مع بدايات القرن العشرين, وأولى رحلات أسطورة القرن وقتها, قطار الشرق السريع, تحولت السياحة من ترف يميز الأثرياء والمغامرين المجانين,
إلى سلعة شبه شعبيه يمكن لأى إنسان أن يبتاعها ويستمتع بمزاياها التى بلا حدود, طرح توماس كوك لأول مرة ما عرف بالشيكات السياحية, التى سرعان ما تحولت إلى عملة كونية, مكنت أبناء الطبقة الوسطى فى جميع أنحاء العالم من قضاء عطلاتهم السنوية فى وهم سمى بالسياحة العالمية, فى أماكن حول العالم, سرعان ما تحولت هى الأخرى إلى جنان على الأرض مهمتها الأولى أن تجتذب أكبر قدر من هؤلاء الباحثين عن وهم السعادة المنتظرة, فى أرض بعيدة عن أرض الوطن.
بعد الحرب العالمية الثانية, ومع تطور صناعة الطيران, إزداد الطلب على رحلات السفر عبر القارات, خاصة من الطبقات العاملة فى البلدان الصناعية التى سهلت التشريعات الحديثة, حصولها على عطلات سنوية طويلة نسبيا, ومع الستينيات إرتفعت أهمية صناعة السياحة, وبرزت إلى الوجود طائرات النقل الجماعى زهيدة الأسعار, التى مكنت أبناء أوروبا الباردة من قضاء عطلاتهم على شواطىء الدفء والمرح حول العالم.

وسرعان ما أصبح قطاع السياحة واحدا من أهم مصادر دخل الدول, إلا أنه خلال العقد الماضى تحول إلى أكثر القطاعات الاقتصادية الهشة أمام التهديدات الأمنية والإرهابية, فقد سجلت الإحصاء ات الدولية تراجع السياحة العالمية إلى أقل من 1٫1 تريليون دولار فى عام 2015 بالمقارنة بـ1٫2 تريليون دولار فى 2014, على الرغم من إنخفاض تكاليف السفر بعد إنهيار أسعار النفط العالمية, ويعود السبب كليا إلى التهديدات الإرهابية التى ركزت بشكل واضح على قطاع السياحة فى أبرز الدول التى كان تعتبر ملاذا للسائح من مختلف انحاء العالم....وهنا نتحدث تحديدا عن باريس وتونس ومصر وتركيا وبروكسل. لقد إستهدف الإرهاب بشكل مباشر السياحة العالمية فى مقتل, فوفقا للعديد من الدراسات الأخيرة, إستهدفت العمليات الإرهابية السياحة فى السنوات الأخيرة, كوسيلة للضغط على الدول ومواطنيها, من خلال تهديد واحد من أهم الموارد الاقتصادية وأهم مصدر كذلك للعملات الأجنبية, ومن ناحية أخرى فقد طورت المنظمات الإرهابية من إستراتيجياتها التدميرية, فقررت تنفيذ العمليات الإرهابية غير العسكرية ومنها التركيز على تفجير المناطق السياحية, الذى بدا أقل كلفة مادية, ولا يتضمن خسارة كبيرة فى أفراد تلك المنظمات, ناهيك عن إستهداف المواقع الاثرية والتراثية والحضارية نفسها للتاثير على مصادر الدخل السياحى, وقد تفوق تنظيم داعش فى هذا السياق على نفسه فى الواقع عندما عمد بشكل مباشر إلى طمس التراث الحضارى لسوريا والعراق, من سرقة الآثار وتدميرها. لقد كشف تقرير اعدته وكالة «أى بى كى» الدولية, المتخصصة فى الدراسات والأبحاث السياحية, أن 40% من السياح العالميين تأثروا بسبب تخوفهم من تنامى التهديدات الإرهابية حول العالم, وأن 15% منهم إختاروا عدم السفر خارج بلدانهم, وفى تقرير للمجلس العالمى للسياحة, فإن الدول التى تعرضت لتهديدات إرهابية من المتوقع أن يتعافى قطاع السياحة بها بعد فترة قد تصل إلى 13 شهرا بعد أى تهديد أمنى.
وفى جميع الأحوال فقد تحول عام 2016 تحديدا ليصبح عاما حاسما فى مجال السياحة العالمية, ففيه خسرت كبريات الدول السياحية موردها الرئيسى، وفيه أيضا تحولت السياحة تحولا حادا بإتجاه السياحة الداخلية, حيث أصبح المواطن العالمى فى زمن الإرهاب يخشى ما كان يوما أحد أبرز مزايا زمن العولمة, فلم تعد عطلة المواطن الأوروبى التى تظل حلما يداعبه طوال العام إلى الشواطىء الدافئة, حلما هانئا بل تحول إلى كابوس يدفعه فى نهاية المطاف إلى تفضيل السفر القريب إلى إحدى مدن السياحية البسيطة فى بلده.
وفى تقرير نشرته مؤخرا مجلة «دير شبيجل» الألمانية, تم رصد بعض من تلك التحولات الحادة فى عالم السياحة التى شهدها عام 2016, وكان من أبرز الدول التى إستعرضها التقرير, مصر وتونس وتركيا والمغرب كدول خسرت فى زمن الإرهاب مقابل دول أخرى خرجت رابحة هى أسبانيا وألمانيا واليونان وإيطاليا.
ويخلص التقرير إلى أن وهم سياحة العولمة لم يكن مقدرا له أن يستمر, فكما يقول خبير الأزمات والإتصالات الألمانى بيتر هوبيل, فإن السياح الذين يبحثون عن البساطة والمرح فى أماكن يهربون إليها من الضغط النفسى فى بلدانهم, يرغبون فى أن يكونوا موضع محبة ورعاية فى الدول التى يختارونها لقضاء فترة إستجمامهم, وهم عندما يواجهون إرهابا فى تلك الدول يشعرون بانهم يواجهون الشر والكراهية بدلا من الحب والمودة, وهذا الشعور هو تحديدا ما يفعله الإرهاب الان.
والنتيجة هى أن مئات الخاسرين هذا العام قد رماهم الكساد السياحى فى بلدانهم إلى عالم البطالة البغيض, حيث تصبح الفرص سانحة لدى المنظمات الإرهابية لتجنيد الشباب العاطلين فى بعض تلك الدول. فى أنطاليا بتركيا على سبيل المثال, نقص عدد الزوار الأجانب بنسبة 40% مما يعنى خسارة يقدرها الخبراء بـ 7 مليارات يورو من عائدات السياحة التركية, وعلى إمتداد ما يعرف بالريفيرا التركية جنوب غرب تركيا إقتربت الفنادق من غلق أبوابها تماما, ومن المتوقع أنه إذا إستمر الحال هكذا فسوف تغلق نحو 40% من الفنادق والمطاعم التركية أبوابها, مما يعنى نحو 6% من أجمالى الناتج المحلى و10% من فرص العمل. فى عام 2015 وحده وقعت عشرات الهجمات الإرهابية التى أعلن تنظيم داعش عن مسئوليته عنها, وإعتبر فيها السياح هدفا «ناعما» التى يمكن التنبؤ بسهولة بوجهاتهم وتصرفاتهم. فى تونس بعد الهجمات المزدوجة فى العام الماضى الذى نتج عنها مقتل 38 سائحا أغلبهم من البريطانيين, أغلقت العديد من المطاعم والفنادق أبوابها, فى بلد يعتمد ـ تقريبا كليا على السياحة, هبطت العائدات السياحية بنسبة 35 % ,ويرى بعض الخبراء أن طلبات السفر إلى تونس هذا العام اقتربت من الصفر من الدول الاوروبية أى ما يقرب من تحول 2 مليون شخص إلى عاطلين عن العمل, فى حين شهدت مصر هى الأخرى تراجعا كبيرا وإن كانت ما زالت تلقى إقبالا, ووفق تقديرات المجلس العالمى للسياحة فإن هذا القطاع يمثل لمصر حوالى11.4 % من إجمالى الناتج المحلى ويعمل فى هذا القطاع نحو 2.6 مليون مصرى. فرنسا أيضا لم يشفع لها تاريخها العتيد فى السياحة, فباريس المصنفة عالميا بأهم الوجهات السياحية العالمية تقلص حجم دخلها من السياحة ليصل فى نهاية العام الماضى إلى 8% وهو فى إزدياد هذا العام, بعد أن عمد السائحون من اليابان والصين وروسيا إلى إلغاء رحلاتهم إلى فرنسا.
بلجيكا التى شهدت نسبة إشغال لفنادقها قبل هجوم بروكسل بداية العام الحالى تصل إلى 82%، إنخفضت نسبة الإشغال بعدها مباشرة إلى 70%. ويرى محللو المخاطر أن ما يسمى بوحدة قياس الموت لأسباب غير طبيعية, أو ما يسمى micromort وهو ما يعادل واحد فى المليون, يؤكد أن مخاطر الموت لأسباب غير طبيعية فى يوم عادى بسبب عملية إرهابية, أقل من 0.5 ميكرومورت, مقابل مخاطر الموت مثلا أثناء إجراء عملية ولادة قيصرية التى تصل فيها مخاطر الموت إلى 170 ميكرومورت, فى حين أن مخاطر الموت من سقوط ثمرة جوز هند على رأس أحدهم تسبب نحو 150 حالة وفاة سنويا, ومع هذا فإن السياح الأوروبيين أبدوا تخوفهم من السفر إلى دول سياحية تعد غير آمنة نسبيا وفضلوا السفر إلى منتجعات سياحية فى بلدانهم, وربما كان على رأسهم الألمان مثلا, بالإضافة إلى عدد أخر من السائحين الأوروبيين الذين فضلوا السفر إلى ألمانيا, ويبقى السؤال: هل ستنتصر روح المغامرة لدى السائح العالمى على التهديدات الإرهابية أم أن الإرهاب سوف يحقق واحدا من أهدافه ويقضى على واحدة من أهم متع إنسان العولمة؟.
رابط دائم: