رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الارض البور

الدكتور عبدالقادر القط
كان‭ ‬النهر‭ ‬يجري‭ ‬هادئا‭ ‬مطمئنا‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬المألوف‭ ‬إلي‭ ‬البحر،‭ ‬مرددا‭ ‬بخريره‭ ‬الأبدي‭ ‬أغنية‭ ‬الشوق‭ ‬والحنين‭. ‬وكان‭ ‬النسيم‭ ‬يمسه‭ ‬مسا‭ ‬رقيقا‭ ‬ويمر‭ ‬علي‭ ‬صفحته‭ ‬وسنان‭ ‬حالما،‭ ‬فيزيد‭ ‬الشوق‭ ‬والحنين‭ ‬نغمة‭ ‬أخري‭ ‬من‭ ‬ناي‭ ‬هذا‭ ‬الساري‭ ‬اللطيف‭. ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬موجتان‭ ‬صغيرتان‭ ‬قد‭ ‬سبقت‭ ‬إحداهما‭ ‬الأخري،‭ ‬وإن‭ ‬ظلت‭ ‬تنظر‭ ‬إلي‭ ‬أختها‭ ‬في‭ ‬لهفة‭ ‬وحنان‭ ‬نادتها‭ ‬أن‭ ‬هلم‭ ‬أيها‭ ‬العزيزة،‭ ‬فإن‭ ‬لدي‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬الحسان‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬ارو‭ ‬لأحد‭ ‬مثله‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬رحلاتنا‭ ‬هذه‭ ‬الخالدة‭ .‬

وظلت‭ ‬الموجة‭ ‬تكافح،‭ ‬ويرق‭ ‬لها‭ ‬النسيم،‭ ‬فيز‬جيها‭ ‬خطوة‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬خطوة،‭ ‬حتي‭ ‬بصر‭ ‬بهما‭ ‬يتعانقان‭ ‬في‭ ‬قبلة‭ ‬صامتة‭ ‬طو‭ ‬يلة،‭ ‬فحول‭ ‬وجهه‭ ‬ونفخ‭ ‬في‭ ‬نايه‭ ‬نفخة‭ ‬قوية‭ ‬أضافت‭ ‬نغمة‭ ‬مضطر‭ ‬مة‭ ‬إلي‭ ‬هذا‭ ‬اللحن‭ ‬الهادئ‭ ‬الوديع‭.‬

‭ ‬قالت‭ ‬الموجة‭ ‬واحتضنت‭ ‬أختها‭: ‬وهبطت‭ ‬أيتها‭ ‬العزيزة‭ ‬قطرات‭ ‬متتابعات‭ ‬كأنها‭ ‬خيط‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬إلي‭ ‬الأرض،‭ ‬وأنت‭ ‬تعلمين‭ ‬كم‭ ‬أمل‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬السخيفة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬إن‭ ‬تنتهي‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تتجدد‭. ‬والتي‭ ‬أشهد‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬شهدته‭ ‬في‭ ‬سابقتها،‭ ‬وأعاني‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬عانيته‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬الطويلة‭ ‬الدائرة،‭ ‬فلما‭ ‬انتهيت‭ ‬إلي‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬شاءت‭ ‬الريح‭ ‬أن‭ ‬تلقي‭ ‬بي‭ ‬اليها‭ ‬خيل‭ ‬إلي‭ ‬أني‭ ‬ألقي‭ ‬هذا‭ ‬التراب‭ ‬أول‭ ‬مرة،‭ ‬وأن‭ ‬تجاربي‭ ‬الكثيرة‭ ‬المعقدة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬شيئا‭ ‬إلي‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الجديدة‭ ‬العجيبة‭.‬ كانت الأرض‭ ‬حارة‭ ‬متقدة‭ ‬متفككة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬ظل‭ ‬من‭ ‬شجر‭ ‬ولا‭ ‬روح‭ ‬من‭ ‬عشب‭ ‬ولا‭ ‬أريج‭ ‬من‭ ‬زهر‭ ‬ولا‭ ‬نسيم‭ ‬لطيف‭ ‬كهذا‭ ‬الذي‭ ‬جمعنا‭ ‬الآن،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬العراء‭ ‬والوحشة‭ ‬والحرمان‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬بائرة‭ ‬واستقبلني‭ ‬التراب‭ ‬المحترق‭ ‬في‭ ‬سرور‭ ‬صاخب،‭ ‬ولهفة‭ ‬عاجلة‭ ‬حتي‭ ‬لكانت‭ ‬ذراته‭ ‬تتنزي‭ ‬من‭ ‬الشوك،‭ ‬وتثب‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬وعانقتني‭ ‬الأرض‭ ‬عناقا‭ ‬طويلا‭ ‬لذيذا،‭ ‬امتزجت‭ ‬فيه‭ ‬بحميع‭ ‬أجزائها‭ ‬ورويت‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬الظامئة‭ ‬التي‭ ‬جفتها‭ ‬الأنهار‭ ‬والغيوم‭ ‬والأنداء‭ . ‬واحسست‭ ‬في‭ ‬حرارة‭ ‬الأرض‭ ‬لذة‭ ‬قوية‭ ‬عارمة،‭ ‬ووجدت‭ ‬لهذا‭ ‬الاتحاد‭ ‬السريع‭ ‬شعورا‭ ‬لم‭ ‬أجده‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وكنت‭ ‬أسمع‭ ‬له‭ ‬نشيشا‭ ‬متصلا،‭ ‬كأنما‭ ‬هو‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬سرورنا‭ ‬بهذا‭ ‬اللقاء‭.‬

ونظرت‭ ‬فبصرت‭ ‬ببذرات‭ ‬قليلات‭ ‬قد‭ ‬تفتحت‭ ‬قلوبها‭ ‬لقطراتي‭ ‬الرطيبة‭ ‬تتلاقي‭ ‬منها‭ ‬عونا‭ ‬علي‭ ‬الحياة‭ ‬فوق‭ ‬التراب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظلت‭ ‬دفينة‭ ‬فيه‭ ‬الليالي‭ ‬الطوال‭ .‬وعرفت‭ ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬أيتها‭ ‬الأخت‭ ‬العزيزة‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬البور‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طواياها‭ ‬سر‭ ‬الحياة‭ ‬قويا‭ ‬دفاقا‭ ‬كهذا‭ ‬الذي‭ ‬تنبض‭ ‬به‭ ‬الأرض‭ ‬العامرة‭ ‬من‭ ‬زهر‭ ‬وعشب‭ ‬وأشجار‭. ‬ولقد‭ ‬لبثت‭ ‬هناك‭ ‬حتي‭ ‬شهدت‭ ‬زهرات‭ ‬بريات‭ ‬جميلات‭ ‬تستوي‭ ‬علي‭ ‬سوقها‭ ‬الدقاق‭ ‬وحتي‭ ‬رأيت‭ ‬أسراب‭ ‬النحل‭ ‬تدور‭ ‬وتغني‭ ‬وتعزف‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الفاتنات‭ ‬ألحانها‭ ‬العذاب‭. ‬ولقد‭ ‬لبثت‭ ‬هناك‭ ‬حتي‭ ‬شهدت‭ ‬ظلالا‭ ‬خفيفة ‬من‭ ‬العشب‭ ‬الندي‭ ‬تحنو‭ ‬علي‭ ‬هذه‭ ‬التربة‭ ‬العارية‭ ‬فتمنحها‭ ‬من‭ ‬بردها‭ ‬وروحها‭ ‬ما‭ ‬ينسيها‭ ‬الحرمان‭ ‬المتصل‭ ‬وآلام‭ ‬العراء،‭ ‬حتي‭ ‬هذه‭ ‬الأنداء‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬جفت‭ ‬تلك‭ ‬البقعة‭ ‬المحرومة‭ ‬قد‭ ‬رفت‭ ‬بها‭ ‬تيجان‭ ‬أزهاري‭ ‬الحسان‭ ‬في‭ ‬هجعة‭ ‬الليل‭ ‬وتنفس‭ ‬الفجر‭ ‬ويقظة‭ ‬الإصباح‭ .‬

وكم‭ ‬كان‭ ‬يلذ‭ ‬لي‭ ‬وأنا‭ ‬أنساب‭ ‬في‭ ‬حنايا‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬الطاهرة‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬رحلة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الرحلات‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬حياتي‭ ‬الطويلة،‭ ‬حين‭ ‬شاءت‭ ‬الريح‭ ‬أن‭ ‬تلقي‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬عامرة‭ ‬سعي‭ ‬إليها‭ ‬الإنسان‭ ‬فسواها‭ ‬خطوطا‭ ‬وقنوات‭ ‬وتعهدها‭ ‬بالري‭ ‬والسقيا،‭ ‬وبث‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البذور‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يزرعها‭ ‬ليحصدها‭ ‬منجله‭ ‬البشع‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬وانتهت‭ ‬اليها،‭ ‬فإذا‭ ‬أرض‭ ‬ريانة‭ ‬قد‭ ‬بشمت‭ ‬بالماء‭ ‬فهي‭ ‬تلقاني‭ ‬عابسة‭ ‬واجمة‭ ‬في‭ ‬عزوف‭ ‬مؤلم،‭ ‬وانصراف‭ ‬يجرح‭ ‬من‭ ‬كانت‭ ‬مثلي‭ ‬قريبة‭ ‬عهد‭ ‬بالسماء،‭ ‬وإذا‭ ‬بي‭ ‬أختلط‭ ‬بأوشاب‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬آسن‭.‬واصطدم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬طريق‭ ‬بهذه‭ ‬الخطوط‭ ‬التي‭ ‬أقامها‭ ‬الإنسان،‭ ‬فأرتد‭ ‬ولهي‭ ‬حسيرة‭ ‬إلي‭ ‬قرارة‭ ‬بينها،‭ ‬أندب‭ ‬الحظ‭ ‬العثر،‭ ‬وانتظر‭ ‬أوامر‭ ‬الزمان‭.. ‬فلما‭ ‬أشرقت‭ ‬الشمس‭ ‬أشرقت‭ ‬باهرة‭ ‬ساطعة،‭ ‬وأرسلت‭ ‬أشعتها‭ ‬حارة‭ ‬ملتهبة‭ ‬فاجتذبتني‭ ‬معها‭ ‬قسرا‭ ‬لتحملني‭ ‬الرياح‭ ‬مرة‭ ‬أخري‭ ‬سحابة‭ ‬رقاقة‭ ‬لم‭ ‬تعبر‭ ‬طريقها‭ ‬الطويل،‭ ‬ولم‭ ‬تلق‭ ‬أياها‭ ‬المحيط،‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬تعرف‭ ‬بملحه‭ ‬ما‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬عذوبة‭ ‬وغناء،‭ ‬كان‭ ‬يلد‭ ‬لي‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬تلك‭ ‬الرحلة‭ ‬البعيدة‭ ‬وأذكر‭ ‬معها‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الميمونة‭ ‬المباركة‭ ‬فانتهي‭ ‬إلي‭ ‬مرح‭ ‬ضاحك‭ ‬وسرور‭ ‬يهز‭ ‬الأعطاف،‭ ‬حقا‭ ‬يا‭ ‬أختاه‭! ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الأزهار‭ ‬قليلة‭ ‬مبعثرة‭ ‬والعشب‭ ‬خفيفا‭ ‬متفرقا،‭ ‬وكان‭ ‬الظل‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬يذود‭ ‬شعاع‭ ‬الشمس‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬الصالية‭.‬ ولكن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يوحي‭ ‬بالنضال‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الحياة‭ ‬وكنت‭ ‬أحس‭ ‬بأن‭ ‬حوالي‭ ‬وجودا‭ ‬قويا‭ ‬ينبض‭ ‬من‭ ‬العدم‭ ‬ويقاوم‭ ‬الموت‭ ‬والظمأ‭ ‬والعراء،‭ ‬والحياة‭ ‬يا‭ ‬أختاه‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬العامرة‭ ‬سهلة‭ ‬لينة‭ ‬ميسورة‭ ‬لا‭ ‬تكادين‭ ‬تحسين‭ ‬لها‭ ‬وجودا،‭ ‬وأن‭ ‬ربت‭ ‬مناظرها‭ ‬وزهت‭ ‬وأزاهرها‭ ‬،‭ ‬وغدت‭ ‬متعة‭ ‬للعين‭ ‬والقلب‭ ‬جميعا،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تلقي‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الوجود‭ ‬نصبا‭ ‬ولا‭ ‬كلالا،‭ ‬وإنما‭ ‬تمنحه‭ ‬منحا‭ ‬كريما،‭ ‬وتوهبه‭ ‬عبة‭ ‬سخية‭ ‬فتنطبع‭ ‬بوداعة‭ ‬أقرب‭ ‬إلي‭ ‬البلادة،‭ ‬ونعمة‭ ‬أشبه‭ ‬بالخمود‭.‬

وتستطيعين‭ ‬أيتها‭ ‬العزيزة‭ ‬أن‭ ‬تدركي‭ ‬هذه‭ ‬الغبطة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشيع‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬وذلك‭ ‬العجب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يملأ‭ ‬قلبي‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬أحس‭ ‬أني‭ ‬سلاح‭ ‬تلك‭ ‬الزهرات‭ ‬الحسان‭ ‬في‭ ‬نضالها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحياة،‭ ‬لقد‭ ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬أني‭ ‬خالقة‭ ‬هذا‭ ‬الجمال،‭ ‬وباسطة‭ ‬تلك‭ ‬الظلال،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬قطراتي‭ ‬قد‭ ‬انبعثت‭ ‬هذه‭ ‬الأفواف‭ ‬الزاهية،‭ ‬والخضرة‭ ‬اليانعة،‭ ‬والعشب‭ ‬الغريض،‭ ‬ولا‭ ‬شيء،‭ ‬يشعر‭ ‬الحي‭ ‬بالحياة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خالقا‭!‬

وتنهدت‭ ‬الموجة‭ ‬تنهدة‭ ‬بيضاء،‭ ‬غشت‭ ‬صفحتها‭ ‬المتألقة‭ ‬الصافية،‭ ‬والذكري‭ ‬تنزو‭ ‬بها‭ ‬فيردها‭ ‬التيار‭ ‬المتدفق‭ ‬السيال‭. ‬ثم‭ ‬قالت‭: ‬وقضيت‭ ‬ما‭ ‬قضيت‭ ‬هناك،‭ ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬طريقي‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬بين‭ ‬صخور‭ ‬بيضاء‭ ‬ورمال‭ ‬صفراء،‭ ‬طلعت‭ ‬بي‭ ‬علي‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬الزاخر‭ ‬الذي‭ ‬أراه‭ ‬مهما‭ ‬جد‭ ‬يسير‭ ‬بنا‭ ‬وانيا‭ ‬إلي‭ ‬المحيط‭. ‬نعم‭ ‬يا‭ ‬أختاه‭! ‬لكن‭ ‬أنا‭ ‬مشوقة‭ ‬إلي‭ ‬بدء‭ ‬دورتنا‭ ‬الأبدية‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬حتي‭ ‬أهبط‭ ‬إلي‭ ‬أرضي‭ ‬المباركة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصوح‭ ‬الزهر‭: ‬ويجف‭ ‬العشب‭ ‬وتتلاشي‭ ‬الظلال‭.‬قالت‭ ‬الموجة‭ ‬الثانية‭. ‬فإنك‭ ‬لن‭ ‬تضني‭ ‬علي‭ ‬يا‭ ‬أختاه‭ ‬بأن‭ ‬أصحبك‭ ‬في‭ ‬رحلتك‭ ‬هذه‭ ‬الميمونة،‭ ‬وأن‭ ‬أشركك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬اللذيذ‭ ‬بالخلق‭ ‬والإبداع،‭ ‬فأجابت‭ ‬الموجة‭ ‬المجربة‭: ‬لك‭ ‬علي‭ ‬ذلك‭ ‬ضمي‭ ‬صدرك‭ ‬إلي‭ ‬صدري،‭ ‬ودعي‭ ‬زبدك‭ ‬يختلط‭ ‬بزبدي،‭ ‬حتي‭ ‬لكأنا‭ ‬موجة‭ ‬واحدة،‭ ‬فإذا‭ ‬بلغنا‭ ‬المحيط‭ ‬فلنزد‭ ‬تماسكا‭ ‬والتصاقا،‭ ‬حتي‭ ‬لا‭ ‬تضل‭ ‬إحدانا‭ ‬صاحبتها‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬هذا‭ ‬البحر‭ ‬المتلاطم‭ ‬الصخاب‭.‬ فلما‭ ‬انتهي‭ ‬بهما‭ ‬المطاف‭ ‬إلي‭ ‬المحيط‭ ‬ووجدا‭ ‬عذوبتهما‭ ‬بين‭ ‬مائة‭ ‬الأجاج،‭ ‬سما‭ ‬بهما‭ ‬شعاع‭ ‬الشمس‭ ‬سحابتين‭ ‬رفافتين‭ ‬تسعيان‭ ‬الهويني‭ ‬مع‭ ‬الريح،‭ ‬وهما‭ ‬شاخصتان‭ ‬إلي‭ ‬الأرض،‭ ‬تفتقدان‭ ‬تلك‭ ‬البقعة‭ ‬البائرة‭ ‬بعشبها‭ ‬المتفرق،‭ ‬وظلالها‭ ‬الخفيفة‭ ‬وزهراتها‭ ‬القليلات‭. ‬وهمست‭ ‬ذات‭ ‬التجربة‭ ‬إلي‭ ‬أختها‭ ‬وقالت‭: ‬فإذا‭ ‬لاحت‭ ‬لنا‭ ‬الأرض‭ ‬المباركة‭ ‬فستحتال‭ ‬للريح‭ ‬حتي‭ ‬لا‭ ‬تمضي‭ ‬بنا‭ ‬وبعدها‭ ‬وستضمين‭ ‬صدرك‭ ‬إلي‭ ‬صدري،‭ ‬وستتفيض‭ ‬نفسك‭ ‬وتتجمع‭ ‬أطرافك،‭ ‬وسنعود‭ ‬مرة‭ ‬أخري‭ ‬ماء،‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الريح‭ ‬أن‭ ‬تمسكه،‭ ‬ويهبط‭ ‬في‭ ‬قطرات‭ ‬متتابعة‭ ‬كأنها‭ ‬خيط‭ ‬واحد‭ ‬إلي‭ ‬الأرض‭ ‬البور‭ ‬والتراب‭ ‬المتفكك‭ ‬الحار‭.. ‬هنا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتأهب‭ ‬يا‭ ‬أختاه،‭ ‬فقد‭ ‬دنونا‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬ـ‭ ‬واأسفاه‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بائرا‭ ‬كما‭ ‬كان‭. ‬

لقد‭ ‬سعي‭ ‬إليه‭ ‬الإنسان‭ ‬فسواه‭ ‬خطوطا‭ ‬وقنوات،‭ ‬وهذه‭ ‬أرضه‭ ‬أراها‭ ‬باشمة‭ ‬بالماء،‭ ‬وذلك‭ ‬نباته‭ ‬يانعا‭ ‬رابيا‭ ‬ينتظر‭ ‬منجل‭ ‬الحصاد‭. ‬وعام‭ ‬علي‭ ‬وجه‭ ‬السحابة‭ ‬حزن‭ ‬عميق‭ ‬ردها‭ ‬كابية‭ ‬قاتمة‭ ‬سوداء‭ ‬ثم‭ ‬أجهشت‭ ‬بالبكاء‭ ‬فاستحالت‭ ‬ماء‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الريح‭ ‬أن‭ ‬تمسكه،‭ ‬وسقطت‭ ‬قطرات‭ ‬متتابعة‭ ‬كأنها‭ ‬خيط‭ ‬واحد‭. ‬ولكن‭ ‬التراب‭ ‬المحترق‭ ‬لم‭ ‬يخف‭ ‬إليها،‭ ‬ولم‭ ‬تتنزي‭ ‬ذراته‭ ‬من‭ ‬الشوق‭ ‬ولم‭ ‬تثب‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬واختلطت‭ ‬بأوشاب‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬آسن،‭ ‬واصطدمت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬طريق‭ ‬بهذه‭ ‬الخطوط‭ ‬التي‭ ‬أقامها‭ ‬الإنسان،‭ ‬ثم‭ ‬ارتدت‭ ‬ولهي‭ ‬حسيرة‭ ‬إلي‭ ‬قرارة‭ ‬بينها‭ ‬تندب‭ ‬الحظ‭ ‬العاثر،‭ ‬وتنتظر‭ ‬أوامر‭ ‬الزمان‭ ‬ونظرت‭ ‬أليها‭ ‬أختها‭ ‬في‭ ‬أسي‭ ‬عميق،‭ ‬وذرفت‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬دموع‭ ‬حزينة،‭ ‬ثم‭ ‬سارت‭ ‬مع‭ ‬الريح‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬الآفاق‭ ‬عن‭ ‬أرض‭ ‬بور‭.‬

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق