ويتساءل الأئمة: هل يعقل أن تحضر جنازة فى يوم الجمعة فيلقى الخطيب على مسامع المصلين خطبة «مكتوبة» عن “ التحرش” فى قرية قد لا تسمع عنه؟ وكيف تخاطب الوزارة جمهور المصلين فى العواصم والمدن والنجوع والعشوائيات بخطاب واحد رغم اختلاف البيئات والثقافات والإفهام والقضايا؟!
وكيف ستتعامل وزارة الأوقاف مع كبار العلماء والأئمة المكفوفين الذين أنار الله بصيرتهم بنور القرآن واجتذبوا قلوب وأسماع المصلين؟ هل نمنعهم من صعود المنابر لعدم استطاعتهم قراءة النص المكتوب الذى شحذت وزارتهم جهودها للإسراع بتعميمه على المساجد؟
وما الذى يضمن وصول الخطبة إلى نحو 50 ألف إمام فى موعدها، من ديوان مبنى وزارة الأوقاف العتيق فى باب اللوق بالقاهرة إلى القرى والنجوع فى آن واحد. وماذا لو انقطع الانترنت فى بيت الإمام أو تلقى بريدا الكترونيا بالخطأ، هل يذهب لارتجال الخطبة والوقوع تحت طائلة التحقيق، أم يقعد فى بيته مع القاعدين؟
ألم يكن – وما زال – العالمان العربى والإسلامى يعدان الخطيب المصرى أخطب وأفصح أهل عصره بلاغة وعلما، فكيف يستسيغ المصلون وقوفه أمامهم ليقرأ من ورقة مكتوبة فى سابقة لم تحدث فى بلد الأزهر، أم أن ضعف مستوى الأئمة والخطباء بات واقعا ملموسا فرض على الوزارة اتخاذ مثل هذا القرار؟!
وزارة الأوقاف تؤكد أن خطبة الجمعة المكتوبة هى الحل لظاهرة الخروج على موضوع الخطبة الموحدة والإطالة ومواجهة الدخلاء على ساحة الدعوة. وأوضح الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف أن توحيد الخطبة المكتوبة ليس سياسيًا على الإطلاق, وإنما هدفه صياغة الفكر المستنير بصورة علمية ومنهجية, موضحا أنه عقد خلال الأيام الماضية، لقاءات متتابعة مع القيادات الدعوية وجموع الأئمة والدعاة وعلماء الوزارة، لشرح فكرة توحيد الخطبة المكتوبة وبيان أهميتها, وأنه سيكون أول من يبدأ بتنفيذها .
ومن جانبه أشار الشيخ جابر طايع رئيس القطاع الدينى بوزارة الأوقاف، الى أن فكرة الخطبة المكتوبة جاءت نتيجة للشكاوى الكثيرة التى ترد للوزارة، فهناك بعض الأئمة يتجاوز الوقت المحدد للخطبة، كما أن البعض الآخر قد لا يلتزم بموضوع الخطبة الموحدة، ويقوم بتوجيه موضوع الخطبة توجيها غير أمثل، فيتحدث فى بعض القضايا الفرعية، ولذلك كان لابد من التفكير فى ضبط هذه الأمور من خلال الخطبة المكتوبة، موضحا أن إدارة بحوث الدعوة بالديوان العام، ستقوم كل شهر بإعداد 4 خطب، ويتم إرسال هذه الخطب المكتوبة للمديريات الإقليمية لتوزيعها على الأئمة والدعاة، وسيقوم علماء متخصصون بإعداد هذه الخطب المكتوبة، لتشمل جميع جوانب الموضوع، من خلال مادة علمية متميزة .
خطوة للتجديد
ويوضح الدكتور محمد محمود أبو هاشم، نائب رئيس جامعة الأزهر، أن الخطبة المكتوبة تعد خطوة من خطوات تجديد الخطاب الديني، مشيرا إلى أن الخطبة المكتوبة سوف تكون معدة من جانب علماء متخصصين ومتميزين، وسيكون موضوع الخطبة مغطى من جميع جوانبه، وستكون الخطبة منضبطة من ناحية اللغة العربية، كما أن الخطبة المكتوبة ستكون متوافقة مع زمن الخطبة الذى تحدده وزارة الأوقاف، وذلك منعا للإطالة أو التقصير المخل، موضحا أن الخطبة فى الحرمين الشريفين تكون مكتوبة، وكذلك أيضا فى كثير من البلاد العربية والإسلامية، كما أن الخطب الرسمية فى المناسبات العامة تكون مكتوبة، وبالتالى فإن خطبة الجمعة التى تخاطب جموع رواد المساجد، ستكون مكتوبة ومنضبطة لغويا وعلميا، وهذا سوف يحقق فائدة كثيرة، وسوف يستفيد كل رواد المسجد بالخطبة المكتوبة.
المعارضون
ويرى الدكتور علوى أمين، الأستاذ بجامعة الأزهر، أن الخطبة المكتوبة نوع من التدخل فى حياة الإمام العملية، وطالب بأن يظل الأمر كما كان عليه، وهو الخطبة الاسترشادية التى تحدد موضوع الخطبة والعناصر الرئيسية، ويكون هناك فرصة للإمام، بأن يجتهد فى توصيل موضوع الخطبة لرواد المسجد بالطريقة التى تناسبهم، موضحا أن الخطبة المكتوبة لن تكون مناسبة لجميع المساجد، فهذا النص الذى يكتب باللغة العربية الفصحى لن يناسب رواد المساجد فى القرى، ومن الأفضل أن تكون هناك مساحة للإمام، لأنه قادر على أن يصل لجميع المصلين، لأنه يعرف واقع وظروف رواد المسجد.
رأى مخالف
وعلى الجانب الآخر يقول الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن الثابت والمنقول والمأثور عن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين رضى الله عنهم، والخطباء فى كل زمان ومكان، أداء خطب الجمع والعيدين ارتجالا وابتكارا، وهذا أدى إلى نبوغ خطباء يشار إليهم بالبنان، وبالاستقراء فى تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد نبغ بلغاء وفصحاء، حازوا السبق والتأثر والتأثير بالعملية الدعوية وفى الأوساط الإرشادية للمسلمين، ولأجل جودة الأداء ونبوغ الخطباء، أنشئت بجامعة الأزهر كلية الدعوة وأقسام الدعوة بكلية أصول الدين، وتم اكتشاف مواهب ذات أثر وتأثير فى جموع المتلقين من رواد المساجد، وظهرت علوم ذات صلة كعلم الدعوة الإسلامية وفن الخطابة، وتوجد مصنفات تدرس فى كلية الدعوة وأقسامها، واللافت للنظر أن المؤسسات الإسلامية فى مصر، كلما فشلت فى تجديد الخطاب الديني، تأخذ الدولة لشوارع جانبية، فمنهم من يقول إنه يصحح صورة الإسلام فى الغرب، وكأن الإسلام فى قفص الاتهام، ومنهم من أراد أن يوارى سوءة الفشل تلو الفشل، لصرف نظر الدولة عن قضية تجديد الخطاب الديني، والدعوة لخطب مكتوبة هى فتنة مبتدعة تهدف لوأد فن الخطابة فى مصر الأزهر.
لا فائدة منها
وفى سياق متصل يؤكد الشيخ عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر، أن الخطبة المكتوبة دعوة للجهل المطبق، لأن الإمام فى هذه الحالة سيكون كالقطار الذى يسير على القضبان، ولن يكون هناك فرصة للقراءة والاطلاع، موضحا أن خطبة الجمعة من المفروض أن تعالج مرضا اجتماعيا فى الحى أو المنطقة أو القرية التى يوجد بها المسجد، وإذا لم يحدث ذلك، فهى خطبة لا قيمة لها ولا فائدة منها، لأنه من شروط نجاح الداعية الخبرة بحال الناس، فالإمام يرتفع بأسلوبه أحيانا ويتوسط أحيانا أخري، بحيث كل من دخل المسجد يخرج منه وقد استفاد، لأن رواد المسجد بينهم المتعلم وبينهم الأمي، ومجتمعنا مختلف، فعندنا مجتمع حضرى فى المناطق الراقية، وهناك المناطق الشعبية، وكذلك لدينا القرى والنجوع، فما فائدة خطبة تعالج التحرش فى قرية قد لا تسمع عنه، ولا تعرف معنى هذه الكلمة، والمؤكد أن خطيب الجمعة فى هذه المناطق، لو تحدث فى قضايا معينة لا تناسبهم، سوف يخرج الناس من المسجد ويقولون» لقد تحدث مولانا الشيخ بالنحوى وما فهمنا منه شيئا»، ويشير إلى أن الخطبة المكتوبة تعد سلبا لإرادة الخطيب، ولا تعطيه فرصة لأن يبتكر موضوعا معينا، ولا ينهج نهجا معينا يتناسب مع رواد المسجد .
حجر على تفكير الأئمة
اتصلنا بالدكتور رأفت عثمان، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة بالقاهرة وعضو هيئة كبار العلماء، لمعرفة رأيه فى توحيد الخطبة المكتوبة، وكان وقتها يلقى محاضرة علمية بدار الإفتاء، فقال إن ما سيقوله فى هذه القضية سيكون موجها أيضا للمشاركين فى المحاضرة، وتابع قائلا: إن الخطبة المكتوبة عمل غير مستحب، لأن كتابة الخطبة وإرسالها للأئمة يلقونها مكتوبة بأسلوب غير أسلوبهم، فإن هذا فيه حجر على تفكير الخطيب، لأن كل خطيب وإمام له أسلوبه الخاص، وهو الأقدر على التصرف فى العبارات التى يخاطب بها الجمهور، وهذا أفضل من أن تأتى له الخطبة مكتوبة من جهة عليا .
ويوضح أن البيئات فى مصر مختلفة، فهناك بيئة تحتاج إلى توعية دينية من حيث الزراعة، وعدم التعدى على جار المزارع، فهذه البيئة تحتاج خطبة فى هذا المعني، لأنه فى حال الخطبة الموحدة والمكتوبة، سيسمعها كل الناس فى كل البيئات، سواء كانت ريفية فى القرى والنجوع، أو فى بيئة متحضرة فى الزمالك والمناطق الراقية مثلا، فهل جمهور المناطق الراقية لهم اهتمامات بالزراعة أو المشاكل التى من الممكن أن تحدث بين المزارعين .
ويرى أنه لو تم تنفيذ هذه الخطبة المكتوبة، فكأنك تخاطب أهل القرى، بأمور يهتم بها أهل المدن والبيئات المتحضرة أو العكس، فهذا يجعل الخطبة بدون فائدة، وأيضا هذا من شأنه أن يضعف روح التعبير عند الإمام والخطيب، ويجعله قارئا فقط لما يملى عليه، ويمنعه من أن يبتكر فى العبارات التى تؤثر فى الجمهور، لأن الإمام إذا كان متعودا على أن يخاطب الجمهور بأسلوبه هو، فهذا يجعله ينطلق فى التعبير ويمس واقع الناس، بعكس إذا قرأ خطبة مكتوبة لا فضل له فيها، ويستطيع أى تلميذ فى الصف الأول الإعدادى أن يأخذ هذه الخطبة ويلقيها .
وشدد على أن الخطبة المكتوبة أمر غير مقبول، ويجب أن نجعل الإمام هو سيد الموقف فى موقعه، يخاطب الجمهور الذى أمامه، بحسب ما يرى من مستوى ثقافى أو حضاري، لأنه كما نعرف فإن المشاكل تختلف من منطقة لأخرى، وقضايا الريف غير قضايا الحضر، والذى يفهم هذا ويعيش فيه هو الإمام والخطيب، ولابد أن نترك موضوع الخطبة للإمام يلقيها بأسلوبه، وليس بطريقة مكتوبة كما يحدث مع تلاميذ المدارس.
وطالما أن الأمر وصل لكتابة الخطبة للأئمة والدعاة، إذن ما فائدة كليات الشريعة وأصول الدين والدعوة والكليات الشرعية، فيمكن أن ننادى بإلغاء هذه الكليات التى تخرج الأئمة، ويقوم أى تلميذ بقراءة النص المكتوب.
هاشتاج «لا للخطبة المكتوبة » يجتاح صفحات الأئمة
رفض قطاع كبير من أئمة ودعاة وزارة الأوقاف هذا الاقتراح، قائلين إنه سيؤدي إلى إضعاف الخطباء وإهدار كرامتهم. ودشن عدد من الأئمة حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ لرفض هذه الفكرة، عبر هاشتاج” #لا_للخطبة_المكتوبة”، أعربوا خلاله عن شعورهم بالإهانة جراء هذه الفكرة، التي يرون انها تضيع ما تبقى من كرامتهم، فقراءة ورقة فوق المنبر لا تحتاج إلى عالم أزهري، إنما تحتاج إلى إنسان حاصل على محو الأمية.
وقال عدد من الأئمة إن هذه الفكرة تقتل الإبداع، وتمحو شخصية الخطيب، مؤكدين أن “النموذج الخليجي” لا يناسب الدعوة في مصر، وأكد آخرون أن القضايا التي تشغل أهالي منطقة ما قد لا تهم سكان منطقة أخرى. وناشدوا وزير الأوقاف بالتراجع عن تنفيذ الفكرة، والاكتفاء بتوحيد موضوع الخطبة، مع ترك الصياغة للإمام بما يتناسب مع المكان والجمهور.
ورفعت بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، شعار “ اللاءات العشر للخطبة المكتوبة، مؤكدين أنه من الأمور التي تناقض الذوق والحس والواقع فرض ورقة على أكثر من خمسين ألف خطيب ليقولوها بنص دون زيادة أو نقصان مع اختلاف بلدانهم وعلى اختلاف مقاماتهم وبيئاتهم ففي هذا وأد للكلمة وقتل للفهم وتجفيف لمنابع العلم لدى الأئمة والدعاة، لأنها ستكون وسيلة للاستهزاء وسخرية من الجمهور بالداعية الذي أصبح في نظرهم أداة في أيدي غيره، وتقتل حرارة التفاعل مع القضية التي هي أصل الموضوع، وتقتل القبول من السامعين لأنها خارجة من اللسان وليست من الوجدان، وتقتل النتيجة التي هي ثمرة الخطبة فهي في واد والواقع في واد فالخطيب ما هو إلا طبيب يعالج الأمراض التي يراها في البيئة التي يعيش فيها.
وأكد الأئمة أن الخطبة المكتوبة تعمل على تجميد الخطاب الديني لا تجديده وفرض للرؤية الواحدة، وهي فوق كل ذلك دعوة صريحة لقتل البحث العلمي والقراءة والاطلاع بل هي دعوة لهجر حفظ الآيات والأحاديث والآثار.