رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

نغمات الشيطان
تركض فى «ونوس»

سـهير حلمــي
تجذبك بسحرها .. تتعالى نغماتها .. تتوالى .. تستأثر بأذنك .. تفصلك عن محيطك.. تغمرك بوقعها ومقامها وإيقاعها .. عنفوان الحدث و«نغمة الغواية» تحركك .. تنبهك .. تستوقفك .. تذكرك «وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة «وتتوالى الغواية فى موسيقى أمين بوحافة فى مسلسل «ونوس» هنا تستشعر قوة وجبروت هذه التيمة التى أمسك بتلابيبها هذا الموسيقى الشاب الموهوب الذى لم يتعد الثلاثين عاماً ..

 موسيقى وسوس بسرها الجن فى وادى عبقر للموسيقار البديع فانطلقت شرارة الإلهام وترك الفنان وحده ليستكمل الإلهام ويركض وراءه .. فجاءت أروع نغمة موسيقية لبشر يركض من بدء الخلقة إلى يوم الحساب .. سيمفونية هادرة .. هى المعادل الموسيقى لقصة الخلق التى جسدها فنان عصر النهضة «مايكل أنجلو» على سقف كنيسة سيسيتينا بالفاتيكان .. حيث رسم مشاهد مستوحاة من سفر التكوين من خلق آدم وصولا للأنبياء فى مساحة امتدت ثلاثة آلاف وخمسمائة متر وضمت ثلاثمائة شخصية .. طوفان وحشد بشرى وتكوين فنى يضج بالحركة والتوتر .. ومثلما صورت لوحات مايكل أنجلو بداية الخلق وفصل اليابسة عن الماء .. والنور عن الظلام ووقوع الغواية والأكل من شجرة المعرفة وأحوال الحزن والدهشة وأجواء الندم والخروج من الجنة «أهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر» وكما مزج مايكل أنجلو بين إيقاع الخطوط والإيحاء بعمق .. داهمتنا ايقاعات موسيقى «ونوس» التصويرية بعد نغمة الغواية من الأزل .. من عهد آدم وسليمان وعيسى ويوسف وإدريس وموسى ومحمد .. تركض وتلهث وراءها الأنفاس فى خوف وذعر، والشيطان  يتعقب ابن آدم وهو يحاول الوصول إلى مجرى الدم فى كيانه .. النغمة تجتاح فى طريقها كل المشاهد التى عرفتها النفس البشرية بعد أن تركت عالم الملكوت وهبطت فى مرتبة التفضيل الى الارض اختارت أن تحمل الأمانة ..وتعود الموسيقى محملة بالتاثيرات..  تمزق .. ضياع .. أحزان .. أفراح .. سماء مكفهرة .. أقمار ناعسة .. شموس غائبة .. رعود وأمطار وفيضانات وأوبئة وحروب وزلازل وبراكين وحدائق وجنان وأنهار وحور عين .. قطار جامح من النغمات كقطار الحياة لا يترك مساره .. يمسك زمامه عزيز مقتدر .. يتأرجح .. يتمهل .. يتعثر .. على نغمات العود .. حين تتقطع به سبل الرجاء .. «هل الموسيقى ليست شيئا يضاف إلى العالم .. إنها عالم قائم بذاته «هكذا عبر «شوبنهور» عن الموسيقى .. سيمفونية بديعة مطعمة بروح الشرق قام  بتوليفها  الموسيقى التونسى الذى تفجرت موهبته فى العزف على البيانو وهو فى الثالثة من عمره واستكمل دراسته فى سن الثانية عشرة بحصوله على دبلوم الموسيقى العربية وقام بتأليف مقطوعة موسيقية فى سن الخامسة عشر .. لمع نجمه منذ سنوات قليلة فى الموسيقى التصويرية لأعمال منها : باب الخلق وجبل الحلال والسيدة الأولى والميزان وجراند اوتيل وونوس .. أكمل أمين بوحافة دراسته فى باريس وبالتوازى معها حصل على بكالوريوس هندسة الاتصالات .. تفتح وعيه عن طريق والدته على سماع عبد الوهاب وأم كلثوم وفيروز والرحبانية والقصبجى .. يمتلك حاسة بصرية شديدة الحساسية على حد تعبيره.. لابد من قراءة السيناريو جيداً ومشاهدة موقع التصوير والتشبع بالنص وتفاعل الممثلين معه قبل البدء فى إعداد الموسيقى التصويرية وهو أصغر موسيقى عربى يحصل على جائزة سيزار الموسيقية، أراد أن يصور الصراع بين الإنسان والشيطان .. وهكذا تذوقت شخصياً هذا العمل البديع .. بتداخل الناى مع اللحن السيمفونى بعد تقسيمات العود الشجية.. نغمات الناى تبدو كأنها تنعى الحظوظ والاقدار  وتعمق الإحساس بالشجن .. موهبة رفيعة  .. نتمنى حمايتها بسياج خاص يحميها من الهدر أو التشتت .. يتسلسل اللحن السيمفونى المهيب ويزداد ارتباط المستمع به فهو فكرة كاملة وليست خاطرا مبتسرا تمت معالجته بصيغة منفصلة .. الخط الدرامى للمسلسل يتواكب مع الموسيقى التصويرية ويفلت من إسار الزمان والمكان مصحوباً ببورتريه بديع للعملاق «يحيى الفخراني» وعلى سطح لوحة التوال ونسيجه البكر غير المعالج .. تتجلى قسمات ونوس وتعبيرات وجهه ونظرات عينيه التى يتجلى فيهما عبقريته الفذة .. عين تحض على الشر تماماً والعين الأخرى تراوغ وتلاوع وتتدثر بقناع زائف من خلال لقطة واحدة كان الفخرانى يطعمنا يومياً من هذا القبس المشتعل فى جوانحه .. من كيان صاف متوهج بالفن إلى حد التلاشى والتصوف .. «والحلول» إذا أردنا كشف النقاب عن ونوس بحق. تتوالى الإيحاءات والدلالات الموسيقية لتمهد للحدث الدرامى العامر بكوكبة متناغمة من المبدعين .. كل فى دوره وحجمه وسمته .. ولا يصح الحديث عن «ابن آدم» أو فاوست (نبيل الحلفاوي) أو مفستوفليس (يحيى الفخراني) على عجالة فى مقال توقف مشدوهاً أمام تجليات الموسيقى التصويرية البديعة لهذا العمل المقتبس عن رائعة جوتة «فاوست».

حاز المسلسل على إعجاب المشاهدين .. وسيتمتع من لم يشاهده بصفاء المشاهدة عند إعادته بعيدا عن زخم رمضان الدرامي.

تبارت بعض أقلام النقد بتوجيه الملاحظات حول اختلاف القصة الأصلية عن المسلسل .. لكن من يراجع العمل أو يقرأه سيكتشف أن دور الشيطان «مفستوفليس» فى الرواية يشمل كل ظواهر الدنيا ولا يعيقه فى هذا أي تكليفات من فاوست أوغيره .. فهو يرى نفسه جزءاً من القسوة المخلوطة بالشرور وربما تصنع الخير (لغاية فى نفسه) وفى موضع آخر يتحدث عن شره وقوته السلبية التى تقف عائقا أمام الخير .. مفستوفليس ينفذ من بين الثغرات إذا استقر الخير فى النفوس .. ناقم على الإنسان وجهله وعدم تقديره لميزة العقل الذى انفرد به بين كل الكائنات .. مفستوفليس يجاهر بأن الوجود عبث ولذلك يحاول إنهائه على مراحل من خلال الاستفراد بالعباد .. أما شر الإنسان فهو من ذاته .. يئس فاوست من البحث والعلم وتاقت نفسه للهو والملذات .. هذا هو مفتاح الرهان بينه وبين مفستوفليس الذى أخبره أنه لابد من الاستعانة بالسحر لبلوغ تلك الآمال .. فما يرجوه من الصعوبة بمحال .. هى صناعة تحتاج للصبر وهذا ما لا يقدر عليه «مفستوفليس».



هكذا تتجلى الرواية الأصلية التى مصرها الروائى عبد الرحيم كمال باحتراف شديد .. فلم يفلت منه الإطار الفضفاض العام للرواية الذى يحتمل تخريجات عديدة بل إن الإغواء تضمن اقتراف الرذيلة وإطعام شيطان لإغراءات السلطة والجاه فى نفس مفستوفليس .. ومن خلال حوارات إنسانية بديعة وصفت بالمباشرة ولم تكن كذلك إلا لطبيعة المتناقضين ووضوحهما وما بينهما من متشابهات يعرفها الجميع (الخير والشر) الأبيض والأسود وما بينهما من برزخ لا يبغيان أبدا فى المعنى .. المباشرة فضيلة فى فاوست وفى ونوس بلا إدعاء .. تصاعد المنحنى الإبداعى للمسلسل حتى كدنا نصاب بمتلازمة «ستوكهولم» «تعاطف الضحية مع الجاني» .. ووقعنا فى غرام خاطفينا .. «الفخرانى وياقوتة وانشراحه وفاروقه ونبيلة وعزيزة ونيرمينه» رسائل إنسانية هادفة راقية لازمت هذا العمل الجميل والجليل الذى قاده المايسترو شادى الفخرانى .. برؤية واعية لم تترك شيئاً للصدفة.

وتتوالى نغمات الغواية .. توتر الأجواء .. وتمهد المشاهد على أجمل نغمة موسيقية اسمعها فى حياتى للركض تتفجر ايقاعات المجهول والقضاء والقدر وهم يتعقبوننا .. ويترصدوننا نحاول أن نستدير للخلف .. نسترق السمع من الآفاق .. من الماوراء تتصاعد الجوقة الاوركسترالية فى هديرها .. وتستشعر أنك تكاد تصاب بمتلازمة «داون» أو دودة الموسيقى التى يستعيد بها الإنسان ألحانه المفضلة ويسمع طنينها فى أذنه وتبقى فى ذاكرته تتوالى الوتريات .. ويطلق أمين بوحافة لنفسه العنان وتكتسح الجموع البشرية أذنه .. الموتى ينهضون من قبورهم .. «القارعة وما القارعة» .. «ترى الناس سكارى وما هم بسكاري» وميض الصاعقة يضئ الظلام الدامس .. صرخات الخوف والرعب والندم .. النائحات يتعالى صراخهن على المصير المحتوم .. وتتوالى خبطات النهاية لتحسم المشهد الموسيقى باليقين والحق والعدل والصمت .. خسر «مفستوفليس» الرهان وغضب ونوس لأن ياقوت مثل فاوست عاش عمره كله باحثاً عن النور ورحمة الله .. بالرغم مما اقترفه من ذنوب وآثام .. تتمنى سماع الموسيقى مرة أخرى واستعادة الرحلة .. ولكن هيهات فلا شىء يستعاد إلا الصدى الجميل فى الآذان .. أبدعتم وأسعدتم.

https://youtu.be/BWx1Yo4YMXg

لينك المقدمة الموسيقية لمسلسل " ونوس "

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق