من سنن الله فى خلقه أن أرزاق الناس متفاوتة، فالحياة لا تستقيم إذا كان كل من فى المجتمع من الأثرياء، ولا أن يكون جميعهم من الفقراء، وهذه بدهية معروفة ومفهومة ولا تحتاج إلى الشرح والإسهاب، ومن ثم فإن المساواة بين الناس تعد من الأمور النظرية التى لا وجود لها على أرض الواقع، وهو قول صحيح ينطبق على المجتمعات فى كل الدول على حد سواء وفى الأوقات، بيد أن (اللامساواة) يجب أن تتحدد تبعا لمعايير أخلاقية وعادلة تعتمد على العمل والأداء والكفاءة بعيدا عن الفساد والمحسوبية فضلا عن مراعاتها توفير حد الكفاية للجميع من ضرورات الحياة بمستوى إنسانى كريم، أى أن تكون (اللامساواة) فى مستوى الرفاعية لا أن تكون فى مستوى تلبية الحاجات الإنسانية الضرورية والتى تعتبر حقوقا للجميع (الأمن ـ السكن ـ التعليم ـ العلاج ـ حرية الرأي) .
لقد تداعت إلى هذه الخواطر عند قراءاتى لتحليل رصين نشرته «الأهرام» لكتاب الاقتصادى البريطانى أنتونى أتكنسون تحت عنوان (اللامساواة) وهو الكتاب الاقتصادى رقم واحد لعام 2015 ومن أهم الحقائق التى تضمنها مايلي:
أولا: تعد (اللامساواة) الآن ـ رغم وجود هذه الظاهرة منذ فجر التاريخ ـ المشكلة التى تهدد سلام الدول، أتمهم مواجهة فى الدول الديمقراطية قبل الحرب على الارهاب.
ثانيا: اللامساواة ليست فقط فى الرواتب والثروات ولكنها يجب أن تكون بين جميع أفراد المجتمع بلا تمييز ولاتفريق وأن يكون الجميع سواء أمام القانون، ليست مشكلة اقتصادية فقط، ولكنها مشكلة اقتصادية واجتماعية وسياسية فضلا عن كونها أخلاقية وانسانية.
ثالثا: كان تحقيق المساواة التى هى قاعدة (العدالة الاجتماعية) بمنزلة المطلب الرئيسى فى كل ثورات العالم فى العصر الحديث، وأعلن الرئيس الأمريكى باراك أوباما ورئيسة صندوق النقد الدولى كريستين لاجارد أن حل مشكلة تزايد اللامساواة يجب أن يكون له الأولوية فى برامج الحكومات إزاء مجتمعات الـ 1% الذين يملكون كل شيء والـ 99 % الذى لايملكون أى شيء.
رابعا: إن النمو لايخلق مساواة، ويجب عدم ترك الأمر لحرية السوق، فكل الشواهد تؤكد أن ثمار النمو ذهبت ـ خاصة فى العالم الثالث ـ إلى جيوب رجال الأعمال والفئات الأكثر ثراء، ومن ثم فإن تدخل الدولة لضبط الإيقاع وإعادة توزيع الثروة على أسس أخلاقية وإنسانية هو أمر جد مطلوب.
خامسا: إن اللامساواة هى القضية الأكثر خطورة فى المجتمعات المعاصرة وحلها، ممكن إذا حسنت النيات وتدخلت الحكومات بمخلتف ما لديها من وسائل المصلحة الغالبية من أبنائها.
سادسا: من الأهمية بمكان زيادة الاستثمارات فى التعليم ووضع برامج للتدريب وتنمية المهارات كآليات فاعلة لمحاربة عدم المساواة ومن ثم تجنب أى صراعات أو أحقاد بين أفراد المجتمع، ومن هنا فإن أنتونى أتكنسون فى كتابه المذكور يطالب بفرض ضرائب عاليه على الورثة الذين تأتى الثرورة لهم دون أى جهد أو عمل، وأكد نظرية الاقتصادى الفرنسى توماس بيكتى فى كتابه (رأس المال فى القرن الحادى والعشرين) الذى فند فيه مقولة من يدعون أن العدالة فى توزيع الثروة تتحقق تلقائيا مع النمو وتوسيع مساحات الرأسمالية، ولعل ما عانته مصر إبان العهد البائد من رأسمالية المحاسيب خير برهان على ذلك، فقد ارتفعت معدلات النمو إلى أكثر من 7% وقيل آنذاك إن ثمار النمو ستتساقط تلقائيا على الفقراء فإذا بالأثرياء يزدادون ثراء بينما ازاداد الفقراء فقرا، بعد أن استأثر الأثرياء بكل الثمار وحالوا بينها وبين الفقراء، وهو ما كان من بين الأسباب الرئيسية التى فجرت ثورة 25 يناير 2011 بشعاراتها (عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية ـ كرامة إنسانية) ومن المهم أن نعمل بدأب الآن وليس غدا على التصدى للتوزيع العشوائى غير العادل للثروة والفرص والمناصب الرفيعة بعد أن أصبحت إرثا يرثه قلة من أهل الثقة على حساب الآخرين.
د. محمد محمود يوسف
أستاذ بجامعة الإسكندرية
رابط دائم: