كان النهر يجري هادئا مطمئنا في طريقه المألوف إلي البحر، مرددا بخريره الأبدي أغنية الشوق والحنين. وكان النسيم يمسه مسا رقيقا ويمر علي صفحته وسنان حالما، فيزيد الشوق والحنين نغمة أخري من ناي هذا الساري اللطيف. وكانت هناك موجتان صغيرتان قد سبقت إحداهما الأخري، وإن ظلت تنظر إلي أختها في لهفة وحنان نادتها أن هلم أيها العزيزة، فإن لدي من الأخبار الحسان ما لم ارو لأحد مثله من قبل في رحلاتنا هذه الخالدة .
وظلت الموجة تكافح، ويرق لها النسيم، فيزجيها خطوة من وراء خطوة، حتي بصر بهما يتعانقان في قبلة صامتة طو يلة، فحول وجهه ونفخ في نايه نفخة قوية أضافت نغمة مضطر مة إلي هذا اللحن الهادئ الوديع.
قالت الموجة واحتضنت أختها: وهبطت أيتها العزيزة قطرات متتابعات كأنها خيط واحد في طريقي من السماء إلي الأرض، وأنت تعلمين كم أمل هذه الرحلة السخيفة التي لا تريد إن تنتهي ولا تريد أن تتجدد. والتي أشهد فيها ما شهدته في سابقتها، وأعاني منها ما عانيته في حياتي الطويلة الدائرة، فلما انتهيت إلي هذه البقعة من الأرض التي شاءت الريح أن تلقي بي اليها خيل إلي أني ألقي هذا التراب أول مرة، وأن تجاربي الكثيرة المعقدة لم تكن شيئا إلي هذه التجربة الجديدة العجيبة. كانت الأرض حارة متقدة متفككة، ولم يكن هناك ظل من شجر ولا روح من عشب ولا أريج من زهر ولا نسيم لطيف كهذا الذي جمعنا الآن، وإنما هو العراء والوحشة والحرمان في أرض بائرة واستقبلني التراب المحترق في سرور صاخب، ولهفة عاجلة حتي لكانت ذراته تتنزي من الشوك، وتثب من الحنين وعانقتني الأرض عناقا طويلا لذيذا، امتزجت فيه بحميع أجزائها ورويت هذه البقعة الظامئة التي جفتها الأنهار والغيوم والأنداء . واحسست في حرارة الأرض لذة قوية عارمة، ووجدت لهذا الاتحاد السريع شعورا لم أجده من قبل، وكنت أسمع له نشيشا متصلا، كأنما هو تعبير عن سرورنا بهذا اللقاء.
ونظرت فبصرت ببذرات قليلات قد تفتحت قلوبها لقطراتي الرطيبة تتلاقي منها عونا علي الحياة فوق التراب بعد أن ظلت دفينة فيه الليالي الطوال .وعرفت إذ ذاك أيتها الأخت العزيزة أن الأرض البور تحمل في طواياها سر الحياة قويا دفاقا كهذا الذي تنبض به الأرض العامرة من زهر وعشب وأشجار. ولقد لبثت هناك حتي شهدت زهرات بريات جميلات تستوي علي سوقها الدقاق وحتي رأيت أسراب النحل تدور وتغني وتعزف لهؤلاء الفاتنات ألحانها العذاب. ولقد لبثت هناك حتي شهدت ظلالا خفيفة من العشب الندي تحنو علي هذه التربة العارية فتمنحها من بردها وروحها ما ينسيها الحرمان المتصل وآلام العراء، حتي هذه الأنداء التي طالما جفت تلك البقعة المحرومة قد رفت بها تيجان أزهاري الحسان في هجعة الليل وتنفس الفجر ويقظة الإصباح .
وكم كان يلذ لي وأنا أنساب في حنايا هذه البقعة الطاهرة أن أذكر رحلة من تلك الرحلات التي مرت بها حياتي الطويلة، حين شاءت الريح أن تلقي بي في أرض عامرة سعي إليها الإنسان فسواها خطوطا وقنوات وتعهدها بالري والسقيا، وبث فيها من هذه البذور التي لا يزال يزرعها ليحصدها منجله البشع بعد حين وانتهت اليها، فإذا أرض ريانة قد بشمت بالماء فهي تلقاني عابسة واجمة في عزوف مؤلم، وانصراف يجرح من كانت مثلي قريبة عهد بالسماء، وإذا بي أختلط بأوشاب من ماء آسن.واصطدم في كل طريق بهذه الخطوط التي أقامها الإنسان، فأرتد ولهي حسيرة إلي قرارة بينها، أندب الحظ العثر، وانتظر أوامر الزمان.. فلما أشرقت الشمس أشرقت باهرة ساطعة، وأرسلت أشعتها حارة ملتهبة فاجتذبتني معها قسرا لتحملني الرياح مرة أخري سحابة رقاقة لم تعبر طريقها الطويل، ولم تلق أياها المحيط، هذا الذي تعرف بملحه ما بها من عذوبة وغناء، كان يلد لي إذن أن أذكر تلك الرحلة البعيدة وأذكر معها هذه الرحلة الميمونة المباركة فانتهي إلي مرح ضاحك وسرور يهز الأعطاف، حقا يا أختاه! لقد كانت الأزهار قليلة مبعثرة والعشب خفيفا متفرقا، وكان الظل لا يستطيع في كل حين أن يذود شعاع الشمس عن بعض هذه الأرض الصالية. ولكن كل شيء مع ذلك كان يوحي بالنضال في سبيل الحياة وكنت أحس بأن حوالي وجودا قويا ينبض من العدم ويقاوم الموت والظمأ والعراء، والحياة يا أختاه في الأرض العامرة سهلة لينة ميسورة لا تكادين تحسين لها وجودا، وأن ربت مناظرها وزهت وأزاهرها ، وغدت متعة للعين والقلب جميعا، ذلك لأنها لا تلقي في سبيل الوجود نصبا ولا كلالا، وإنما تمنحه منحا كريما، وتوهبه عبة سخية فتنطبع بوداعة أقرب إلي البلادة، ونعمة أشبه بالخمود.
وتستطيعين أيتها العزيزة أن تدركي هذه الغبطة التي كانت تشيع في نفسي، وذلك العجب الذي كان يملأ قلبي حين كنت أحس أني سلاح تلك الزهرات الحسان في نضالها من أجل الحياة، لقد كنت أشعر أني خالقة هذا الجمال، وباسطة تلك الظلال، وأن من قطراتي قد انبعثت هذه الأفواف الزاهية، والخضرة اليانعة، والعشب الغريض، ولا شيء، يشعر الحي بالحياة أكثر من أن يكون خالقا!
وتنهدت الموجة تنهدة بيضاء، غشت صفحتها المتألقة الصافية، والذكري تنزو بها فيردها التيار المتدفق السيال. ثم قالت: وقضيت ما قضيت هناك، ثم أخذت طريقي في الأرض بين صخور بيضاء ورمال صفراء، طلعت بي علي هذا النهر الزاخر الذي أراه مهما جد يسير بنا وانيا إلي المحيط. نعم يا أختاه! لكن أنا مشوقة إلي بدء دورتنا الأبدية من جديد، حتي أهبط إلي أرضي المباركة قبل أن يصوح الزهر: ويجف العشب وتتلاشي الظلال.قالت الموجة الثانية. فإنك لن تضني علي يا أختاه بأن أصحبك في رحلتك هذه الميمونة، وأن أشركك في هذا الشعور اللذيذ بالخلق والإبداع، فأجابت الموجة المجربة: لك علي ذلك ضمي صدرك إلي صدري، ودعي زبدك يختلط بزبدي، حتي لكأنا موجة واحدة، فإذا بلغنا المحيط فلنزد تماسكا والتصاقا، حتي لا تضل إحدانا صاحبتها في مياه هذا البحر المتلاطم الصخاب. فلما انتهي بهما المطاف إلي المحيط ووجدا عذوبتهما بين مائة الأجاج، سما بهما شعاع الشمس سحابتين رفافتين تسعيان الهويني مع الريح، وهما شاخصتان إلي الأرض، تفتقدان تلك البقعة البائرة بعشبها المتفرق، وظلالها الخفيفة وزهراتها القليلات. وهمست ذات التجربة إلي أختها وقالت: فإذا لاحت لنا الأرض المباركة فستحتال للريح حتي لا تمضي بنا وبعدها وستضمين صدرك إلي صدري، وستتفيض نفسك وتتجمع أطرافك، وسنعود مرة أخري ماء، لا تستطيع الريح أن تمسكه، ويهبط في قطرات متتابعة كأنها خيط واحد إلي الأرض البور والتراب المتفكك الحار.. هنا يجب أن نتأهب يا أختاه، فقد دنونا من المكان ـ واأسفاه إنه لم يعد بائرا كما كان.
لقد سعي إليه الإنسان فسواه خطوطا وقنوات، وهذه أرضه أراها باشمة بالماء، وذلك نباته يانعا رابيا ينتظر منجل الحصاد. وعام علي وجه السحابة حزن عميق ردها كابية قاتمة سوداء ثم أجهشت بالبكاء فاستحالت ماء لا تستطيع الريح أن تمسكه، وسقطت قطرات متتابعة كأنها خيط واحد. ولكن التراب المحترق لم يخف إليها، ولم تتنزي ذراته من الشوق ولم تثب من الحنين واختلطت بأوشاب من ماء آسن، واصطدمت في كل طريق بهذه الخطوط التي أقامها الإنسان، ثم ارتدت ولهي حسيرة إلي قرارة بينها تندب الحظ العاثر، وتنتظر أوامر الزمان ونظرت أليها أختها في أسي عميق، وذرفت شيئا من دموع حزينة، ثم سارت مع الريح تبحث في الآفاق عن أرض بور.
رابط دائم: