رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

مدينة السور

هالة البدرى
ربما لايعرف الكثيرون أن السور كان قد أقيم قبل بناء المدينة ، وأن المشروع الذى راح ينمو فى غفلة من أهل القاهرة التى كانت مشغولة فى ذاك الوقت تقاوم ثقوبا كبيرة فى بنيانها المتداعى ، المدينة المشغولة بالزحام وأصوات الاستغاثات ، والطرق الضيقة وهبوط الجنيه وتزييف الانتخابات وفساد التعليم والإرهاب لم تنتبه لذلك الإعمار البعيد على كتفها الجنوبى الشرقى إلا حين ظهرت البيوت والحدائق وبدت للحالمين بالسكن فى مكان بعيد عن الازدحام فرصة للهروب من جو القاهرة المعبأ برائحة الاحتراق ومخلفات المصانع وتراب المقطم الربيعى .

 من وصل منهم إلى المنطقة وجد السور وقد اكتمل ، ووقفت البوابات الشاهقة التى يحرسها رجال أمن يرتدون زيا شرطيا مخففا ، أقصد خليطا ما بين المدنى والعسكرى يطلبون إثباتات بعينها تبدأ بسؤال لمن تتشرف بالزيارة ؟ فإذا لم يكن لديك من تزوره داخل السور وقلت لتثبت حسن النوايا إنك إنما جئت لتحجز وحدة سكنية داخل الكومبوند ، فسيأتى الرد على الفور : لحظة واحدة أوصلك بمندوب الشركة ، والذى سيبادرك على حين غرة بسؤال عن ماركة سيارتك لأنها هى التى ستحدد مستواك الاجتماعى وقدرتك على دفع الملايين داخل السور .فإذا كنت تركب إحدى تلك السيارات التى يركبها الشعب والتى لا تمت بصلة للمرسيدس والجاجوار والبورش وكل مايزيد عن الفورباى فور فإن صوتا ليس ودودا على الإطلاق سيقول لك بامتعاض : نأسف لا يوجد لدينا وقت فى برنامجنا لاستقبالك ، ثم يغلق الخط قبل أن ترتد أنفاسك إلى رئتيك ، وتبلع علقم كبريائك التي ستكتشف فى هذه اللحظة أنها هي السبب فى شعورك العام بالغربة ، والعرق الذى يجتاح جسمك مصحوبا برعشة برد . لكن إذا ما حالفك الحظ ، ودخلت من السور بسبب دعوة فرح أو عشاء ، أو كنت فى تلك الفئة من المجتمع التى تصل خلسة إلى منصب غير مقصود ، فى لحظة غير محسوبة ، فتجد نفسك وسط طبقة سمعت عنها ، لكنك لم تتخيل حقيقة أمرها بعد ، ستكتشف أنك وسط جنة عدن بعد أن تحولت الصحراء إلى هضاب للجولف ، وبحيرات صناعية مربوطة بجسور خشبية ، تبدو من بعيد متهالكة لتحاكى مدنا أوروبية وأمريكية ،لأن الموضة فى هذا الوقت هى التعتيق . ويقابلك فى الطريق أشخاص يقطعون المسافات بسيارات كهربائية ، صديقة للبيئة لاتصدر صوتا ، وحمام للسباحة أمام كل فيلا ، وربما تشاهد بعض القاطنين مستلقين على كراسى لا تعرف إن كانت خشبية أو من اللدائن يدخنون فى هدوء ، وبعضهم يكشف عن معظم جسمه طمعا فى الحرية .إذ أن البيوت لاتحتفى بأسوار الحدائق مكتفية بالحماية الخارجية التى سمحت بخصوصية الطبقة وحدها . بالطبع ستحاول أن تدارى تعجبك باعتبارك شخصاً متحضراً ، وأنت تشاهد البنات وهن يرفلن بأحدث خطوط الموضة التى تكشف أكثر مما تستر ، وسيلفت انتباهك وجود سيدات محتشمات للغاية مع رجال ملتحين ، وصليب يتدلى من أجسام ضخمة تطفر بشرتها بتوهج النعمة ، فتعرف إنك فى مصر ، وأنك فى مصر أولاد الذوات كما كانت تسمى فى أربعينات ذات قرن . وإذا ما دخلت إلى الحفل اكتملت الصورة ، فإذا كنت قادرا على المواصلة سيسألك أحد الضيوف وهويبتسم عن عدد القصور التى تمتلكها فى المكان ، وعليك أن تجد إجابة . لن يشرح لك أحد من الموجودين أن أهل السور كانوا فى البداية خليطا من الأجانب ورجال الأعمال المتزوجين سرا بنساء شقراوات ، صغيرات السن هربا من أمهات العيال ، وحفاظا على العائلة الأصلية من الانهيار ، واستمتاعا بما يجلبه المال الوفير من متع الحياة وزينتها . وأن المجتمع الذى تشكل وتعارفت نساؤه حول حمام السباحة ورجاله فى ملاعب الجولف لم يسأل أى منهم إن كان أى من طرفى العلاقة هو الأول أو العاشر . لم يكن يهم أى منهم سوى التسوية التى قام بها أحدهم للثانى من إهداء القصر ، أو الإغراق بالمجوهرات ، أوتقديم أسهم كافية فى الشركات . كان السور يحافظ على الأسرار من الانتشار خارجه ، كما يحافظ على النوع من التلوث ، لكن الأحوال داخل السور لم تستمر كثيرا على حالها الأول ، بعد أن تحولت الأحاديث من عمليات التجميل إلى عمليات الإستنساخ . فى البداية كان الأمر مجرد خبر صغير ، انتشر حين أعلنت إحدى السيدات أنها ذاهبة إلى لندن لكى تحدد مميزات الجنين قبل أن يلتصق برحمها بأسابيع ، وبكل فخر شرحت مكان المستشفى الذي يجرى مثل هذه العمليات منذ فترة . وكما كان الأمر بالنسبة للولادات فى الولايات المتحدة لكى يكتسب الطفل الجنسية فى وقت من الأوقات انتشر الموضوع كطرفة ومصدر من مصادر العياقة ، لكن غير المعلن كان طلب بعض العائلات أن يتميز الطفل بقدرات ذكاء أعلى ، وأحيانا قدرات جسمانية أعلى ، وتوقف الأمر بالطبع على مقدار المال المدفوع الذى بلغ أرقاما فلكية . لم تكن الولايات المتحدة في ذلك الوقت قد أعلنت عن جيشها من البشر فوق العادة والذى كانت ولادته قد أحيطت بسرية شديدة ، افتضحت وكشفت عن نفسها فى واقعة شهيرة ، وقد أدى هذا الكشف إلى توالى الإعلان عن وجود هذا الجيش فى روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا ، ولحقت بهم دولة صغيرة غير محسوبة اسمها فنزويلا ، وبالطبع انجلترا التى كانت قد بدأت عمليات الاستنساخ بدوللى قبل الإعلان عن إيف .

‎قبل أن تفيق القاهرة من غفوتها وترى هذا الكيان الذى استفحل على كتفها الجنوبى الشرقى ، كان الجيل الجديد من أبناء السور قد تحول إلى كائنات مختلفة تمتلك حسا وقدرات وذكاء أعلى . وحين صحت وأدركت ماأصبحوا عليه ، اكتشف أهلها أن الزمن قد عاد بهم إلى سيرة لم يعرفوها حتى فى زمن الاحتلال التركى ، زمن الجوارى والعبيد ، فقد كانت قاهرة ذلك الزمان تضم أولاد الناس أى المنحدرين من أصول تركية والشعب أى العامة من أولاد البلد ، والعبيد والجوارى المسروقين من المجاهل الإفريقية والجاريات المخطوفات من بلاد الأرمن والتشيك حيث الجمال الأبيض الذى يعطى الفرصة للنخاس كى يربح من البيع للأغنياء ، لكن ما حدث فى القاهرة لم يكن ليخطر على بال أكثر المتشائمين أو المتفائلين حسب النظرة ، فقد قسم السور البلاد إلى قسمين : داخل السور وقد سميت المدينة باسمه كى تكبح تصورات أى واحد فى القدرة على عبوره ، وخارج السور أى القاهرة القديمة بكل ما فيها .

‎يعيش داخل السور البشر فوق العادة وقد تآكلت الكلمات فمحت السرعة كلمة بشر ومحا الملل كلمة عادة ، وتبقت كلمة فوق وحدها لتصف ناس المدينة بكل ما يمتلكونه من قدرات خارقة . فى القاهرة يعيش البشر كما عرفتهم البشرية قبل تلك اللحظة التى عرفت فيها كلمة الاستنساخ ، واللعب فى الجينات ، والمحسن كما كان يطلق عليهم فى بداية الحقبة التاريخية . بشر يعيشون بين السبعين والخمسين بعد المائة عام ، وبعضهم يصل إلى المائتين فى القليل النادر . تحصدهم الأمراض وهم أطفال فإذا نجا منهم الأقوى يتزوجون بشكل يسميه الفوقيون بدائياً ، فهم لم يعرفوا بعد كيف يقيسون بالميليمتر الزوايا التى تحقق نشوة المرأة عن طريق الآلات ، ولا يدخلون فى حالة ثبات انتشائى ، ولا تمدد تحت ضغط الأكسجين ، ولا يعرفون تلك الحالة بين التنفس بالخياشيم تحت الماء والتحول إلى الهواءالطلق باستخدام الرئة . هم فى حالة بدائية تدعو إلى الرثاء لكنه رثاء لايكفى لكى يرحمهم الفوقيون من العمل بجانب الآلات فى السخرة ليلا ولا نهارا ، كى ينتجوا ، يزرعوا ويحصدوا ويصنعوا احتياجات الفوقيين ، حتى لو اجتهدوا واستنبطوا نباتات لم يعرفها الكون من قبل واخترعوا طاقات لم يعرفها البشر لايكفى أى مما يفعلونه كى يمنع الفوقيون عنهم الحروب فى الألعاب الشهيرة التى تتم فى الاستاد خارج القاهرة بمائة كيلو داخل الصحراء الغربية ، حيث تمنح الفرصة لمائة شخص لدخول حرب طاحنة مستعملين الآلات القديمة من بنادق وحراب ورشاشات كى ينتصر واحد فى نهاية التصفيات فيرتقى إلى مرتبة الفوقيين ، ويسمح له بتطوير نفسه جينيا ويرث أولاده هذا الحق ، وهى قصة قديمة ومعادة تمتد جذورها إلى أيام الرومان أوربما قبلهم بزمن حيث كانوا يجلبون العبيد إلى حلبات مصارعة الأسود ، وفى زمن آخر استخدم الأمريكيون الكلاب المتوحشة لنزع اعترافات أسرى سجن أبو غريب ، واستخدموها أيضا للتسلية بهم فى وقت الفراغ . وهكذا يتفتق ذهن البشر كل يوم عن وسائل تعذيب جديدة للاستمتاع ، لكنهم والحق يقال يتركون لهم حرية الاختيار من المواد التى يصنعون منها الأسلحة البدائية والقنابل . يدربونهم لشهور ويدفعون الملايين فى مراهنات تهز المدرجات هزا ، ويتركون أجسادهم معلقة مثل الذبائح على السوارى كدليل يراه الفوقيون شرفا ويراه البدائيون إهانة ، وكثيرا ما ناضل البدائيون من أجل الحصول على قانون يحتم الدفن فور القتل من دون جدوى . اكتفى الفوقيون بلف الجثامين بمادة عازلة تمنع التعفن ولم يفهموا أبدا المغزى العاطفى كما يطلقون عليه لحرمانية الجسد ، بالطبع لا تعدم مدينة السور ظهور جمعية من المناهضين لهذه المباريات مطالبين بإلغائها ، أوعلى الأقل بالرأفة لكن أحداً لايسمع وإن سمع فهو يبتسم قائلا إن الديمقراطية تعنى أن نتركهم يتحدثون داخل السور بالطبع ، أما خارج السور فالسجون مفتوحة دائما وابدا . ‎بالطبع فى هذا المجتمع هناك قسم ثالث من البشر لم يصل لمرتبة الفوقيين ولم يحافظ على نقائه فسحق من القوتين وأطلق عليه لقب البزرميط .

لم تكن القاهرة وحدها التى تعيش هذا الانقسام ، فقد انقسمت الكرة الأرضية إلى فوقيين وبدائيين وبزرميط وحرص أصحاب الامتياز على الاحتفاظ بأسرار الصنعة حتى تبقى الأسعار عالية جدا ، لكن هذا لم يمنع من ظهور بؤر فى شرق آسيا وفى الأرجنتين ، وهو ماأدى إلى حروب طويلة انتهت بانتصار الأقوى ، وتركت بعض الاستثناءات ليكونوا أدوات للجيش فى الدول العظمى الجديدة . بالطبع كسبت المعركة فى النهاية الدول التى توصلت إلى تغيير جينى أسبق ، لكن هذا لم يعف شعبها من أن يتحول كله إلى فوقيين ، على العكس احتفظت بطبقة شبه بدائية ، وقد أدى هذا فى النهاية إلى تحول الكوكب الذى راح يتهالك من دون أن يشعر به أحد إلى طبقتين : طبقة السادة أى الفوقيين وطبقة العبيد أى البدائيين ، بالطبع لم يعلن أى حاكم فى أى قرية كونية أن شعبه من العبيد ، لكن واقع الحال لم يعد يحتاج إلى نقاش ، فكما كانت الطبقات فى عصور غابرة هى البروليتاريا والبرجوازية والأرستقراطية فإنها فى هذا العصر هى السادة والعبيد . كما كانت قبل إلغاء الرق ذات عصر ، ورغم التفوق الكيفى لدول بعينها احتلت دولا أخرى ، إلا أن التقسيم داخل هذه الدول لم يختلف كثيرا فقد قدمت الدول العظمى لشعوبها بعض الامتيازات الجسمانية لكى يقوم العبيد (ملحوظة للباحث : هومصطلح صحيح مائة بالمائة لأننا يجب أن نواجه الحقيقة ) بالأعمال المطلوبة من زراعة وصناعة وتجارة وحرب . وسادة وهم الذين يقومون بالتنسيق بين هذه القوى من أجل زيادة الرفاهية من ناحية والإبقاء على حالة العبودية من ناحية أخرى . أما الدول الفقيرة والمحتلة فعليا واقتصاديا بعد تقسيمها لدويلات صغيرة فإنها لم تعط لشعبها هذه الرفاهية فى امتلاك ذكاء أكبر أو طاقة جسمانية أعلى ، واكتفت بأن يكونوا على ماهم عليه .

‎الغريب فى هذا التقسيم مادمنا نتحدث بصراحة : هو الفن ، فقد اكتشف السادة أنهم غير معنيين به يستطيعون شراءه وقتما يشاؤون . ولماذا يتعبون فى اكتساب مهاراته حتى لو جلبت مالا وفيرا فجلب المال بالمهارات الفردية سبة يتحاشونها ، خاصة أن من قاموا من قبل بتعلية قدراتهم فى الجينات الخاصة بالمواهب انتجوا منتجا باردا متشابها مع غيره من الفوقيين ، وكتب عنهم النقاد كلاما لاذعا فتركوا الأمر للبشر البدائيين ، وبالفعل أفنى بعض الفنانين حياتهم فى تنمية قدراتهم وابداع فنون جديدة دفع فيها الفوقيون ملايين الجنيهات ، فازدهرت وتنامت خاصة فى دول فقيرة كانت تملك ذات يوم فى قرون سحيقة حضارات عظيمة . سمح عدد من الدول لبعض الفنانين بدخول مدن السور التى أصبحت سمة عالمية ، ولكن بعضها رفض بشدة وهو ما أدى إلى ظهور جماعات تتهم هؤلاء الفنانين بالخيانة ، وجاءت ردودهم واضحة من التاريخ أن الفنون تزدهر فى قصور الأغنياء ، وأنها تحتاج كى تصل إلى عليائها إلى رعاية مالية وإلى سلطة تسمح لها بالنمو ، وردوا عليهم بأن الفنون أداة تمرد حتى لو ازدهرت فى قصور الأغنياء ، ولم يع الفوقيون الذين تسابقوا لامتلاكها دموع أصحابها رغم أنهم تحدثوا كثيرا عن فك شفراتها وعذاب صانعيها فى بحثهم عن الحرية ، وتشدقوا بقدراتهم على التسامى على المعنى لأنهم فى بلاد الحرية . ولم يجدوا أى غضاضة فى سماع الأنين الذى يصدر من الناى أو الكمان ، تماما كما لم يجدوا غرابة فى صوت العصافير حبيسة الأقفاص . من هنا نشأت مجموعات سمّت نفسها صوت الفن الحر ، ورفضت التعامل مع السلطة ، ودخلت فى حسابات القاهرة «الأندر جراوند « تحت الأرض حيث أطلقوا أسماء مثل الأصالة والعراقة والحفاظ على التراث على أعمالهم ، وتجنبوا الدخول فى مسابقات الفن التى تقيمها أجهزة الدولة ،ورفضوا الجوائز وبعضهم رفضها فى ضجة اعتبرت عملا سياسيا مبهرا ، فى حين قبل البعض وقال هذا مال الشعب أى مالنا نحن .

‎تحول الفن إلى سلاح فى يد بدائى العالم القديم صاحب الحضارات المبهرة فى مصر ووادى الرافدين ، فى الصين والهند ، واليونان وروما ، وبين أحفاد الإزتيك ، خاصة بعد أن تم تدمير آثار حضاراتهم بالكامل على يد قوة قاهرة لم تعرف بشكل قاطع ، وإن أشير إليها من دون دليل . قوة تعودت البلطجة ونهب المتاحف فى الحروب ، وتدمير الوثائق التاريخية حتى تختفى الحقائق إلى الأبد ، وربما حتى لا تتعالى هذه الدول بمجدها السابق وفضلها على البشرية ويبقى فى العالم مجد واحد .

‎قال آدم لنفسه هذا تلخيص مبهر ! ويفجر آلاف الأسئلة . كان معلمى محقا فى أن تكون البداية من هنا . أصبر قليلا ، لم نكد نبدأ بعد .

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق