ، والحلم والندم ؛ والسير وراء السراب وتلقى أشواك العقاب، أما الأم فقد وافقت على مجال الدراسة الجديد لأنها رأت كيف ان الساسة والسياسيين يحتاجون إلى من يضبط مفاتيح تفكيرهم كى لا يؤمنوا بأن من حق كل إنسان أن يعيش دون أن يكذب عليه قائد ما .
...........................................................
يضحك أحمد عندما يفتكر أن والدته التى عاصرت عائلتها التى تعمل فى السياسة قد اكتشفت أن الساسة يلعبون بأحلام الناس ويعجزون عن تحقيق بعض مما يعدون به الجماهير ؛ فأنتونى إيدن الذى كان يخاطب حكام مصر قبل ثورة يوليو وأنفه فى السماء صار الآن قعيد المرض الذى سيدرس ابنها الأصغر أسبابه بعد أن أدمن استعمال المنبهات والخمر ، وهو الاكتئاب بعد أن هزمته إرادة البسطاء من المصريين الذين تحملوا تدبيره الماكر مع بن جوريون مؤسس إسرائيل ، الذى كان تحت تأثير عقاقير لامراض طبية تؤثر على اتخاذ القرار وجى موليه رئـيس فرنسا الذى كره جمال عبد الناصر وثورته وأذاق فرنسا كلها ويل صعوبة إستمرار احتلال الجزائر والذى كان ايضا تحت علاج الكورتيزون الذى يؤثر على اتخاذ القرار ، كل هؤلاء الساسة سبحوا فى أمواج أحزان عاتية لم يفيقوا منها. وكان لابد من إهداء قائد مصر عبد الناصر بعضا من مرارة ما ذاقوه، فكان تدبير عدوان يونيو 1967 بواسطة مدمنى شر محترفين ، فجونسون رئيس الولايات المتحدة هو من درس وخطط ليسقى عبد الناصر كأس المرارة القاتل بعد أن درس كل تفاصيل نقاط ضعفه . أنت مندهش لوجود مطربة مشهورة فى عيادتى وقد جاءت تشكو خيانة مطرب مبتدئ وقعت فى هواه ، وهرب منها ليتزوج من بنت عادية جدا فى نظر المطربة ، وهى عندما دخلت إلى غرفة العلاج قالت لى أنها إلتقت بك فى غرفة الانتظار ، ولم تستطع كتمان حزنها على المطرب الشاب فحكت لك حكايتها معه ، فذكرتها أنت برحلتها إلى باريس ضمن وفد رسمى وكانت هى متزوجة من شخص يعمل سكرتيرا لقيادة كبيرة . قالت لى إنك سألتها عن بالطو من فرو المنيك بعدة آلاف من الدولارات ، وانها نزلت لشرائه مع مندوب من السفارة فأصر المندوب ألا تدفع هى ثمنه وسدد هو الثمن ليحصل هو على ما دفع بعد ان سجل المبلغ على انه ثمن قراءة الوفد للصحف أثناء وجودهم فى باريس . وهى قد سألتنى عنك وكيف عرفت أنت تلك المعلومات ؟ فقلت لها انك كاتب صحفى تعرف الكثير من الأشخاص والوقائع ، ولك ان تندهش عندما تعلم انها سألتنى «هل هرب منى حبيبى كانتقام من السماء لانى إشتريت بالطو على حساب الناس الغلابة ؟ « ولم أقل لها ان السماء لا تقدم كشف حساب انتقاميا للبشر ، بل البشر هم من ينتقمون من أنفسهم بعدم الفهم لقدراتهم على الاختيار . وكان لابد أن أعطيها قدرا من المطمئنات لتتمالك نفسها، فهى من سبق لها رؤية زوجها السابق مقتولا بآلة حادة على رأسه فى لندن وبجانبه حقيبة بها أكثر من مليون إسترلينى. وعادت إلى مصر لتدفنه بعد أن عاشت معه سنوات كأميرة ثم سنوات أخرى لم يجدا فيها طعاما ، إلى أن خرج زوجها من مصر إلى لندن بعد تولى السادات الحكم وليمارس الزوج أغرب تجارة فى العصر الحديث وهى تجارة السلاح ويبدو أنه خان اتفاقا ما فكان جزاؤه القتل . وعندما راحت أحزانها قررت أن تبدأ حياة عاطفية جديدة مع المطرب الشاب الذى تركها ليتزوج من بنت الجيران .
أقول للدكتور احمد : أراهنك أنها سألتك « لماذا تقع المرأة فى الحب ؟ ّ قال لى « لقد سألتنى هذا السؤال ، هل سألتك أنت أيضا ؟ « أقول « نعم سألتنى وقلت لها: الإجابة عند الدكتور أحمد عكاشة».
........................
يقع الرجل فى الحب كما تقع المرأة فى الحب ، وتعددت الأسباب والمدارس ، فهناك من يقول ان الإنسان منذ ولادته وهو يجمع صورا للجنس الآخر ويحتفظ بها فى المخ وتأتى صورة أخرى لتضاف إلى صورة أولى ، ثم صورة ثالثة ورابعة ؛ وعادة ما يحفظ المخ صور من أحسن ما استقباله الطفل فى مراحل النمو المختلفة ، وعند البلوغ يظهر فى الأفق شخص تتطابق صورته مع مجموع الصور الموجودة فينفجر فى القلب نداء لهذا الشخص ، ويلصق الشاب بصورة البنت كل الصفات الحلوة التى يتمناها ، وهو ما تفعله البنت أيضا . وغالبا ما يعاكس الواقع مسلسل الحلم الجميل فتنكسر التجربة فى قلب الشاب او قلب البنت، ليتراقص الوجود بين الحزن لهضم مرارة التجربة ، والقيام منها ليخوض الكائن تجربة جديدة . إلى أن يلتقى الرجل بامراة يراها قدره المكتوب ، وتلتقى المرأة برجل تراه قدرها المكتوب ، فيحدث الزواج. إن المخ مستعد بمنظومات معرفية جمالية لتلقى المحبوب فلا يوجد حب من أول نظرة ولكنه مدفون فى خلايا المخ ويحتاج إلى إيقاظه.
هذه مدرسة من مدارس شرح كيفية ميلاد الحب . أقول للدكتور أحمد « النصف الأخير من شرحك لهذه المدرسة مأخوذ من لحظة موافقة زوجتك السيدة جينفر على الزواج بك ، فهى قد حكت لى كيف التقيتما ، وأنك عرضت عليها زيارة القاهرة للتعرف على عائلتك وقطعت لها التذكرة ذهابا وعودة . وعندما جاءت إلى القاهرة والتقت بأفراد عائلتك قالت لك : أنت قدرى « ، وتزوجتما على الفور ، وهى من تركت حياة راقية مع عائلتها فى انجلترا . قالت لى أيضا إنها لاحظت خوفك من أن ترفض الحياة فى القاهرة خصوصا وأنت فى مقتبل العمر . ولكنها كانت واثقة فى أن نضجك العاطفى سيسمح لك ببناء حياة ناجحة .
ضحك د. أحمد، قائلا لى : لم أكن أعلم أنك قادر على معرفة كيفية إدارة حياتى العاطفية من سيدة هذه الحياة .
........................
كان السفر إلى لندن عام 1959 يبدو كاقتحام لمجهولة سبق أن وجدت تفاصيله فى أعماقه . فأحمد عكاشة وكاتب هذه السطور يوقنان بأن كل إنسان تسكنه نبوءة ذاتية ، يكتشفها عبر دورات الشمس بين ليل ونهار . ومن العبث أن نظن أن أى منا لم يشعر بما سوف يكون حاله مستقبلا مادام قد سعى إليه جادا.
لم تكن القاهرة التى ودعها د. أحمد عام 1959 هى نفس القاهرة والشارع ليس هو الشارع . والوجوه ليست نفس الوجوه . والعمر ليس هو نفس العمر ؛ فقد سار الزمن فى دوراته المحسوسة وغير المرئية؛ ليضيف الجديد لجغرافيا المدينة، وليصقل البراءة بالتجربة ، وليؤكد الأسس التى اختارها أحمد عكاشة لنفسه كإطار للحياة ، وليغير من طريقة النظر إلى التفاصيل الصغيرة التى تضيف الجديد من الخبرة ؛ وليصنع من فوضى الأفكار والتصورات عند المرضى انتظاما فى التوافق مع الحياة . يتذكر كيف شاء ثروت عكاشة ذات مساء أن يشرح لجمال عبد الناصر وعدد آخر من الضباط أوبرا تانهاوزر لفاجنر ؛ حيث تحكى الأوبرا عن مستقبل الإنسان ؛ هذا المستقبل المكنون فى أعماق الفرد ؛ حيث يسعى الإنسان إلى التخلص من سوء الاختيار ؛ لكن الإنسان يكرر الخطأ ويكرر التوبة ؛ليولد من جديد . ولم تمض سوى سنوات إلا ويكون هؤلاء الضباط هم حكام المحروسة . وقد جرت تلك الوقائع فى شارع فاطمة النبوية بالعباسية ، وبقى الحى فى الذاكرة كخطوط الترقب للحدود الفاصلة بين أزمنة صارت متباعدة ، فالقلق فى الأسرة من مظاهرات الطلبة الذين يكسرون أبواب المدارس وكأنهم يحطمون إنجلترا التى تحتل مصر؛ هؤلاء الطلبة هم آباء من خرجوا يطالبون جمال عبد الناصر بمحاكمة من تسببوا فى هزيمة يونيو1967 ، وهم أشقاء من خرجوا عام 1972 ليطالبوا بالحرب ، ومنهم من عاش سنوات على خط النار ليصنع بطولات اكتوبر 1973 ومنهم آباء من خرجوا يطلبون تنحى مبارك بعد أن أفسد الواقع بزواج النفوذ والسلطة من أصحاب الثروة ، وكأن عقارب الساعة قد دارت على هوى من يريدون ربط الواقع المصرى بألم متجدد ، فقد خرج عبد الناصر ورفاقه من أجل إسقاط ملك وأحزاب ، وديمقراطية تبدو براقة لكنها مزيفة ، وجاءت يوليو لتعيد ترتيب أوراق العالم كله ، ولكن الركون إلى الدعة وتجارة الأوهام لم تعطل الزهق ليلعب لعبته فتأتى ثورة يناير التى كانت بداية جديدة قفز عليها متآمرون فأنزلتهم جموع هادرة فى الثلاثين من يونيو ، فعندما يمارس الاستعمار تغيير ملامحه ويرتدى ذقنا وينتدب رجالا يقولون إن بنت التاسعة من العمر مادامت تطيق دخول رجل بها فالزواج من الطفلة حلال ، أمسك الاستعمار بأوراق التخلف ليدير بها عقولا تحتاج إلى علاج نفسى لتعرف كيف جاء الدين ليعلم الإنسان الترحيب بالحياة وبنائها لا هدم الحياة والسعى إلى فنائها بدعوى التقرب إلى الله .
وتمر السيارة بجانب طب عين شمس لتصحو ذكريات فاتت ، فبجانب الكلية توجد الآن حديقة عرب المحمدى والتى كانت قبل عام 1984 عزبة لمن يقومون بتربية القرود والشحاذة بها . كانت عرب المحمدى رمز الفقر والوقوف على هامش الحياة بما شاهده فيها أحمد عكاشة وزملاؤه أثناء الدراسة بالكلية؛ حيث كان من السهل أن يأتى إلى الاستقبال بمستشفى الدمرداش رجل مبقور البطن لخلاف بينه وبين رجل آخر على ما سرقه الاثنان من زائر ريفى جاء للقاهرة ، ولعل الذاكرة تحمل صورا لحالات غيرة المرأة وانتقامها لاهتزاز مكانتها حين يتسرب إلى مشاعرها أن زوجها اتجه بقلبه إلى امرأة أخرى ؛ ويحاول د. أحمد فى مثل هذه المواقف أن يعالج المرأة المهجورة من خلل إدراكها لحقيقتها كى لا تكرر خطأها ؛ حتى لا تقع فى دوامة احتقار الذات ؛ وهى نفس الدوامة التى وقعت فيها الأميرة ديانا فقادها ذلك إلى اختيار عماد الفايد الذى نشأ فى أسرة مفككة ؛ وكان اللقاء بين الاثنين يعنى تماسا بين حضارتين تترصد كلاهما الأخري؛ الإسلام والغرب ؛ فكان لابد من بروز الإحساس بالتآمر على ديانا ودودى الفايد رغم أن الاثنين لم يلتقيا إلا على حرف الضياع .
وعزبة عرب المحمدى التى صارت حديقة فارهة هى من إنجاز ضابط عظيم هو يوسف صبرى ابو طالب الذى جاء من انتصار أكتوبر لمنصب محافظ القاهرة وهو من وافق على تخصيص قطعة أرض لبناء مركز الطب النفسى والذى اسسه د. أحمد عكاشة بالجهود الذاتية ؛ وقرر د.كمال الجنزورى إبان تواجده وزيرا للتخطيط بعد مقابلة د. أحمد عكاشة أن يوفر تكاليف بناء هذا الصرح التعليمى الذى سوف يزخر بالأبحاث والمؤتمرات، لتأخذ أبحاث العلماء المصريين طريقها إلى العالمية .
كنت أجلس ذات مساء مع د. أحمد ليدق جرس التيلفون كل خمس دقائق ويكون المتحدث هو وزير الصحة ، حيث قامت الدنيا فيما بعد ظهر ذلك النهار ولم تقعد بسبب أن سيدة كانت تقف أمام مستشفى الأمراض العقلية قامت بتصويب حجر ناحية سيارة د. كمال الجنزورى ، أودعها أهلها مستشفى الأمراض العقلية من سنوات ، وعاشت داخل المستشفى كمريضة ، وتتاجر فى نفس الوقت فى صناعة أطعمة يحبها المرضى ، وأشهر ما تصنعه هى حلاوة « سد الحنك «. وحين اكتشف الطبيب المعالج لها أنها فتاة طبيعية ، ولا تعانى من أى مرض نفسى من أى نوع ، كتب لها على الخروج ، وطلب من أهلها أن يأتوا ليتسلموها . وكانت تملك بضع آلاف من الجنيهات كسبتها من صناعة الحلوى والأطعمة التى يحبها المرضى . وجاء أهل الفتاة وتسلموها ، لكنهم بعد أسبوعين عادوا بها مرة أخرى إلى المستشفى فى الثالثة بعد الظهر ، وحاولوا أن يدخلوها المستشفى فلم يستطيعوا ، فتركوها على الباب ، وعادوا إلى قريتهم . و رأت نفسها معلقة فى الهواء لا تستطيع دخول المستشفى ، ولا تملك مكانا تذهب إليه ، ووجدت «موتوسيكل» فاخر يمر أمامها علمت أنه موتوسكيل يسير فى مقدمة موكب واحد من المسئولين ، فأخذت حجرا ، وأجادت تصويبه على السيارة الرئيسية ،فقامت الدنيا ولم تقعد . وكان يدير المستشفى أيامها طبيب درس الطب الشرعى والنفسى ، ومن يعرف تاريخ حياته سيتعجب من تحول شاب أراد ـ ذات يوم ـ تغيير المجتمع إلى مستفيد بشكل غير عادى من إدارته لمستشفى الأمراض العقلية الذى كانت تصله تبرعات بلا حساب ، وكان هذا المدير كثير الشكوى من حال المستشفى ، وإن لم يلحظ أحد أن مستواه الاقتصادى الشخصى قد تغير بشكل ملحوظ على الرغم من زيادة شكواه وإرهاقه من إدارة المستشفى .
ولم يحدث شيء لهذا المدير فى ذلك اليوم ، ولكن تم إلحاق صانعة حلاوة سد الحنك بالمستشفى من جديد ، و ما هى إلا شهور حتى تكشف تسيب كل إدارات الصحة النفسية ، لا فى مستشفى العباسية فقط ، ولكن فى مستشفى الخانكة أيضا ، فكل شيء يمكن أن يحدث بساحرة هذا الزمان وكل زمان المسماة « الرشوة». و دخل هذا المدير السجن فى قضية تسهيل خروج أحد المختلين عقليا بالرشوة ، وقام هذا المختل بإطلاق الرصاص على السياح أمام المتحف المصرى ، ثم أفرج عن هذا المدير بعد براءته من تلك التهمة ، ثم مات من بعد ذلك بأشهر قليلة عاشها مع سد الحنك ،أى أنه لم يفتح فمه ليتكلم خوفا من أن يخرج «المستخبي» عن تفاصيل امتلاكه لأراض وفدادين عديدة.
كنت أسمع قصة مريضة التى ليست مريضة وأتابعها ، فقد كنت أعرف هذا المدير شخصيا ، لكنى لم أتوقع له مسار حياة كهذا الذى عاشه ،فقد بدأ حياته سجينا من أجل قضايا الوطن وانتهت حياته وهو غير قادر على أن يتكلم أو يدافع عن نفسه فقد حوصر فى امتيازات كبيرة ومنافع جمة وقضايا متتابعة .
أذكر أن الدكتور أحمد عكاشة كان غاضبا من وقوع هذا الحادث مع كمال الجنزورى ، فهو يكن له تقديرا خاصا ؛ منذ أن كان وزيرا للتخطيط ، وكيف شارك الرجل فى تأسيس مركز الطب النفسى بجامعة عين شمس بالتسهيلات الكبيرة وكيف قام بتخصيص ميزانية استكمال المبنى الذى يعالج الآن عشرات المئات من الحالات ، ويعلم العشرات من الأطباء الشباب . وكان أحمد عكاشة قد قرر أن يؤسس هذا المركز كنواة ونقطة ضوء فى منطقة الشرق الأوسط للبحث فى مجال الطب النفسى . وقام بعرض الفكرة على يوسف صبرى أبو طالب أيام كان محافظا الذى وافق على الفور على تخصيص قطعة أرض شاسعة من اجل هذا الهدف إيمانا منه بأن التغيرات الاجتماعية التى تمر بمصر تحتاج تأسيس مثل هذا المركز، كما أن رحلة المرض النفسى لابد أن تزداد فى المجتمعات التى ترى « جودة الحياة» عند بقية شعوب الأرض ، ولكن قدراتنا على التنمية لا تسير بما يحقق جودة حياة، فأغلبية المصريين « يزقون» اليوم العادى كأنه سيارة خشنة الموتور . ولابد من صيانة صحتهم النفسية إن هاجمتها الأمراض المختلفة .
قال لى د. أحمد يوم وقوع هذا الحادث : يعنى ما تجيش الطوبة إلا فى عربية الراجل اللى خدم الطب النفسى بشكل واضح ومحدد ؟
أقول للدكتور أحمد : صانعة حلاوة «سد الحنك» لا تعرف من الذى كان يركب السيارة ، وعلى أية حال لعبة «سد الحنك «كلها لها الكثير فى التاريخ المصرى. فالفتاة التى كانت تكسب من صناعة هذا النوع من الحلاوة داخل مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية توجز الكثير من حياتنا ، و هى رمز شديد الوضوح للسؤال الذى يملأ أعماقنا جميعا «لماذا لا يحدث تطور لهذا المجتمع «، حيث يقول لنا التاريخ إن الفئة التى تتصدى دائما لتطويرمجتمعنا تكثر غالبا من الوعود ، ثم ما إن تتواجد على سطح السلطة حتى تغرق فى الاهتمام بنفسها ، ولا تفكر فى بقية الذين يعيشون على الخريطة ، هذا إن لم تقم باستغلالهم .
يقول د. أحمد: أنت دائما تجيد الربط بين أشياء يصعب الربط بينها.
أقول : قد لا تعلم يا د. أحمد أنى قابلت تلك الفتاة شخصيا ، وعرفت منها أنها ألقت الحجر على سيارة د. كمال الجنزورى ، بعد أن استعصى على أهلها أن يزوجوها من مقاول ثرى ، سبق أن هددته بشكل مباشر بأن أهلها لو زوجوها له رغما عنها فستقوم بقطع رمز رجولته وإلقاء هذا الرمز لأقرب كلب مسعور ، وخاف الرجل منها وسحب من أهلها النقود والهدايا التى سبق أن قدمها لهم ، وحين ضربها أهلها وأهانوها صرخت وبكت ، ولم تجعل النوم يزورهم من فرط إزعاجها لهم ؛ فأودعوها مستشفى الأمراض العقلية لأول مرة ، وحين أخرجها الطبيب من المستشفى بعد أن تأكد أنها لا تعانى من أى مرض ، سرق أهلها منها خمسة آلاف جنيه كانت قد كسبتها عبر أربع سنوات من الحياة داخل مستشفى الأمراض العقلية ، و حاول أهلها مرة أخرى أن يزوجوها لنفس المقاول ، فقامت بإعادة تهديده من جديد ، فأعادها أهلها إلى مستشفى العباسية ، وعادت مرة أخرى لصناعة سد الحنك فى المستشفى وبيعه للمرضى .
يقول لى د. أحمد : بمناسبة حلاوة «سد الحنك « كان عندنا أستاذ جراحة عظيم جدا وكان يدرس لنا الجراحة العامة بكلية طب عين شمس ، اسمه د. فؤاد يسرى جاء نصفه من تركيا ،فأمه تركية ووالده مصرى لكن اللغة التى كان يتكلم بها أهل البيت هى التركية. وكان الجراح العظيم فؤاد يسرى على خلق شديد الحساسية ويمكن أن يسب المريض ؛إذا أهمل التعليمات التى أوصاه بها، ومن السهل أن يسمع المريض لفظ « أنت حمارة» ، أو لفظ «أنت كلبة» . وكان د. فؤاد يسرى يسأل الطالبات أحياناً سؤالا واحدا « ما الذى يسبب صعوبة فى البلع من امراض وضعفا فى عضلات المريء.....الخ؟ «فتأتى الإجابات التقليدية ويحاول د.فؤاد أن يحول سؤاله إلى فزورة ؛ ليقول : إن أخطر ما يسد المريء وهو طعام يأكله كبار القوم فى «القرافة»، فتقول الطالبة المسئولة « القرص المخبوزة ( الشوريك)» التى يقدمها أهل الميت فى ذكراه»، فيضحك الطبيب الكبير ليقول» لا ،إنها حلاوة سد الحنك»؛ وبطبيعة الحال لاتجرؤ طالبة أو طالب على أن يقولوا للجراح الكبير إن الناس لا توزع سد الحنك فى القرافات ، فلا أحد بقادر على أن يعارضه . وهو لا يترك فرصة لأحد ، لأنه يسأل كل طالبة موجودة فى المدرج «هل تتقنين طبخ حلاوة سد الحنك»؟ فتضحك الطالبة وغالبا ما تجيب « لا»، فيسأل طالبة أخرى نفس السؤال ؛فتجيب نفس الإجابة ؛فيعلق فؤاد يسرى «الواحدة منكم ستكون دكتورة وغير جميلة ولا تطبخ سد الحنك؛فمن يتزوجها إذن؟» ، ثم يستدعى الحكيمة بديعة وهى الحكيمة التى تتبعه كظله ؛ فيسألها : هل تطبخين سد الحنك؟، فتجيب « بسم الله ما شاء الله؛ أنا أطبخها بطريقة ؛تجعلك تأكل أصابعك وراءها». فيقول الأستاذ للحكيمة: «أنت لازم تتجوزى راجل محترم» . وكانت الحكيمة نعيمة تصنع له حلاوة سد الحنك ليأكلها ويسعد بها فقد كان يحبها جدا . ولكنه كأغلب الأطباء يعلق فى ذهنه دائما أضرار الشيء قبل استعماله.
أقول ضاحكا : يمكننا أن نكتب التاريخ المصرى عبر حكاية « سد الحنك « فهو قصة مستمرة ، بل هى القصة التى تصنع حالة الاكتئاب العام التى تهددنا بها يا د. أحمد منذ عام 1967 وحتى الآن ، فلولا « الحنك المسدود» بطريقة أو بأخرى لما انتشر الاكتئاب أو الكثير من الأمراض النفسية التى بلا سبب عضوى واضح.
يقول د. أحمد : أفكارك غريبة .. كيف تربط حلاوة سد الحنك بفكرة إبداء الرأى؟ على أية حال هذا رمز متميز ؛ فسد الحنك بشكل أو بآخر قد يسد المريء، هذه الأنبوبة الهامة فى الطعام، و قد يضغط على التنفس .
أضحك قائلا: يمكننا أن نكتب تاريخ الأمراض النفسية فى حياتنا العربية من خلال ذلك «حلاوة سد الحنك» و«مرارة سد الحنك» أيضا .
ويدخل علينا د. طارق عكاشة الذى صار رئيسا لجمعية دراسة الزهايمر المصرية، ويحاول البحث فى أسراره مع فريق شاب متميز. فالكون يشكو من تفشى هذا المرض بعد التقدم الحضارى الشاسع ، حيث تختلط الصور والأشخاص وتصبح الحياة خالية من الذاكرة.
يضحك أحمد عكاشة وهو يتذكر البيت الذى نزل فيه أول أيام البعثة فهو منزل للعواجيز ، وكان اقرب إقامة للمعهد ويصل إليه سيرا على الأقدام ، فنقود المنحة قليلة ويجب أن تكفى . وكان البيت يضم غرفا مفتوحة ، حيث رجال ونساء تجاهلتهم أسرهم ولم يعد لهم سوى رعاية الدولة لهم بالإقامة فى مثل هذا المنزل. وكانت تديره سيدة تقترب من غروب الأنوثة ورحب بأحمد زميل سودانى يدرس نفس التخصص . وحاولت المرأة غواية أحمد لكن إيمانه بأن وقت الإنسان هو ضلع مثلث متساوى الأضلاع ، ضلع للنوم ثمانى ساعات وضلع للعمل ثمانى ساعات وضلع للترفيه والاستمتاع بالحياة . ومادام يدرس فى إنجلترا فلابد له من دراسة القسم المصرى بالمتحف البريطانى ، فجمع عنه المراجع ليقرأها . وهو يعلم أن عائلة الأب والجد من سكان قرية تجاور الهرم . وفى لندن حجر رشيد ، الذى غير وجهة نظر الكون إلى مصر القديمة ، فقبل فك ألغاز هذا الحجر ، كان الكثير ينظرون إلى حضارة الفراعنة على أنها حضارة العمالقة والمساخيط، هؤلاء الذين غضبت عليهم السماء؛ فنفختهم ليتجمدوا فى الضخامة ، ثم قامت السماء بتصغير بعضهم وتحويلهم إلى مساخيط. الإحساس فى قلب احمد كالدوامة. لقد نشأ على معرفة أن الإنجليز أعداء. ولكن الإنجليز أيضا متحضرون. وأوروبا بأكملها تعيش التنافس فى داخلها؛ أما إذا ما عبر أوروبى واحد البحر المتوسط إلى إفريقيا ؛ فأوروبا كلها تتوحد فيه وخلفه. هاهى إنجليزية تحاور أحمد متفاخرة باكتشاف فرنسى أوروبى لحجر رشيد. فسألها: هل قرأت مذكرات طومسون ؟.
جاء لها باسم الكتاب الذى يكشف الكراهية الدقيقة بين إنجلترا وفرنسا ؛وترجمه شقيقه ثروت عكاشة. تجاهلت الإنجليزية الكتاب الذى يحكى التنافس بين إنجلترا وفرنسا وقالت: عجيب أمر حضارة مصر، لقد اخترعوا الهارب وعرفوا آلات النفخ و الإيقاع والطبول . عرف أحمد أنها تنسحب من المعايرة وادعاء الارتفاع وتأتى إلى نقطة مشتركة بين أهل الأرض جميعا ، الشمس فى لندن من رماد. والحرارة تهتز أحيانا مقتربة من الصفر، وأوراق الأشجار تقع فى الصيف وتزداد كثافة فى الربيع ، ليس هناك تلقائية كالتى تراها فى الأقصر. ولكن هناك نظام دقيق ، ولا أحد يساعد أحدا. وأنت محاصر فى الاعتماد على نفسك بما تملك من قدرة جسدية وقدرة ذهنية . وبين الإنسان والإنسان فواصل ومسافات ، كأن كل إنجليزى يعيش فى قوقعة خاصة به. والصدى الأول لانكسار إنجلترا فى الاحتفاظ بمستعمراتها، دفع أجيالا جديدة للبحث عن المتعة . ولكن المتعة عند أحمد تركزت فى ضرورة الهرب من الصداع الذى يأتيه كعقاب إن لم ينفذ الجدول الدقيق للتحصيل الدراسى .
ولكن زميله السودانى يستسلم لغواية سيدة بيت العجزة ويغرق أحيانا فى الخمر ويقول لأحمد « أنا ماركسى .. وملعون من كل حكومة تأتى لبلدى وهم على استعداد أن أظل فى البعثة مئة عام ليعايروا كل اليساريين بفشلى .
ولكن حدة ذكاء السودانى تجعله يتقدم فى الدراسة ويقرر الهجرة إلى حيث يكون العلم متاحا دون مطاردة الساسة ، يهاجر إلى كندا ويتقدم هناك ليضيف الكثير والكثير .
....................
وصارت كلمة « سد الحنك» هى اصطلاح بينى وبين د. أحمد عكاشة عن غياب حق إبداء الرأى . فالحياة لا يخنقها شيء قدر أن يعجز الإنسان عن التنفس والكلام ، فالتنفس والكلام يساعدان على صناعة موسيقى الحياة الداخلية للنفس البشرية ، ومن الحياة الداخلية للنفوس تخرج حركتنا العامة ، والكون كله ليس إلا مجموعة من السيمفونيات والأوبرات المتدفقة فى نشاط متفاعل لا ينتهى نتيجة لذلك ، بل ولعل ارتباك الحياة المعاصرة فى الكون كله قد جاء نتيجة طبيعية لعملية تزوير الحياة الداخلية للبشر عبر صهر البشر على مواقد من قنوات التيلفزيون التى تغسل العقول وتشوشها فى آن واحد .وكأن الكرة الأرضية الآن لا تريد أن تستمع إلى نصيحة ابن سينا أكبر طبيب فى الإسلام هو الذى أوضح بما لا يدعو إلى أى إنكار بأننا دون الموسيقى الداخلية النقية للجسد فلا حياة، ولسوف يصمت الجسد لتهرب منه الروح ليصبح جثمانا. ويضيف أحمد عكاشة ما ردده الإمام أبو حامد الغزالى أن من لم يهزه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره، والروض وأطياره فهو فاقد المزاج يحتاج إلى علاج!!!!
الموسيقى إذن ـ هى الروح الخاصة التى تضيئ الجسد، لأن الروح نفحة من موسيقى السماء . ولكن الكرة الأرضية لا تريد أن تصدق ابن سينا.
رابط دائم: