رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

ملامح الجد القديم

أحمد الشيخ
( 1 ) ظللت أواصل مشاويرى وأسعى بدأب مسنودا على رغبتى فى تنفيذ وصاياه التى بثها بلسانه على مسامعى فى بدايات صحوى للحياة ، كان الأمر فى بداياته عسيرا لأن المفردات التى سمعتها منه كانت بلا دلالة لوعى لم يكتمل او حتى يتشكل ،

غير أن بعض معانيها اتضحت لى بعد ذلك فدفعتنى بشكل متواصل لأن أحشد قدراتى وأتابعه لتنفيذ وصاياه او فهم مفرداته دونما كلل ولا ملل وبعزم يتنامى على مهل ، كنت أستعيد وجه ابى الذى ظل يوصينى بأن أعتمد على روحى فى مستقبل أيامى وأن أمنع نفسى من طلب المساعدة من أحد ، مؤكدا أن طلب المساعدة ضعف واعتراف مسبق بالهزيمة ، لعلنى فى تلك المرحلة الحرجة لم أكن جاهزا لأستعيد تقاطيعه بينما أسمع صوته فى الصحو والمنام وبنفس إيقاع العبارات التى حدثنى بها عن نفسه وأنا فى سنوات طفولتى المبكرة ، لعله جهزنى لأن أومن بفكرة مؤداها أن ارواح من رحلوا لا تغادرنا أو تتخلى عنا ، بل تحوم حولنا بإرادتها لتواصل دورها وتحمى السلالة من مصاعب الحياة بتوعيتها بما يلزم أن نقوم به لتكتمل مشاريعها ، فهل يمكن ان ابوح لكم بما كنت اشعر به فى تلك المرحلة الغامضة راجيا ان تتمهلوا قبل اتهامى بالجنون ؟ هى مغامرة منى على أى حال ، لكننى لا أملك غير طرح فكرتى متمنيا أن تتوافقوا معى ، وربما أنال بعض قبولكم لفكرتى أو أحصل على سخرياتكم منها ، لكن الكامن باعماقى هو شعورى بالطمأنة لأن سلالتنا منسوبة لفراعين قدامى ، حدثونا عن خلود الأرواح فى بردياتهم وحنطوا ابدان من رحلوا فأسكنوها فى مقابرها البراح التى حولوها لحصون فى بطون الأهرامات او سراديب الجبال الممدودة لتبقى كعلامات تتحدى الفناء ، كنت ازورها واثقا أن الأرواح الهائمة ستسعى فى الزمن الآتى لتسكن الأبدان مرة أخرى بعد أن تجددت خلاياها وقبل أن تخطوا اول خطوة لتأكيد خلودها ، وعفوا لأننى ساواصل مشوارى معكم متمنيا أن يتأكد لكم صدقى بكل ما كلفت روحى ينسخه بقلم حبر جاف مستورد ، ربما يتشابه مع قلم جالس القرفصاء الذى كلف روحه بتسجيل خطايا الفراعين وأعوانهم ،ولم ينس عطاياهم لرعاياهم وبراعاتهم فى الدفاع عن حدود وطنهم من الغرباء ، ولأن بعضهم سعوا لكسوة العريان وإطعام من لم يتوفر لهم القوت الكافى فى بلادهم أو سكنوا بيوتا ضيقة وتعايشوا معا وبينهم أرباب حرف وفدوا من بلاد بعيدة وعاشوا بين ابناء المدن جيرانا يتكلمون نفس اللغة ويؤمنون بنفس العقيدة ويبحثون عن مصدر الرزق حتى ينالوه ويتقاضون اجورهم فى كل اركان هذا الوطن ، وبألفة وسلام كان الغريب يتخطى الحدود ليتاجر او يمتهن حرفة ويأخذ اجره دونما أى تفرقة ، وربما يطول به الزمن فيتعلم لغة الناس ويحاورهم كانه صار واحدا منهم، ولأن ارض الوادى براح والنهر يرويها والنبت يكسيها صارت مطمعا لبعض الغرباء الذين يتجاسرون ويقتحمون حدودنا غزاة باسلحة يستبيحون بها الدم وأرواح الأبرياء فننتبه من غفلتنا ونحمل سلاحنا لندافع عن ارضنا ونحمى ناسنا ونصدهم ، ولا نكتفى بفرارهم من اراضينا بل نطاردهم حتى الفناء التام أو اكتمال الانكسار.

سوف نتوافق معا بحسب أمنياتى التى هى امنياتكم لأننى منكم وأنتم منى ، ولأننا نتوافق مع الغرباء العقلاء الذين قرأوا تواريخ البشر ثم صارت لديهم معرفة مؤكدة بتاريخ كل حيز مسكون سعى ناسه للوصول اليه وعمروه واتخذوه سكنا وموطنا فزرعوا أرضه وأكلوا من ثمارها وبدلوا همهماتهم إلى كلمات ولغات تخصهم فدربوا أطفالهم على فهم مفرداتها لتتشكل لهم لغة مسطورة تفسر لهم دنياهم ، وقد يسأل بعضهم البعض الآخر عن الحكمة وراء وجودهم ، فإذا تاهوا سألوا من سبقوهم عن سر الحياة وسمعوا ردودا تتباين شكلا لكنها فى نهاية المطاف تؤمن بالرب الخالق الذى جسدوه فى البدايات اشكالا وتماثيل وكيانات حية لها توصيفات متباينة ، حتى جاء الأنبياء والرسل وفسروا لهم حكمة الوجود ورب الوجود خالق الشمس والقمر والنجوم والبراح المسكون ، هل فكروا فى الموت والفناء والخلود والعدل والظلم والحرب والسلام ؟ أو هل آمن كل من جاءهم رسول أو نبى برسالته او وصاياه ؟ أم ان البعض منهم عارض واعترض ورفض كل ما قيل لهم ؟ أنتم بالقطع تعرفون أكثر منى لأنها تركة موروثة فى حيزها البراح الذى اتسع واتسع ليشمل اركان الدنيا وقيل فيها الكثير والكثير ، لكنها فى نهاية المطاف إضافات لقضية الوجود والعدم او الحياة والموت أو البقاء والفناء ، والشك واليقين وتفاسير البشرية منذ البدايات البدايات ،وملايين الاجتهادات التى لن تنسينا موقعنا من الإعراب ومكانتنا فى ريادة هذه الدنيا دونما تعصب أو تعال او تعنصر مقيت ، ربما اكتفى ببعض المؤشرات الخاطفة لتأكيد توافقنا لأننا أبناء هذه الأرض بموقعها الجغرافى وجيناتها الوراثية التى تسرى فى خلايا دمى كما تسرى فى خلايا دمائكم لتؤكد أننا بالعدل والعقل الموروث تواصلنا ووصلنا إلى نقطة الارتكاز ، التى صرت مشغولا بها بعد أن بث أبى فى مسامعى قناعاته الأولى ومواجعه التالية فى أعقاب كل زيارة لمتحف آثار فى العاصمة او عواصم الأقاليم ، او حتى فى سراديب الجبال التى حفروها ووضعوا فيها التماثيل الكبيرة والصغيرة والمقاعد والبرديات وأدوات البيوت من السكاكين والأطباق وثياب الرجال مع ثياب النساء المحفوظة فى الصناديق وأدوات الحرب التى تخصنا وتلك التى تخص الخصوم الهاربين من جحافل جيوش كلفوها بتحرير اوطانهم من رجس فلول الغازين ونجاساتهم

هل يحق لى أن أحكى لكم بعض ما قاله خصوم الفرعون الذى دعاهم للتوحيد وفيها بعض ما قاله أخناتون عن الموت والحياة والرب الواحد الذى أنشأ له مدينة « أخيتاتون « لتكون مقرا للحكم ولدعوته للتوحيد ، لكن فكرتى عنه تتطلب منكم بذل المزيد من القراءات لمخطوطات فوق جدران المعابد ومكتباتنا الشهيرة بعواصم العالم ، مرورا بعشاق البحث والمعرفة والدارسين لأصل الحياة ومصير البشر بعد رحيلهم ، وسواء كانوا مرضيا عنهم او مغضوبا عليهم ، وبحث الأمر لن يكون بسيطا او هينا دون بذل المزيد من المعرفة وتطويع الادوات ليكون المردود متوافقا مع تركيبة العقل الإنسانى متنوع القدرات ، والذى يتقبل تفاسيرا متنافر أو متوافقة تربك العقلاء والعلماء والدارسين والباحثين فى جذور البشرية ولكل جنس فيها أو ملة قناعاته ، وستتداخل امنياتنا ومخاوفنا حسبما أظن ، لكننا سنتوافق فى نهاية المطاف لأننا فى كل اطراف الدنيا نتساءل عن ارواح الآباء والأجداد الذين رحلوا لكن أرواحهم مازالت تحوم حولنا بدرجات موغلة فى الإقتراب او التباعد برغم مفارقتها لحياتنا لكنها تبقى لتحوم حولنا وتنفى فناءها ، ولأنها ضد الفناء المجانى لأرواحهم وأرواحنا وقد سبقونا فى الحياة أزمانا نخطئ فى حساباتها ونختلف ، لكننا نستعيد ما توافقنا عليه معكم فى البدايات كما اتفقنا ، وما دمنا نؤمن بأن أرواحهم باقية تحوم فى الفراغ المفتوح الذى لا تحده حدود أو يفنيه زمان فى أى مكان.

( 2 )

سأعاود ما بدأته وبحت لكم به عن ابى لأن البدايات تحمل فى داخل الداخل منها نهاياتها المؤكدة ـ ولأن الدنيا بحساباته دواره - فكم طلع ساكن لقاع الأرض وكان بواطيها ثم تبدلت احواله بقدرة قادر ليصير عاليها ، على هذا النحو كان يحدثنى بصوت عال ليدس أفكاره وخبراته لذاكرتى وأنا صبى بنصف الوعى اتفهم ما أسمعه او يدور حولى ، كنت شابا طالعا لدرجات سلم وعيه بالدنيا ليصل لخبرات الرجل فى مراحل نموه المتتالية ، لعلها كانت تجربة خاصة به وشاء أن يدسها فى ذاكرتى ليزود معرفتى بكل ما قد اواجهه فى دنياى قبل او بعد رحيله ، لكن ما قدمه من الوصايا بأحاديثه فى الزمن التالى وعلى وجه التحديد قبل رحيله عنا بعدة أعوام لم يكن مرتبا على نحو جعلنى اتساءل بينى وبين نفسى إن كان هذا هو أبى ، الذى انشأنى ورعانى وربانى وأعطانى واحتوانى ونصحنى فحمانى طوال العمر الذى عشناه معا ، لكنه لآسباب لا أعرفها تبدل وتغير وتجبر أمام الغرباء ربما ليؤكد امتلاكه لى ؟ ألم يكن يعرف ؟ أم انه فى دوامة العطاء لم يدرك طبيعة المخاطر التى واجهتها ، وقد بدا له أننى صرت رجلا فاته أن يتزوج فى العشرينيات او مطالع الثلاثينيات ؟ اواصل البوح دونما موانع مبررة وغير مبررة ، عن كل ما جربته برضاى أو غصبا عنى وأنا شاب وافد من مدينة صغيرة فى وسط الدلتا وأدخل مدينتكم زمنا عاشقا ومعشوقا بلا رقيب يمنعه من التمادى فى علاقاته المتنوعة ، فى الجامعة التى التحق بها على غير كل التوقعات ، لكنه صار من بين طلابها الواعدين بالتفوق وقد ناله وسجل اسمه طالبا للدراسات العليا ، وكتب رسالة الماجستير ايضا ولم يبق له غير المناقشة التى فر منها لأسباب تخصه ، وربما لو كان ابى يتابع أخبارى الأخرى ما كف ابدا عن تقديم النصائح فى الوقت المناسب ، ولعله كان يكتفى بالزيارة الخاطفة فى بدايات الشهور لأقدم له الهدايا لو تيسرت الأحوال او أكتفى برؤيته والإطمئنان على صحته وطمأنته على حالى وغربتى بتلك المدينة التى عاش فيها وعرف دهاليزها ومنحنياتها ومستويات ناسها المتناقضة ، بين من يمتلكون القصور الفسيحة فى الأحياء الراقية فى اطرافها ومن يسكنون المدافن بدعوى أنهم من ابناء اللحاد المكلف بدفن موتاهم بشرع الله.

لابد اننى شعرت أيامها بعدم احتياجى اليه كما كان يحدث فى مراحل تكوينى الأولى التى استعيدها وأراها فى المنامات متكررة ، بعضها بشكل خاطف وبعضها يمتد ويمتد ليصبح الخلاص منه غاية ، ولأنه عايشنى بعد رحيله وواصل مشواره بجوارى بعد أن ورطنى فى مشاوير السعى للخلاص بروحى منه ، ومن حياتى التى رسم خطوطها لى متطوعا لينال رضى اهله وناسه وتلك المرأة التى عقد قرانه عليها ولم يكمل المشوار لأنه رحل.

وأنا أذكر يقينا أنه باح لى بصوته هامسا بعد رحيله أن أواصل مشواره ، واعقد قرانى على بنت جيرانه التى أجلت زواجى منها وانا فى حالة الصحو بعد رحيله ، وبالعكس من الهمسات والعبارات والأوامر والوصايا المتكررة التى كانت تأتينى بصوته فى الصحو وتحاصرنى فى المنامات التى تتشابه مع الكوابيس ، لأنه اوصانى أيضا بعدم البوح لكم فقد أخفيت عنكم ما كان يقوله لى فى بعض الرؤى والمنامات التى طاوعت روحى وصنفتها أسرارا لا يجوز البوح بها للغرباء أو حتى للأقارب , صحيح انكم أهلى وناسى وعشيرتى وشركائى فى الهموم الوافدة إلينا من عنفوان الواقع ، وأفراحنا المشتركة تحتاج أن نتوحد فيها مع الآخرين لكن التوحد مع من سبقونا صار يتناقص ويتناقص وصار ما أخشاه يختفى عندكم وصار يتجسد لى وحدى ويتبدى أمامى فى المرآة ، يتوهنى ويرشدنى ويطالبنى بتبديل ثيابى أويأمرنى بأن أرسم على ملامحى بسمة او تكشيرة أو ما يرى أنه مناسب للحدث بحساباته التى صارت فى ذات الوقت حساباتى ، هل تغتفروا لى قناعتى الراسخة أن الأرواح لا تفنى حتى ولو تباعدت عنا احيانا ، ولأن الفناء فى ذات الوقت لا يخصنى فأنا حى بروحه التى تخصنى وترعى روحى لأننى أتعايش بروحه وأسمع صوته وأرقد بجواره فى كل مساء او فى غفلة الظهيرة رغم اليقين الساكن فى عقلى وذاكرتى انه مات بالفعل مع رجال عاشروه لسنوات من البدايات لنهايات اعمارهم بحساباتنا المعلنة والمستسلمة ، ورغم اليقين المؤكد أنه لن يتجلى لى فى الصحو أبدا بينما اسمعه فى غفلتى وهو يصول ويجول حولى ويحدثنى ولا أتفهم مقاصده لأن كلماته تبدو لى اكبر من قدراتى على فهم معانيها أو أغراضها لكونها مغايرة لما كنت افهم دلالاته فى عمرى المبكر وكان يواصل واسمع ، وربما حفرت كلماته فى الذاكرة بعض المواجع التى سببها لى العجز عن الرد عليها لأننى فى أيام النشأة الأولى كنت مجبرا على سماع صوته طوال ساعات صحونا المألوف باختياره ، هادفا لإيقاظى من غفواتى وغفلاتى بنبرات صوته المميزة ليحدثنى عن أشياء تشغل باله أو أحداث واجهها فى الزمن القائت دون أن يتوقف ، وربما بمرور الأيام صرت اتفهم منه بعض المعانى وأهز له رأسى علامة الموافقة إذا سألنى إن كنت فهمت مقاصده فيهز رأسه بارتياح ، كانت الأيام تتوالى والكلمات المنطوقة عن العطش والجوع والبرد والسخونة لا تمانع أن تنضاف اليها كلمات أخرى مثل الوجع أو الألم أو إعلان الاحتجاجات لأى الأسباب ، وبالعفوية الممكنة اشعر أن علاجها سوف يتأكد بالسكوت او بالغفلة المؤقتة التى تطول او تنتهى بهدهداته وتربيتاته على صدرى او ظهرى ، مصحوبة بأغانيه أو غمغماته التى تهدف إلى طمأنتى أنه بجوارى وأنه سندى الوحيد بعالمنا الضيق ، لا بد أنه كان يلبى مطالبى التى أحتاجها بلا قدرة على طلبها بالكلمات او حتى بالإشارات ، فيحدث نفسه حائرا لأنه لم يتعرف على مطلبى ولا اسباب احتجاجى العابر حتى يتوصل الى ما يمكن أن يكون بحساباته فهما يعرف علاجه فيجربه ثم يبدله مرارا وتكرارا حتى يرانى باسما او فاتحا عيناى لأنظر اليه محاولا أن أتعرف عليه اكثر ، وفى مثل هذه الحالات كان يبتسم لصحوى ثم يحتوينى بين ذراعيه فأحس بأنه يحمينى ويدفع مواجعى بعيدا عنى ، ليطمئن على بقائى فى أحضانه وإلى جواره ، ربما استكين وأهدأ أو ابتسم فأراه مبتسما ، واسمع نبرات صوته الفرحان يدندن لى او يغنى لنفسه بينما يهزهزنى مع فراشى بعد أن يضمنى لحضنه ليتأكد من سلامتى ، ومرة اخرى اسمع كلماته توصينى بأن أنطق وأتكلم وأبوح له بمشاعرى مثلما يفعل ، كأنه يؤكد لى ويقسم أنه لن يبخل على بأى شىء ، وربما افهم فادمدم ربما لتصل اليه أحاسيسى التى بدأت تنمو على مهل واشعر أنها متعاطفة معه ، وقد تأكدت من عجزى فى أغلب المرات لضعف قدراتى على نطق الكلمات المكتملة أو مشاريع المعانى القليلة لأرضيه ، ولا بد أننى كنت أشعر بعجزى عن نقل مشاعرى نحوه فى عشرات ومئات المرات وربما آلاف المرات لأرضيه , ولا بد أننى تعلمت منه بمرور الأيام كثيرا من الصبر ومزيدا من الكلمات ودلالاتها ومعانيها فى براحها المفتوح ، والمترادفات تتزايد فى ذاكرة الطفل الذى يسعى لفهم معانيها او يتعرف على أحاسيس الأب الذى يرعاه.

لعله تعلم من طفله مزيدا من الصبر وهو يعيد صياغة الكلمات على مسامعى وأنا بطىء الإستيعاب كما كان يتبدى له ولى وإن كنت أغتفر لنفسى وأسامحها ،ولا بد أنه كان يسامحنى ويواصل تأدية الدور الذى كنت أحاول الفرار من تأديته على النحو الذى يرضيه ويهون عليه إلحاحه المضنى الصعب ، لكننى لم أكن أملك القدرة على البوح او أعجز ، لعلنى أحسست به وهو محاصر بالسأم يلوم روحه لأنه أخذنى منهم موهوما بقدرته على تربيتى بمشاعره ورغبته فى تعليمى ورعايتى ، ولا بد أنه كان صادقا فى التعببر عن أحاسيسه ناحيتى على النحو المأمول ، ولا بد أنه كان يفكر قبل أن يعيد صياغة الكلمة او الكلمات على نحو مغاير ، ولم يكن يشعر باطمئنان إلا إذا تأكد أنه نقل لى المعانى أو الأحاسيس المناسبة لى ، كأنه فى كل مرة يجرب مفتاحا جديدا لباب مسكوك أمامه ، وقد رأيته مرارا وتكرارا يشعر بالزهو ويهمهم ويهز رأسه ثم يحدث نفسه أن الكلمات المناسبة للطفل تختلف عن تلك التى تناسب الصبى الذى يفهم دلالاتها ويكون جاهزا للوعى بمعانيها ، على هذا النحو عودنى أن يبدل كلماته متصابرا لنقل أحاسيسه على النحو الذى يتمناه فى الأوقات الحرجة دونما احتجاجات وببساطة تتلوها كلمات تشرح مقاصده كأب يسعى لنقل أحاسيسه ومشاعره لطفله ، فهل علم نفسه الصبر بمزيد من صياغات الكلمات بحروف بديلة يعبربها عن فكرته التى لم تصلنى على النحو المأمول واثقا أنه المسئول عن عدم قدرتى على نطق كلمة تتلوها كلمة يرددها على مسامعى لأفهم ما حاول أن يقوله وكانه كان واثقا أنه المسئول عن فقدانى لتلك المقدرة على نطق كلمة تتلوها كلمة لتكون بحساباته جملة مفيدة ، وفى هذه الحالة اكون قد تمكنت من النطق قبل أن اكمل عامى الأول من العمر مثلما تمكنت قبلها من الوقوف وحدى فترة قصيرة أو المشى عدة خطوات فيصفق ثم يسندنى بكفيه قبل أن أقع ، ويدعونى لأحاول مرة أخرى فافعل ويصفق لى ، وعندما اقع أراه ملهوفا وهو يخطفنى من فوق الأرض خطفا ويربت براحتيه على كتفى وظهرى ثم يعاود محاولاته المتكررة لأتمكن مرة اخرى من الوقوف ، كانت بدايات حتمية متواصلة لا يراها احد غيرنا ولم أكن أملك الوعى بالزمان لأحصيها لأن الأرقام تتشابه مع الكلمات فى براحها المفتوح ، ومحاولاتى لعبور سراديبها قبل دراستها كان مستحيلا وقد حاول هو بجهوده المتواصلة أن يجعله ممكنا ولائقا لنا بحساباته ، لعل سعيه ناحية الونس كان يتجدد وهو يسعى لمعاودة استكشاف مشاريع الكلمات والحروف عسيرة النطق لكى افهمها على مهل ، وتلك الفوارق بين الرموز والحروف والكلمات المنطوقة ، وكان يهز رأسه أحيانا راضيا عن نفسه وهو يدعونى لبداية جديدة نغامر فيها معا بدخول مشاوير العبارات التى لا تنتهى ابدا ، ولأن طريقنا المشترك كان قد تم تمهيده بعزيمته وصبره وقدرته على احتمالى وهو يجاهد لتقويم الحروف التى تبدو له عصية على لسانى ، فيواصل النطق بها ويدعونى لمواصلة المشوار مرة اخرى او عددا آخر من المرات ، وكلما طاوعته كان يشعر بإرتياح احسه فى نبرات صوت وتربيتاته على ظهرى ، ليطمئننى ويطمئن نفسه بإمكانية الوصول الى الهدف او كتلة الأهداف التى كانت تصادفنا او نسعى اليها معا ، لا بد أننى كنت أستجيب على نحو متواصل ، ولا بد أنه كان يشعر بالنشوة فى كل مرحلة يتمكن خلالها من اضافة معلومة جديدة لأننى لم اكن املك غير الإستجابة والتكرار حتى أغيب فى البراح المفتوح لأننى فى جميع الحالات طاوعته بوعى لم أكن املكه بالقطع ، وإن كنت اشعر به فأهدأ ، وربما افرح لأنه بينه وبين روحه افلح فى مهمته وطمأن نفسه , ولأننى استجبت بالوعى وصرت قادرا على فهم المزيد من استجاباتى لنطق كلماته ، وربما كان عشقى للبوح ومعاودة البوح ميراثا وليدا للمشاوير التى قطعناها معا ، وربما كانت الحكايات التى يحكيها لكل من يلتقى بهم من الاقارب والغرباء من نسج خياله ،لكنها أيضا كانت وليدة تجربته مع أبيه الذى هو جدى كما تأكد لى بعد ذلك ، لأنها كانت المرتكز الحقيقى والوحيد والنواة التى تفرعت وطرحت لكل من كان يلتقى بهم ويحدثهم عن ماضيه وما كان يصوغه لهم احداثا عاشها وتوجع منها فيتبادلون النظرات بين مصدق ومندهش او رافض لكل ما قيل لهم ، لكن احدا منهم لم يجرؤ ويكذبه او يعلن اعتراضه على ما قاله ، ولعلنى فى مطالع صباى وشبابى كنت أحاول أن افهم الحقيقة ولا اتمكن ، ربما لأن دلالات العبارات كانت تأخذنى بعيدا عن التفكير فى تصديق او تكذيب التجارب التى عاشها بعد أن جاء الزمان المغاير الذى صرت املك فيه القدرة على التفكير بعقلى ومقارنة حكاياته بأقوال مغايرة فى مراحل تالية ، وربما كان الدخول فى دهاليزها مغامرة لا يحق لى أن اخوضها بلا غرض غير التقافز على الأحداث ، ربما لأن المبررات والدوافع التى صادفتها كانت تؤكد حقه فى إنشاء تلك الصياغات التى كانت وليدة احداث مرت فى حياته إستشعرها وحورها وبدلها بعد أن عاشها بكل قسوتها فى مرحلة الفرار هربا من مواجهات خاسرة بكل الحسابات

.............................

كنت استعيد ما كنا نراه فى دار السينما التى يعشقها ويأخذنى معه لمشاهدة العروض التى يقدمها نجيب الريحانى وأنور وجدى وليلى مراد وأم كلثوم وسليمان نجيب ومارى منيب وتحية كاريوكا ومحمد عبد الوهاب وقد كنت أفرح مثله لو كان العرض مفرحا أو أتظاهر بحزنى لو حاصره الحزن دون أن اعرف الأسباب ، كان يحكى لى فى مشوار عودتنا أحداثا لم اسمعها منه قبلا عن ابيه الذى هو جدى ، حكايات بلا عدد فاسمعها وأنساها مثلما كنت انسى ما رأيته أو سمعته فى دار السينما ، وكان يحكى أيضا عن اقاربه الذين يعيشون فى كفرنا ولا أراهم أبدا ؛ وعندما كنت أتجاسر وأسأله عنهم كان يتأملنى فترة ثم يهز رأسه بيأس ، وربما يزفر تعبيرا عن ضيقه منهم لأن أحدا منهم لا يكلف خاطره ويزورنا خوفا من غضبة كبيرهم ، الذى هددهم بأنه لوعرف أن احدهم زاره مخالفا إرادته فسوف يقاطعه ويطرده من الكفر طردا كما طرد ابنه فليس هناك أعز من الخلفة الحلال التى تركزت فى ابى وحده بلا شريك فى ميراثه من أملاك أبيه ، وكان يقول لهم إنه بحساباته يعتبر ابنه الوحيد ميتا ومدفونا بمقبرة نسى اللحاد أن يكتب اسمه عليها ، فهل كأن ابى بتوصيف جدى محكوم عليه بالإعدام حيا بين مقابر العائلة التى جئنا منها الى تلك المدينة وعشنا بين ناسها ، وكان هو يشكر المولى جل فى علاه لأن مصيره لم يتأثر بالطرد من أرضه وداره لكنه كان محميا بعمله مدرسا للغة العربية ، وكان واضحا أن راتبه صار سنده الذى يحميه من العوز ويكفل له الستر ويحميه من طلب المعونة لأن تلك المهنة كانت تكفل له راتبا يتقاضاه اول كل شهر فينفقه علينا ، وباعتباره مدرسا لم يتحمل مطالب بيت الزوجية شأن امثاله فى مثل عمره ولهم نفس ظروفه لينجب مزيدا من خلفة لها أطفال كثيرين أكون واحدا منهم ، لكن اموره كانت ابسط من ذلك بكثير لأن امى رحلت بعد ميلادى بساعات حسبما كان يؤكد لى محزونا فى اول الأمر ومدفوعا ببعض الحكايات ، والتى تبدو له مبهجة وجالبة للضحكات فى مثل عمرى حتى ولو كانت الحكايات عن أم فقدتها ولم أرها حية او ارى صورتها التى كان يحتفظ بها فى مكان لا أعرفه ، لكنه كان يعدنى بأنه سيسمح لى برؤيتها عندما اكبر وأصير رجلا ، لكن الصورة تاهت بالقطع منه لأنه بعد سنوات طالت كنت اطلب رؤيتها فينتهد محزونا ويهز رأسه آسفا قبل أن يسألنى

انت لسه فاكر ؟

وهى دى حاجه تتنسى يا آبا ؟

ما تتنسيش ، بس الجوازه كان عمرها قصير ، وسببت لى مشاكل وسببت لك ولها مشاكل لا كانت ع البال ولا ع الخاطر

طيب يا آبا ح نقول انها ماتت وخسرت عمرها بعد ما خلفتنى وسابتنى من غير أم ، يعنى عشت العمر كله يتيم

ما تقولش كده ، دا أنا كنت مراعيك وعامل لك أم واب وخال وعم وأخ وأخت ، أنا حرمت نفسى م الدنيا عشانك ، ترجع تقوللى عشت يتيم ؟

على هذا النحو كان الحوار يبدأ بيننا وينتهى ، وربما اشعر بالإشفاق عليه او على عمرى الذى عشته محروما من عطف الأم ورعايتها ، وصحوها لو صرخ وليدها أو تبدل ثيابه وتنظف مؤخرته او تغسل له بدنه وتحتويه ليشعر بالدفء وهى تضمه لصدرها قبل أن ترضعه ، تداديه وتتفهم مقاصده وتلبى مطالبه تم تحتويه وتغنى له بصوتها الحنون الذى لم اسمعه إلا فى افلام السينما ، أدارى ما كنت أشعر به من حرمان يكمن فى الخلايا ويتوارى فى داخل الداخل فرارا من المواجع ، او خجلا من الأب الذى كان يعطى ويعطى فوق قدراته حسبما كنت اشعرأحيانا ، أستجيب له أولا أشعر فيعاود محاولاته ويعلمنى تلك الكلمات بكل العسر وأنا فى حالة الغياب والتباعد عنه بحكم العمر لكنه يجتذبنى ويداوينى بلا دواء ، أتذكرأنه كان يرافقنى فى مشوار الذهاب للحضانة ويتراجع خطوات الى الوراء ناظرا الى بعد أن يناولنى حقيبتى ، أبكى او أوشك أن ابكى لكنه يأمرنى بالكف عن صراخى المحتد لأنه سيفارقنى وأبكى او أناديه وهو يتباعد على مهل ، اشعرأنه فى كل خطوة يخطوها بعيدا عنى يفكر فى الرجوع ليحتوينى بين راحتيه ، لكنه يواصل بهمة لو اوشكت على الصمت وعدم البكاء او حتى النداء عليه وهو يتباعد عنى ويختفى عند المنعطف الذى جئنا منه ثم انحرفنا عنه فى طريقنا للحضانة ، ربما لأن الكثرة من الأطفال فى مثل سنى أو أكبر من كانوا ينادوننى بالاسم ويحاولون مشاركتى فى بعض الألعاب ، لكننى لم أكن استجيب فى البدايات ، لكنهم افلحوا بعد عدة محاولات فى اجتذابى لاشاركهم وألاعبهم وارمح فى المسافات المفتوحة أمامى وكأننى اسابق الهواء وحدى ، لكن الفصول كانت تذكرنى بالكلمات التى علمنى ابى كيفية التمييز بين بعض حروفها ، كان مشوارا ممدودا بلا حدود لأننى كنت استكشف بعض الكلمات التى لم ينطق بمثلها أبى أبدا فأرفض النطق بها زمنا ، لكننى أستخدمها وأسب من قالها فيسمع ويضحك فأشعر بالغربة فاقاوم وأهون الأمر على نفسى وأنتظر ابى ليأخذنى إلى البيت الذى يخصنا ليضاحكنى ويسألنى عن الحروف والكلمات التى تعلمتها ، أحكى له ويتأكد لى أننى استطيع أن أحكى ما جرى لى فى غيابه فيبدو فرحانا قبل أن يحكى لى حكايته مع الجد الذى لم ار ملامحه او أتعرف عليه إلا من خلال ما كان يرويه عنه فاسمع واتخيله بشاربه الكثيف وعوده الفارع وصدره العريض وصوته الخشن ، وقد كنت أتمنى أن اراه مرة أخرى ولا أبوح لأبى بأمنياتى التى كانت تبدو لى يسيرة ومستحيلة فى الوقت نفسه.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق