نحن شقيقتان وعينا علي الدنيا بلا أم، وقيل لنا إنها ماتت، وهي تضع أختي التي تصغرني بعامين ولم يتحمل أبي الحياة بمفرده فغادر بلدتنا إلي مكان لا نعلمه وتزوج واستقل بحياته وتركنا في رعاية جدتنا لأمنا، وهي سيدة بسيطة، ليس لها مورد رزق سوي معاش الضمان الاجتماعي، ولم يكن لها أولاد آخرون، وقد كرست حياتها لنا, وعملت في التجارة البسيطة، ثم افتتحت محلا صغيرا للبقالة، وأسهم معها أهل الخير في تدبير بضاعته, وتدرجنا في التعليم، والتحقنا بالجامعة بإصرار من جدتي، وتخرجنا فيها، وجاءنا شاب من أهل البلدة يريد أن يتزوجني، وكان يعلم ظروفنا جيدا, فلم يطلب منا أي مساهمة في الأثاث، وقال إنه سوف يتكفل بكل شيء, وأنه يكفيه ما أتمتع به من أدب وأخلاق, وأنه يقدر جدتنا العظيمة علي حد تعبيره, لكنها أصرت علي أن تسهم في الزواج بما تستطيع، وبالفعل اشترت لي الأجهزة الكهربائية بالتقسيط, وأسهمت في شراء الأثاث، ولا استطيع أن اصف لك فرحتها يوم زفافي, ووسط الزغاريد شاهدت الدموع تنساب من خديها، وفي نهاية الحفل اخترقت صفوف الحاضرين الذين جاءوا من أنحاء البلدة لمشاركتي فرحتي, وطبعت علي جبيني قبلة العمر.. إنها أمي التي لم أرها، والتي ربتني واحتضنتني أنا وأختي عندما رمانا أبي، وكان الله معها ومعنا فشد من أزرها وأعانها علي تربيتنا، ولما انتقلت إلي عش الزوجية وجدت كل حنان ورعاية من زوجي, وأحسست أن الله سبحانه وتعالي كافأني وعوضني به عن جدتي, وبعد عام أنجبت ولدا جميلا وصارت لي أسرة صغيرة, ثم تزوجت اختي بنفس طريقتي وتكرر السيناريو نفسه معها، ونظرت إلي جدتي فوجدت علامات الرضا والطمأنينة قد بدت علي وجهها البشوش, فلقد أدت رسالتها تجاهنا, وأصبحت لنا أسرتان مستقرتان.
إنني اكتب إليك هذه الكلمات لكي يعرف قراؤك ان هناك من قمن بدور الأمهات لأبناء لم يضعنهن، ولكي اقول لجدتي شكرا لك يا أمي, وكل سنة وأنت طيبة، ونحن مقبلون علي عيد الأضحي المبارك.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
من حق جدتك أن تبتسم وترتسم علي وجهها علامات الرضا والسعادة, فلقد أحسنت تربيتكما، وكانت لكما الأب والأم معا، بعد أن ماتت أمكما, وتخلي عنكما أبوكما.. إنها سيدة من طراز خاص ندر وجوده في هذا الزمن الذي طغت فيه الماديات, وأصبح هم معظم الآباء والأمهات بعد الانفصال أو رحيل أحدهما الإنصراف إلي ملذاتهم وأهوائهم.
وإذا كان أبوكما قد تخلي عنكما فإنه سوف يدرك ـ إن عاجلا أو آجلا ـ الخطأ الفادح الذي وقع فيه, فالإنسان كما يدين يدان..هكذا علمتنا تجارب الحياة, لكن الأنانية تقف دائما بالمرصاد أمام هؤلاء الذين يغلب عليهم حب الذات، وعندما يفاجأون بتقلبات الأيام لا ينفعهم الندم!
هنيئا لكما بحياتكما الجديدة وأسرتيكما الصغيرتين، وبجدتك المخلصة الصابرة التي حصدت بعض ماصنعت وهي علي قيد الحياة بزواجكما الناجح, وسوف تحصد المزيد من الخيرات في الدنيا والآخرة بإذن الله.
رابط دائم: