هو ليوبولد سيدار سنجور، رئيس دولة: جمهورية السنغال، والذى دانت له دولة الشعر، فكان واحدا من أعلامها السامقة، يتألق اسمه إلى جانب أسماء مبدعى الشعر الذين كانت الفرنسية لغتهم الأم وأولئك الذين كانت الفرنسية لغتهم الثانية – مثله هو - شأن مواطن جزر المارتينيك: «إيميه سيزير». وعلى حد ما جاء فى نعى سنجور سنة 2001 على لسان الرئيس الفرنسى عندئذ جاك شيراك، فقد «كان واحدا من أعاظم ساسة أفريقيا، ومن أكابر سادة الشعر.»
..................................................................................
عرف تاريخ أفريقيا السياسى سنجور مناديا بالاشتراكية الأفريقية، بالاشتراك مع جوليوس نيريرى وموديبو كيتا وكوامى نكروما وأحمد سيكوتورى؛ فإذ تحررت الدول الأفريقية التى تزعموها: السنغال وتنزانيا ومالى وغانا وغينيا، استقروا على رفض مفاهيم الرأسمالية، آخذين بنموذج اقتصادى أفريقى المركز، أساسه تنمية اجتماعية يقودها قطاع عام عريض، والحيلولة دون تكوين طبقات اجتماعية متمايزة عن بعضها البعض. وكان رأى سنجور أنه باعتبار حياة مجتمع القبائل هى الخلفية الاجتماعية لأفريقيا، فمن الطبيعى أن تكون البلاد الأفريقية اشتراكية، كما أنه «من المنطقى أن تكون اشتراكية أفريقيا مقدمة لوحدتها»، على حد قوله فى خطابه الافتتاحى فى «منتدى بلورة مفاهيم الاشتراكية الأفريقية» الذى دعا إليه فى ديسمبر سنة 1962، وشهدته عاصمة السنغال داكار.
ولد ليوبولد سيدار سنجور سنة 1906 فى السنغال حيث تلقى تعليمه المدرسى متفوقا فى الآداب الفرنسية واللاتينية واليونانية، ليحصل – بعد إتمامه الدراسة الثانوية – على منحة دراسية فى فرنسا، افتتحت ما سماه «فترة التجوال» فى حياته: بدءا من سنة 1928 وحتى سنة 1944. لكنه لم يكن تجوال العاطلين! ففى تلك الفترة حصل من السوربون على درجة علمية أهلته للتدريس فى جامعة باريس عشر سنوات. ثم صار رئيسا لقسم اللغويات فى «المعهد الفرنسى لما وراء البحار»، وعضوا فى البرلمان الفرنسى عن دائرة «السنغال وموريتانيا»، (حين منحت مستعمرات فرنسا الحق فى تمثيلها نيابيا)، ومستشارا لرئيس وزراء فرنسا بدرجة وزير. وهو آخر موقع له قبل تبوئه - فى سنة 1960 - أعلى سلطة فى بلاده، كأول رئيس لها بعد استقلالها. وهذا لفترة انتخابية أولى أعقبتها أربع فترات استقال قبل نهاية الأخيرة منها، ليصير أول أفريقى ينتخب عضوا فى الأكاديمية الفرنسية العريقة!
وسيظل التاريخ الإنسانى يذكر لسنجور ما كرس له جهده طيلة حياته، وأعنى قضية «الثقافة الزنجية»، التى انشعل بها فى وقت مبكر كانت فيه بلاده تحت الاحتلال الفرنسى، وظل متمسكا بمفهومه لها فى كتاباته النقدية وإنتاجه الأدبى، بمثلما خلال دوره السياسى فى جميع المناصب الرفيعة التى شغلها.
لم يكن مفهوم ليوبولد سيدار سنجور للثقافة الزنجية مجرد رد فعل على النزعات العنصرية فى البلد الأوروبى الذى أمضى فيه تلك السنوات: كلا! لم يكن ذلك النوع من رد الفعل العدوانى الذى لا زلنا نلمس مظاهره فى سلوك المنتسبين إلى مستعمرات فرنسا السابقة، المقيمين على أرضها. بل كان نواة عشقة لحركة ثقافية قوية شاركه فيها قرينه الشاعر الأفريقى المبدع بالفرنسيه إيميه سيزير، رسالتها مد جسور الحوار بين مختلف الثقافات: الأفريقية والأوروبية والعربية، وهدفها ترسيخ قيم الحضارة الأفريقية المتميزة ومبادئها الفكرية والنقدية، بما يشمل جماليات الإبداع؛ تعززها الدراسة التاريخية المبرهنة على ارتباط أفريقيا السوداء بمصر القديمة. وفى رأى سنجور أن ما عرف باسم «أفريقيا جنوب الصحراء» (أى ما هو اليوم أراضى اثنتين وثلاثين من دول أفريقيا، منها ساحل العاج والكاميرون والجابون وغينيا وغانا وكينيا وغيرها) شكل – فى قديم التاريخ - امتدادا حضاريا عبر مصر إلى اليونان إلى روما فإلى سائر دول أوروبا. ومن أقوال ليوبولد سيدار سنجور إن «حضارة القرن العشرين لن تكون عالمية ما لم تكن تركيبا فعالا من جميع الحضارات ومن جميع القيم الثقافية. والثقافة الزنجية هى ملح الأرض، الذى بدونه يستحيل أن يكتسب الطعام مذاقا!»
فى أواخر القرن العشرين، ذاعت أغنية لشاب أمريكى أفريقى جميل الصوت، كلماتها موجهة لقرينه الأبيض، فى عتاب رقيق على نعته إياه بصفة «ملون»؛ فما هو إلا أسود، من بداية حياته إلى آخرها. أما قرينه فكان ورديا ساعة ولد، وأبيض عندما كبر، وتجعل أشعة الشمس بشرته محمرة، ويتحول لونه إلى الزرقة بتأثير البرد... فمن منهما هو الملون!؟ وقليل من المعجبين بالأغنية عرفوا أنها مستوحاة من قصيدة للشاعر سنجور: قصيدة عنوانها «أخى الأبيض العزيز». وفى قصيدة أخرى يخاطب سنجور الأنثى الأفريقية، قائلا: «... يا مكتسية بلونك الذى هو حياة، وبمرآك الذى هو روعة. لك بشرة بلون الزيتون تتعانق فيها الشمس والأرض. يا من جعلتنى صديقا لشعاع من القمر ينزلق صوبى. لك جلال الأهرامات: فى ظلك كنت أكبر، وحنان يديك يعصب عينى. ابتسامتك شاطئ يزدان بالحصى الأملس، وصوتك الدافئ هو أنشودة روح المحبوبة.»
فى التاسع والعشرين من ديسمبر سنة 2001، شيع ليوبولد سيدار سنجور إلى مثواه الأخير. وعلى شاهد قبره نقشت أبيات من شعره: «حين أموت يا أصدقائى، أرقدونى تحت أجنحة النخيل، ولتنشد الشاعرة أبياتا تصف كيف انفطر قلبى من فرط حبى لبلدى الرهيب، ولفلاحيه ورعاته وصياديه وأبطاله الأسطوريين، ولتلك الأصوات الدافئة: أصوات العذارى!»
رابط دائم: