رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
وهذه المسألة حسمت أمورها فى الغرب ووصلت إلى مقصدها منذ زمن بعيد، ولكنها فى الفكر العربى مازالت تعانى التعثر والانسداد التاريخي، فعلى الرغم من اشتغال عدد من النخب فى مجتمعاتنا العربية بالتنوير الفكرى باعتبار أننا نمر فى ظلام يمنعنا من رؤية التقدم والنهضة، ومع استمرار هذا الجهد لعدة عقود مازالت مشروعات التنوير بكرا لم تنضج فى كتابات المثقفين العرب، وما قدمه الرعيل الأول فى بواكير عصر الحداثة كالطهطاوى ومحمد عبده والأفغانى والكواكبى لم يكمله من أتى بعدهم، إذ كانت المشروعات التى تولد فى رحم التنوير تصطدم مع المشروعات المضادة فتتقزم فى دوائر النزاعات الفكرية الضيقة والصاخبة. واللافت للنظر والمؤسف فى الوقت نفسه أن كتابات التنوير المعاصر فى المنطقة العربية تمحورت حول موضوع الدين والتراث، وكأنه سبب ظلامات حالنا الراهنة، ولو تركز بالنقد والتنوير فى الممارسات العربية الجانحة والمتطرفة لكان أحرى بالقبول العام لدى جميع التيارات، لكن الكثيرين اقتصروا على النص وفهمه وتاريخيته وزلات فهم الفقهاء ومرجعية التراث، بينما تتمحور مشكلات الإنسان القائمة حول ضعف التنمية وفقدان الهوية وتخلف البحث العلمى والبطالة وتدهور التعليم، ولكن لم يشغل هذا إلا القليل رغم وجود القدرة عند الكثيرين من مفكرينا على تناول هذه القضايا الملحة فى حياة الفرد والجماعة. وعندما تستدعى التجربة ذاتها عند مفكرى عصر النهضة الأوروبيين نجد أن هناك من تناول الفكر المجرد ونقد اللاهوت، باعتبار أن هذه الموضوعات كانت من أسباب التخلف آنذاك، لكن الغالبية العظمى اهتموا بالعلوم والمعارف الإنسانية الأخرى وفنون البناء المتنوعة سواء الايطاليون السابقون كدافنشى ومايكل أنجلو، أو الأهم وهم الإنجليز الذين مهدوا لطريق طويل من النهضة امتد من أوائل القرن السادس عشر إلى عصرنا الحاضر وأبرزهم توماس مور وفرنسيس بيكو، عندما أرسى هؤلاء قواعد المنهج التجريبى وأطلقوا عنان المكتشفات الطبيعية والعلوم المصاحبة لها، ثم اشتغل الكثيرون من الفلاسفة بعدهم بهذا الهم العلمى الذى تجاوز اشتغالهم بالفكر اللاهوتي، وهذا الانتقال أنشأ أول مجتمع صناعى قوى فى العالم الذى نقل الفرد فى بريطانيا من فقير عائل إلى صانع مستقل، وبمداخيل مضاعفة وهيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية بعد ذلك على العالم.. حدث هذا كله بفضل عدد من الأعمدة الفكرية التى أرساها لوك وهيوم، والتى مهدت الطريق لحقوق أوسع وحريات أرسخ، ثم جاء فيلسوف القرن التاسع عشر «جو ستيوارت» الذى قفز بهذه المرحلة نحو الفعالية المجتمعية من خلال كتابه «فى الحرية»، حيث زج بقدرات الفقراء والطبقات الوسطى نحو عملية التغيير الاجتماعى والاقتصادي، ولاشك أن مرونة الملكية البريطانية أسهمت فى استقرار نسبى دعم هذه الثورة الصناعية نحو التقدم ومكنها فى مجالات حياتية عديدة. ونستطيع أن نخلص إلى النقاط الآتية فى قضية التنوير التى أتت أكلها فى الغرب وانتكست فى العالم العربي: { تمر المجتمعات العربية بتحولات مهمة خصوصا بعد ثورات الربيع العربي، ولم تنقذها حالات التنوير الثقافى الخالية من معطيات التنمية والبناء فى تقليص الكوارث التى مرت بها تلك الدول، فالنموذج البريطانى كان أسرع فى تقبل التغييرات التى حدثت. ولم تعاند الملكية فى توسيع المجال للمشاركات، وفتح باب الحريات للمجتمع، بخلاف الملكية الفرنسية التى أسهمت فى نشوء الثورة وانتكاساتها المريعة، فمرونة السياسى وعقل المثقف العمرانى كفيلان بنهضة تقدمية تحافظ على مكتسبات المجتمع وتنميته. { إن إستراتيجية التغيير تحتاج إلى منطق إدارى صارم، ولكن لن ينجح هذا المنطق إذا لم يكن هناك فهم سننى لطبيعة المجتمع واحترام ثوابته (من حرية التعبير والعدالة الاجتماعية وترسيخ قيم المواطنة)، وتصد لمشكلاته الآنية والمستقبلية مع الحذر من التعاطى مع الأمور الضرورية فى التغيير بمنطق نصف إصلاح يكفى أو نصف حرية أو نصف عدالة، لأن تلك الأنصاف الناقصة قد تعود بالخراب على الكل. { الإنسان هو محور التقدم الحضارى، وهذه قاعدة ربانية، لأن التغيير الحقيقى يبدأ وينتهى بالأنفس كما قال تعالى : «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» فالإنسان اليوم يجب أن يكون جوهر الرؤى التقدمية وروحها النابضة، وإذا لم تراع حاجاته الروحية والفكرية والفطرية فإن حاجاته المادية الاقتصادية ستجعل منه مسمارا فى آلة يبقى ببقائها وينتهى بانتهائها، والإنسان المستهدف فى النهضة لا يتبعض. أى لا يستهدف إنسان المال والأعمال كونه الحافز المؤثر ويغفل عن إنسان القرى والبوادي، وإنسان الماء الملوث وساكنى العشوائيات فمن الحكم الحضارية التى تداولتها البشرية أن الوطن الذى يعلى شأن أفراده يعلو فى قلوبهم ويسمو على الآخرين. { يأتى التعليم دائما على رأس أولويات التغيير وتبدأ النهضة الحقيقية لأى حضارة من الجامعة والمدرسة، فهى أكبر تجمع مكون للتغيير وإعدادهم فى شكل مكثف وممنهج يختصر الكثير من الوقت والجهد والمال الذى تتطلبه فى العادة مشروعات النهضة التى تتوخاها الحكومات فى أى بلد فى العالم. هناك مقولة شهيرة لمهاتير محمد عندما تولى مسئولية الحكم فى ماليزيا «نحن بلد فقير وعلينا أن نستثمر ونصرف على التعليم»، ولكن يبدو أن المنطقة العربية تفضل الاستثمار فى الحجر دون البشر لأسباب مفهومة ضمنا. د. عماد إسماعيل