على الرغم من الظروف والأزمات الاقتصادية التى تمر بها البلاد حاليا، يحرص بعض المسلمين على أن يحجوا كل عام، ربما حرصوا - مع ذلك - أن يعتمروا أيضا فى كل رمضان، مع ما في الحج فى هذه السنوات من زحام شديد، وتدافع وتزاحم ، خاصة عند نفرة الحجيج من عرفات أو الطواف والسعى ورمى الجمار وباقى المناسك.
ونحن بدورنا نتساءل: أليس أولى بهؤلاء أن يبذلوا ما ينفقونه فى حج النافلة، وعمرة التطوع، فى مساعدة ورعاية الفقراء والمساكين، أو فى إعانة المشروعات التى تعود بالنفع على الجميع، أم تعتبر النفقة في تكرار الحج والعمرة أفضل من الصدقة والإنفاق فى دعم الاقتصاد، خاصة فى ظل تلك الظروف الاقتصادية الخانقة والطاحنة من ارتفاع فى الأسعار، وزيادة البطالة وقلة الموارد والإنتاج؟
علماء الدين يؤكدون أن الحقوق والواجبات إذا تكاثرت وتزاحمت فى أموال المكلفين، تقدم المصلحة العامة على الخاصة، ولا شك أن رعاية ومواساة الفقراء والمساكين وسد حاجاتهم من الطعام والشراب والكساء والدواء، أفضل من تكرار الحج والعمرة، خاصة فى ظل الظروف الاقتصادية التى تمر بها البلاد حاليا، مؤكدين أن غياب”فقه الأولويات والواقع”، يؤدى إلى الفهم الخاطئ لأداء العبادات، مطالبين بضرورة إجراء حملات توعية لتصحيح المفاهيم الخاطئة لدى البعض.
يقول الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية، إذا تكاثرت الحقوق وتزاحمت واشتدت الحاجة إلى أموال الأغنياء لمواساة الفقراء ونجدة المحتاجين، وكانت نفقات الحج والعمرة بحيث لو أُنفِقَت على الفقراء لقامت بكفايتهم وغيرت أحوالهم من الفقر إلى الكفاية، فإن أحب النفقة إلى الله تعالى حينئذ هو ما كان أنفع للناس وأجدى فى صلاح أحوالهم وإنعاش اقتصادهم، والصدقة على الفقير وكفايته أولى من نافلة الحج والعمرة، لأنها عبادة متعديةَ النفع، وذلك بخلاف حج التطوع وعمرة التطوع؛ فنفعهما قاصر على صاحبهما، وقد راعى الشرع الإسلامى ترتيب الأولويات، فأمر عند التعارض بتقديم المصلحة المتعدية على القاصرة، والعامة على الخاصة، والناجزة على المتوقعة، والمتيقنة على الموهومة.
فقه الأولويات
من جانبه يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن من فقه الأولويات الذى يجب التنبه له, أن الفرض مقدم فى الأداء على السنة, وأن الأهم يقدم فى التحصيل على المهم, وأن الضروريات مقدمة على الحاجيات والتحسينات, وأن حفظ النفس مقدم على حفظ المال, مع أنهما من المقاصد العليا, وهكذا دواليك..., وقد دأب بعض المسلمين على تكرار أداء الحج كل عام أو كل بضعة أعوام, وكذا أداء العمرة كل عدة أشهر أو كل سنة, ومن المقطوع به شرعا, أن أداء أى نسك بعد الأداء الأول سنة, وأن من الأعمال العبادية ما يفوق فى جزائه أضعاف أجزية تكرار الحج والعمرة المسنونين, فجل أهل هذا البلد يعانون شظف العيش وضيق ذات اليد, وهم فى أمس الحاجة إلى من يقدم لهم ما يسد رمقهم, ويبرئ سقمهم, ويدفع عنهم غائلة الجوع والفقر والمرض والحاجة.
وأشار إلى أنه لا خلاف بين الفقهاء على أنه يجب على المرء شرعا إنقاذ الآدمى المعصوم الدم, سواء كانت عصمته بالإسلام أى كان مسلما, أو كانت عصمته بالذمة, بأن كان كتابيا يعيش بين المسلمين بمقتضى عقد ذمة, أو كانت عصمته بالأمان, أو الهدنة, أو نحوها, ومن المقرر شرعا أن ما وجب على المرء شرعا يثاب إن فعله ويعاقب إن تركه, ومن ثم فمن وجب عليه حماية شخص أو إنقاذه أو القيام على أمره, فلم يقم بما وجب عليه حتى تسبب فعله السلبى فى إهلاكه, فهو قاتل له عن عمد عند جمهور الفقهاء, وقد فرض على القادرين ماليا أو ماديا القيام على أمر الفقراء والمساكين وذوى الحاجة, وهذا الفرض مقدم على الأعمال العبادية المسنونة, ومنها الحج المسنون والعمرة, فينبغى أن يعلم القادرون أن توجيه أموالهم لإنقاذ الفقراء ونحوهم من أفراد هذا المجتمع, أعظم أجرا من أداء الحج والعمرة المسنونين, باعتبار أن الفرض مقدم على السنة. وأوضح أن التغافل عن إشباع حاجات هؤلاء الفقراء والمحتاجين, يرتب الإثم على من تقاعس عن معونتهم, ورد أذى الفقر والمرض والهلاك عنهم, مع أن هذا المتقاعس ربما شعر بأدائه المناسك المسنونة بأنه مطيع, وهو لا يعلم أنه ربما عصى الله سبحانه حين وجه ماله إلى غير إنقاذ هذه المهج, وأشد منهم إثما هؤلاء الذين ينفقون أموالهم فى الترفيه عن أنفسهم فى الداخل والخارج, متجاهلين حاجات الفقراء والمساكين الضرورية, وقد جعل الله تعالى حقا لهؤلاء الفقراء فى أموال الأغنياء.
حملات توعية
وفى سياق متصل، يقول الدكتور علوى أمين خليل، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن ما يقع من بعض المسلمين فى مسألة تكرار الحج والعمرة، وإغفال الجوانب الأخرى فى الشريعة، يدل دلالة واضحة على غياب «فقه الواقع» وأيضا «فقه الأولويات»، إذ بسبب غيابهما يفهم كثير من الناس أداء العبادات خطأ، مما يترتب عليه ما نرى ونسمع من فوضى لإطلاق الفتاوى بمختلف صورها، ممن يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يفهمون، وهنا يأتى دور أهل العلم والفقه والدعوة المتخصصين، فى توضيح وإعادة إعمال وتنشيط هذين الفقهين، ونشر الثقافة الصحيحة بين المسلمين، والتركيز فى الدروس وخطب الجمعة والبرامج الإعلامية من خلال حملات التوعية على أن توجيه نفقة نافلة الحج والعمرة إلى أعمال الخير وتنمية المجتمع ومواساة الفقراء وأصحاب الحاجات ومساعدة المرضى غير القادرين وسداد ديون الغارمين أرجى فى القبول وأجزل فى الثواب وأكثر فى الأجر عند الله تعالى من تكرار الحج والعمرة. وطالب المؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية، بأن تقوم بدورها نحو هذا الأمر، بالتنسيق فيما بينها، وتوضيح ونشر الثقافة الإسلامية الصحيحة، وأن أبواب الخير وتحصيل الثواب والأجر من الله تعالي، قد نوعها وعددها الشارع الحكيم، وجميعها تهدف وتدعو الى التكافل بين أبناء المجتمع، وتحقيق أمنه وتنميته.
أعمال مرفوضة
ومن جانبه أوضح الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم عميد كلية أصول الدين بأسيوط، أن الله لا يقبل النافلة إذا كانت تؤدى إلى ارتكاب إثم ، لأن السلامة من إثم الحرام مقدمة على اكتساب مثوبة النافلة، فإذا كان يترتب على كثرة الحجاج المتطوعين إيذاء لكثير من المسلمين، من شدة الزحام مما يسبب غلبة المشقة، وانتشار الأمراض، وسقوط بعض الناس هلكي، حتى تدوسهم أقدام الحجيج وهم لا يشعرون، أو يشعرون ولا يستطيعون أن يقدموا أو يؤخروا، كان الواجب هو تقليل الزحام ما وجد إلى ذلك سبيل، وأولى الخطوات فى ذلك أن يمتنع الذين حجوا عدة مرات عن الحج ليفسحوا المجال لغيرهم، ممن لم يحج حجة الفريضة.
وأوضح أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وخصوصا إذا كانت المفاسد عامة، والمصالح خاصة، فإذا كانت مصلحة بعض الأفراد أن يتـنـفل بالحج والعمرة مرات ومرات، وكان من وراء ذلك مفسدة عامة للألوف ومئات الألوف من الحجيج مما يلحقهم من الأذى والضرر فى أنفسهم وأبدانهم - حتى هؤلاء المتنفلون أيضًا يتأذون من ذلك - كان الواجب منع هذه المفسدة بمنع ما يؤدى إليها وهو كثرة الزحام، خاصة أن أبواب التطوع بالخيرات واسعة وكثيرة، ولم يضيق الله على عباده فيها، والمؤمن البصير هو الذى يتخير منها ما يراه أليق بحاله، وأوفق بزمانه وبيئته ومجتمعه، فإذا كان فى التطوع بالحج أذى أو ضرر يلحق بعض المسلمين، فقد فسح الله للمسلم مجالات أخري، يتقرب بها إلى ربه دون أن تؤذى أحدا، فهناك الصدقة على ذوى الحاجة والمسكنة ، ولا سيما على الأقارب وذوى الأرحام، والفقراء من الجيران.
رابط دائم: