سقطت ورقة عمرهما، وفى لمح البصر دوّن اسمهما فى سجلات ضحايا «الدراجات النارية» لينضما إلى أقرانهما من الشباب الذين ذهبت أرواحهم فى حوادث الطرق بواسطة دراجات وصفها البعض بأنها وسيلة نقل إلى القبر.
وبالرغم من أن معظم منازل قرى بنى سويف تعج بالمصابين والمتضررين من حوادث «الموتوسيكلات»، فهذا لقى مصرعه، وآخر تكسرت عظامه، وغيرهما عجز عن الحركة، إلا أن شباب هذه القرى لا يستطيعون الاستغناء عنها، ولا يرون بديلا لهذه الوسيلة التى تساعدهم فى التنقل مع كل ما تحمله من أخطار.
محمد توفيق ابن قرية قمن العروس وصديقه محمد كساب ابن قرية كفر ابجيج التابعتين لمركز الواسطى كانا آخر ضحايا حوادث «الموتوسكيلات»، بعد أن لقيا مصرعهما فى أثناء عودتهما من زيارة صديقهما بقرية مجاورة، الاثنان ظروفهما تكاد تكون واحدة، فكلاهما لم يتعد عمره العشرين عاما، ويعملان فى طائفة المعمار، وتجمعهما صداقة امتدت لسنوات لم يفرقهما خلالها سوى الموت الذى جمعهما فى حادث واحد لتنتهى حياتهما معا.
فالشاب محمد توفيق حمل على عاتقه مسئولية الإنفاق على أسرته ومعاونة والده على قسوة الحياة وشظف العيش، فعمل فى مجال البناء، وكان يحلم بأن يبنى عش الزوجية وأن يرزقه الله بزوجة تكون له الونيس، إلا أن القدر لم يمهله حتى يحقق أحلامه، أما صديقه محمد كساب فعاش يحلم بالسفر إلى إحدى الدول العربية ويلتحق بفرصة عمل تعينه على مساعدة شقيقاته فى الزواج، ويشترى منزلا بعد أن ضاقت الأرزاق فى القرية، ولم يدر أن الأحلام التى كانت تراوده ستذهب هباء.
وفى اليوم المحتوم استقل الشابان دراجتين بخاريتين بصحبة زميليهما قاصدين منزل صديقهما الذى يسكن فى قرية مجاورة، وطالما ألح عليهما أن يزوراه فى منزله، وبعد أن فرغ الشابان من زيارتهما، حان وقت الرحيل، وكأنهما كانا يستعجلان على قدرهما، همّ الشابان لركوب وسيلة نقلهم إلى القبر، وبدأت رحلة العودة إلى المنزل الذى كتب عليهما أن لا يراه مرة أخري، وفى أثناء سيرهم بصحبة صديقيهما اللذين كانا يستقلان دراجة بخارية ويسيران بجوارهما فوجئوا بجرار زراعى يعترض طريقهم فحاول أحدهم تفادى الجرار إلا أن عجلة القيادة اختلت بيده فانقلبت الدراجة الأولى التى كانت تقل الضحيتان، فما كان من صديقيهما فى الدراجة الأخرى إلا أن ارتبك قائدها وانقلبت، وتطاير الأربعة ليسقطوا على الأرض، إلى أن تم نقلهم إلى مستشفى الواسطى المركزي، ليلقى محمد توفيق ومحمد كساب مصرعهما، ويصاب صاحباهما بكسور.
وأمام المستشفى كان المشهد أقسى من أن يوصف، حيث ترقد جثتا الشابين داخل مشرحة المستشفي، فى أجواء اتشحت بظلام الليل وخيم عليها الحزن الشديد وسط تعالى أصوات الصراخ والعويل من أهلهما وأصدقائهما الذين تراصوا أمام المشرحة ليلقوا نظرة الوداع عليهما.
وبكلمات تشق القلوب وتزلزل الوجدان صاحت والدة محمد كساب تبكى فراق نور عينيها، الذى مات قبل أن يكمل عامه العشرين، ولم تصدق أنها لن تراه ثانية، وستحرم من صوته الحنون وجلوسه مع أسرته لتناول الإفطار، حتى أنه حرم من ارتداء ملابس العيد التى اشتراها منذ أيام.
أما والدة صديقه محمد توفيق فقد أوجعت أصوات بكائها قلوب الحاضرين، وهى تحتسب ابنها عند الله، بعد أن تيقنت أنها ستحرم منه طوال عمرها، وحصدت «الدراجة النارية» روحه قبل أن يتزوج وترك لها حفيدا يحمل ملامحه وخصاله الطيبة حتى تقوى على فراقه.
وأمسى أهالى القريتين على هذا الحادث الأليم، وسيطرت حالة من الحزن الشديد عليهما، وفى مشهد مهيب خرج الأهالى مشيعين جنازة الشابين، وأعلنوا عن استيائهم عن حال مستشفيات بنى سويف التى يستشرى فيها الإهمال، وتكون مقبرة للمرضي، حيث يتقاعس الأطباء فى إسعاف المرضي، بالإضافة إلى افتقاد المستشفى للأجهزة الطبية اللازمة، ويقول محمد أبو السيد أحد أصدقائهما أن الاثنين كانا يتمتعان بخلق طيب، وحسن الطباع، ويشاء القدر أن يجمعهما فى الحياة والممات، ويبقى السؤال، دم هذين الشابين فى رقبة من؟
رابط دائم: