رغم أنها لم تكن المرة الأولى ، إلا أن زيارة محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيرانى الأخيرة لتركيا اكتسبت زخما رسميا إضافيا من الترحيب والكرم وهو ما لمسه الضيف «الصديق الكبير»،الذى عبر عن إمتنانه أولا لحفاوة الإستقبال التى لاقاها هو والوفد المرافق له وثانيا لعبارات مضيفه المخلصة التى أسبغها عليه.
وربما أدرك ظريف بحدسه بأن موقف بلاده وأدانتها السريعة لمحاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو الماضى واتصاله هو شخصيا خمس مرات هاتفيا بنظيره مولود تشاويش أوغلو بتلك الليلة العصيبة أثلج صدور قادة الاناضول، بدءا من رئيس البلاد مرورا برئيس وزرائه وأخيرا زميله تشاويش أوغلو. وهنا عاود الرجل مجددا فى المؤتمر الصحفى عقب مباحثاته فى مقر الخارجية بضاحية بلجت الشهيرة بوسط العاصمة أنقرة بأن يقدم التهنئة الحارة للدولة التركية لإنتصارها «الكبير والجسور» ضد هؤلاء « الإرهابيين « الذين أرادوا الإنقضاض على الديمقراطية.
وفى مجلس الأمة التركى الكبير (البرلمان) القريب والذى إتجه إليه المسئول الايراني، بدا التأثر واضحا وعظيما على وجه جواد ظريف ، والحق كانت تعبيراته الحزينة صادقة بلا رياء وهو يتفقد آثار الخراب وما إقترفته أيادى الانقلابيين من آثام مروعة والتى تركت بصماتها المتوحشة على جدرانه وأروقته حينما إستهدفوه بقذائف الصواريخ من مروحياتهم و«كأنهم كانوا فى حرب»، فى محاولتهم «المشئومة» منتصف يوليو الفائت.
وفى التليفزيون الحكومى ومن خلال إحدى شبكاته الموجهة والناطقة بالعربية وتبث من إسطنبول، وكنوع من المجاملة للجمهورية الفارسية ، أهدت لمواطنيها وكأنها تدعوهم لزيارة « جارتهم الإسلامية الشقيقة « برنامجا وثائقيا عن طهران « مدينة العراقة والحداثة « وميادنيها الشهيرة وفى مقدمتها بطبيعة الحال « آزاد « أى الحرية ونصبه التذكارى الضخم الذى يحمل نفس الإسم.
وهكذا تبدو الغرائب ومعها علامات الإستفهام، والتى تمثلت فى هذا التكرار ( الفولكلورى ) بالتشديد على الديمقراطية ، خاصة وأنها تزامنت مع تظاهرات عمت عواصم غربية تندد بعمليات الإعدام بحق الإيرانيين المعارضين ولأن معظمهم أكراد فقد غض الخطاب الرسمى التركى (ومعه إعلامه الذى أصبح قوميا إقصائيا) الطرف عنها وكيف يشير لها وهو الذى يقود معركة ضروس ضد ما يصفهم بالمتمردين الإنفصاليين فى مدن جنوب شرق الأناضول ذات الغالبية الكردية؟.
كما أنها ترافقت مع حملات تصعيدية فى داخل كلا البلدين، ففى الأخيرة إستمرت ملاحقات الكيان الموازى فى إشارة إلى الداعية (الصوفي) فتح الله جولين مدبر الإنقلاب، وفى إيران جاء تشريد عشرات بل المئات من الأسر الأحوازية ذات الأصول العربية السنية وغيرها من الممارسات القمعية وجميعها وجدت صمتا مطبقا من الساسة الترك.
وهكذا تلاقى البلدان تحت عنوان عريض زائف ألا وهو الديمقراطية ، صحيح أنها عرجاء متآكلة فى تركيا، إلا أنها غير موجودة أصلا فى حكم الملالى فعلام إذن التمسح الإيرانى المصطنع بها؟
الأمر يقينا يخفى نوايا ونوازع يضمرها أهل الحكم لورثة الإمبراطورية العثمانية، ولا بأس مؤقتا من تفعيل المصالح الإقتصادية والتجارية حتى وأن تباينت وتباعدت الرؤى السياسية خصوصا فى الملف السورى .
فبداية تم الإعلان عن إنهاء تعليق الرحلات السياحية الذى كانت قد أمرت به حكومة حسن روحانى فى اعقاب المحاولة الإنقلابية ، ومن المتوقع فى غضون أيام أن تقوم وكالات السفر بإجراء تنسيق مع نظيرتها من الشركات التركية لعودة السياح الإيرانيين عبر المنافذ البرية والجوية مثلما كانت قبل الإنقلاب بل والعمل على زيادة أعدادهم فى وقت تعيش فيه المقاصد السياحية التركية ركودا كبيرا.
ولتحقيق تطلعات الشعبين التركى والإيرانى تمت مناقشة سبل زيادة التبادل التجارى أما عن الطاقة التى كانت فى قلب محادثات ظريف مع المسئولين الأتراك ، وهؤلاء بدورهم المتعطشون دوما للغاز طلبوا شراء المزيد منه، وعلى طاولة البحث طرحت قضية التسعير ودعوا إلى حل الخلاف على الأسعار فيما بينهم دون اللجوء للتحكيم.
أما عن سوريا فيبدو أن أنقرة المكلومة فى الغرب الأوروبى والأمريكى، على استعداد لتغيير توجهات سياستها الخارجية والإقرار بواقع لم يعد يتطابق مع الشروط التى وضعتها لحل المعضلة فى هذا البلد المتاخم لها فى 900 كيلو متر حدود ، ولم يجد تشاويش أوغلو غضاضة فى التشديد على أهمية الدور البناء الذى تضطلع به إيران من أجل التوصل إلى حل دائم فى سوريا».
لكنه إستطرد مطالبا بسياسات إيرانية أكثر إيجابية ، ودون أن يصرح علانية كان واضحا الرغبة فى الوصول إلى نهج جديد نحو «حلول وسط» مع إحتفاظ كل طرف بأهدافه الأستراتيجية النهائية، ظريف لم يشأ أن يخيب ظن مضيفه فأشار إلى أن بلاده تسعى إلى تقليل أوجه الخلاف والتجاذبات فى هذا الملف الشائك. لكنه لم ينس التأكيد على أن الشعب السورى هو وحده من يقرر مستقبله بنفسه.
تلك التطورات جاءت بعد أن تصالحت أنقرة وموسكو وهو ما رحبت به طهران وهنأت العاصمتين بالمسار الصحيح الذى ستسلكانه فى المرحلة القادمة، وكان ظريف وقبل أن يحط رحاله على الأراضى التركية قد هاتف نظيره الروسى سيرجى لافروف، بشأن التعامل مع التوجه التركى الجديد فى السياسة الخارجية.
وفى سياق التنازلات والتراجعات لم تعد أنقرة حريصة على مطلبها بفرض منطقة حظر جوى بطول حدودها مع سوريا، بعمق يكفى لعدم تفكير الأكراد فى إقامة كيان خاص بهم ، هذا التغير المحمود رد عليه الروس بغلق مكتب تمثيل حزب كردى تزامنا مع زيارة أردوغان التصالحية لسانت بطرسبورج.
الميديا التركية توقعت من هذا التعاون الإقليمى الثلاثى أن يكون بمثابة ضربة موجعة لواشنطن خاصة مع إتجاه حكومة العدالة والتنمية إلى روسيا وإيران نتيجة التوتر الحاصل مع الولايات المتحدة والذى تغذيه يوميا إشارات كبار المسئولين الأتراك نحوها بضلوعها فى محاولة الإنقلاب الفاشل، وتقديمها الدعم اللوجيستى من قاعدة إينجرليك للعسكريين أنصار جماعة جولين فضلا عن عدم ارتياح أنقرة من الدعم الأمريكى لأكراد سوريا.
أمام تلك المشاهد السيريالية المفعمة غموضا تأتى زيارة جو بايدن فى الرابع والعشرين من الشهر الحالى لتركيا والتى كان مفترضا أن يقوم بها جون كيرى ، لكن يبدو أن باراك أوباما وفى ضوء تصاعد أجواء الغضب ورسالة أردوغان الحادة له وتخييره إما تركيا أو جولين، فضل إيفاد نائبه، وبعد الإنتصار على داعش فى «منبج»، بات عليه أن يختار بين ثلاثة : أردوغان أو جولين أو وحدات حماية الشعب السورى الكردية.
رابط دائم: