فى رحاب «كرمة بن هانىء» على ضفاف نيل الجيزة، تجمع شعراء وأدباء وشيوخ مؤرخى هذا العصر، فى مظاهرة حب لعزيز على قلوب كل العرب، أطلقوا عليها «أمير الشعراء فى صور». و«كرمة بن هانىء» هى بيت الشاعر الكبير أحمد بك شوقى، والمناسبة هى الذكرى الـ 89 لمبايعته أميرا للشعراء العرب.
حيث تتحدث الصور التذكارية عن تفاصيل هذا العرس العربى الشهير، وتتحدث أيضا عن مشوار الشاعر العريق مع رجالات وفنانى زمانه، الذين أثروا الحياة الفنية والأدبية بروائع الأعمال، التى مازالت يتردد صداها فى وجدان الأمة العربية، وشهد الأمسية، التى كان حاضرا فيها شيخ المؤرخين د. عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث.. وتم خلالها عرض مجموعات لأهم وأندر الصور لأمير الشعراء والتى تجمعه بأبرز رجال السياسة والفكر والفن أمثال «سعد زغلول، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وخليل مطران، ومحمد عبدالوهاب، وإسماعيل النشاشبى، وأحمد لطفى السيد، ويوسف وهبى ونجيب الريحانى .. وغيرهم.
وطاف بالحاضرين طائر الزمن الجميل، يحمل عطر المناسبة التاريخية، يوم مبايعة شوقى اميرا للشعراء العرب.
كان المكان: دارالأوبرا المصرية القديمة قبل احتراقها. وكان الزمان: إحدى أمسيات شهر مايو عام 1927.
عندما تجمعت وفود من كل الدول العربية داخل دار الأوبرا، فى مساء ذلك اليوم، واحتشدت الجماهير المصرية حول الدار، وسرعان ماتحول الموقف إلى عرس قومي، نثر فيه كل العرب رياحينهم، واشتركوا جميعا فى وضع تاج إمارة الشعر العربى على مفرق شوقي، ويذكر التاريخ تفاصيل هذا العرس القومى البديع، حيث أسهم فى الاحتفالات محمد كرد ممثلا للمجمع العلمى العربي، وشبلى ملاط عن لبنان، وأمين الحسينى عن فلسطين، بجانب باقى الوفود العربية، وحملت كل الوفود هدايا تذكارية رائعة لأمير الشعراء، وسجل التاريخ روعة هدية دولة البحرين وكانت عبارة عن «نخلة» من الذهب الخالص، طولها 30سم وجذعها وسعفها أيضا من الذهب الخالص، أما ثمرها فقد كان حبات من اللؤلؤ الحر، وقدمت الهدية مع قصيدة للشاعر خالد فرح يقول مطلعها:
من منبت الدر تسليم وتكريمُ..
لشاعر اللغة الفصحى وتقديمُ
حياك من دارنا البحرين لؤلؤها..
والنخل إذا بسمت فيه الأكاميم ُ
ورد أحمد شوقى بعد مبايعته أميرا للشعراء بقوله:
قلدتنى الملوك من لؤلؤ البحرين..
آلاءها ومن مرجانه
نخلة لاتزال فى الشرق معنى..
من بداواته ومن عمرانه
وارتقى شوقى عرش الإمارة بجدارة، ورغم كثرة معارضيه الذين راحوا يختلقون الفتن بينه وبين صاحبه حافظ إبراهيم، بعد أن نال الأخير لقب شاعر النيل، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، ووقف حافظ إبراهيم نفسه مبايعا بقصيدة رائعة قال فيها:
أمير القوافى قد أتيت مبايعا..
وهذى وفود الشرق قد بايعت معى
واختتمت الاحتفالات وقتها بحفل داخل «الكرمة» (بيت شوقي) تحت مسمى «عرس القوافي» سلمت لشوقى خلالها رسالة من زعماء الثورة السورية فى ذلك الزمن، كتبت بدمائهم فى ميدان القتال، ووقعها أبطال هذه الثورة جميعا، وكان رد فعل أمير الشعراء على هذه الرسالة قصيدة رائعة:
تسلل فى الزحام إلىَّ نضوٌ...
من الأحرار تحسبه خيالا
رسول الصابرين ألمَّ وهْناً...
وبلغنى التحية والسؤالا
دنا منى فناولنى كتابا..
أحست راحتاى له جلالا
وجدت دم الأسود عليه مِسكاً..
وكان الأصل فى المسك الغزالا
كأن أسامىَ الأبطال فيه..
حواميم على ورق تتالى
(طائر الزمن)
ومازال الحاضرون من الأدباء المعاصرين فى ليلتهم يشاهدون صور أمير الشعراء فى رحلته مع الزمن الجميل، ومازال طائر الزمن يرفرف بجناحيه فى سماءالمكان، حاملا بعضا من ذكريات مسيرة ورحلة أمير الشعراء الذى كتب عن نفسه «سمعت أبى يرد أصلنا إلى الأكراد فالعرب» ولكنه نشأ فى ظل البيت الملكى بمصر، وظل ولاؤه للقصر الملكى سنوات طوال، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وتمكنت بريطانيا من السيطرة على مصر، وأمرت بعزل الخديو عباس وراحت تعزل وتنفى رجالات الخديو، وكان نصيب شوقى النفى إلى إسبانيا.
وتنفيذا لقرار النفى ركب شوقى وأسرته من الإسكندرية باخرة قادمة من الهند فى طريقها إلى إسبانيا، وكانت تحمل عددا كبيرا من الثيران التى تستخدمها إسبانيا فى رياضة المصارعة، ولكن المركب تعرضت فى المتوسط لعاصفة شديدة وكادت تغرق، ولم يجد القبطان وسيلة لإنقاذ الباخرة إلا إلقاء حمولتها من الثيران فى البحر، وعلى مدى ساعات دامية شاهد شوقى وأسرته هذه المذبحة، وكيف كانت الثيران تصارع الموت بين الأمواج حتى يبتلعها البحر، وشكل هذا الحادث ـ مع سنوات الغربة التى طالت إلى خمس سنوات كاملة ـ وجدانا جديدا للشاعر المرهف، بجانب ما أشعله فى نفسه الحنين إلى وطنه، وبدأت علاقته المعنوية مع القصر الملكى تحتضر، وبدأت ميوله تتجه إلى مناصرة الشعب، وأصبحت قصائده تعبر عن آلام الشعب وجراحاته إبان فترة الاستعمار، وصار أيضار لسان الشعب والوطن ونبضه بعد أن كان لسان الخديو. وظل الشعب يردد أبياته التى تحرك الهمم:
وما نيل المطالب بالتمني..
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
وما استعصى على قوم منال..
إذا الإقدام كان لهم ركابا
وإذا كانت مجموعة الصور تحكى علاقاته مع معاصريه من أبرز الرجال.. فإن صوره مع الموسيقار محمد عبدالوهاب تحكى بدورها تلك العلاقة الأبوية الفريدة التى أحاطها شوقى أحد بالشاب الصغير محمد عبدالوهاب منذ أول لقاء، عندما شاهده يغنى فى أحد الملاهى الليلية وكان أقرب إلى الطفل.. فما كان من شوقى إلا أنه قدم شكوى إلى حكمدار القاهرة الذى أوقف غناء هذا الطفل، لكنها كانت مجرد بداية لعلاقة طويلة أثمرت عن عشرات من الروائع الغنائية التى صاغها شوقى أبياتا، وأبدعها عبدالوهاب موسيقى وغناء.
ومن إحدى حكاياته مع عبدالوهاب، أنه جاءه يوما حزينا، وعندما سأله شوقى عن سبب حزنه، أشار إلى مجموعة من الصحف كان يحملها تتضمن نقدا لاذعا للفنان الصغير، فأجابه شوقى بأن النقد دائما مايرفع الفنان، وطلب منه أن يلقى الصحف على الأرض وأن يقف فوقها، وعندما فعل ذلك قال شوقي: هل تري؟
فأجابه الآن قد ارتفع طولى 5 سم، وضحك عبدالوهاب وامتدت العلاقة حتى نهاية العمر. ثم دخلت السيدة أم كلثوم بدورها فى سماء أمير الشعراء، لنسمع منها إبداعات خالدة: ولد الهدي، وسلوا قلبى ، ونهج البردة، وظل أهل مصر يحزنهم ويبكيهم بيت شعره:
وماينْبئْك عن خُلُقُ الليالي
كمن فقد الأحبة والصحابا
ومن يغتر بالدنيا فإني
لبست بها فأبليت الثيابا
رابط دائم: