سيارات نقل تنتظر أمام حطام المنازل، تحمل على متنها أثاثا بسيطا متهالكا.. نسوة يقمن بتجميع ممتلكاتهن البسيطة من أدوات مطبخ وغيرها فى «أجولة» تمهيدا لتحميلها على سيارات النقل المنتظرة.. رجال وشباب يخلعون الشبابيك الخشبية والأبواب الحديدية، لعل بيعها يجلب لهم بضعة جنيهات، تعينهم على مواجهة ما سيصادفهم فى أيامهم المقبلة بعد الرحيل.
كان هذا هو المشهد الذى رصدناه على مشارف تل العقارب،تلك المنطقة العشوائية المقامة على تل حجرى يصل ارتفاعه الى 8 أمتار فى قلب حى السيدة زينب، ما بين شوراع السد وعين الصيرة والمدبح , وقد بدأ اخلاؤها من السكان خلال الأشهر القليلة الماضية، ومن المفترض أن تسلمها محافظة القاهرة لوزارة الإسكان فور الانتهاء من إخلاء المنطقة، لبدء تنفيذ مخطط التطوير، ثم إعادة السكان بعد بناء الوحدات السكنية الجديدة، خلال عام من الآن.
اقتربنا من الحطام ،فسرعان ما خرجت إلينا النسوة بأطفالهن، بينما وقف رجالهن بعيدا على استحياء يراقبون المشهد. لم يكن سعيدات للرحيل والسبب أنهن سيرحلن دون أن يحصلن على شقة بعد أن استبعدتهن المحافظة من الحصر، وعلى لسانهن جملة واحدة، يطلبن أن تصل الى الرئيس السيسي:« ولدنا وكبرنا وتزوجنا وأنجبنا وعشنا عمرنا فى تل العقارب ،فكيف استبعدنا موظفو الحصر، والمطلوب أن نخلى منازلنا الآن لهدمها.. ومصيرنا إلى الشارع ونحن فى الشهر الكريم!».
كريم – شاب فى العشرينات من عمره ويعمل محاميا فى بنك خاص- بدأ يحكى عن معاناتهم التى بدأت منذ أشهر عندما بدأ الحصر ثم إخلاء المنازل، فيقول:»عندما شكونا لرئيس الحى رد بأنه مجرد سلطة تنفيذية ،وفوجئنا بالأسلوب المتبع فى منح الشقق المؤقتة، إذ يتم توفير شقة لكل ثلاث أسر مثلا، وإذا وجدوا ٩ أسر فى أحد المنازل منحوهم خمس شقق». كريم لا يثق فى وعود الحكومة بإعادة السكان من جديد للمكان بعد تطويره، ويقول: سمعنا كثيرا عن التطوير ، فقيل تارة أننا سننتقل إلى مساكن فى 15 مايو، وتارة فى البساتين ، وتارة فى الأسمرات، وكانت هناك لافتات فى تلك المناطق كتب عليها أنها وحدات لسكان تل العقارب، ويتابع:» هناك سيدة مسنة تعيش بمفردها فى غرفة، ولم يعطوها الشقة التى تستحقها وأخبروها أنهم سيأخذونها للإقامة فى دار مسنين، ولم تتحمل الصدمة سوى ليلة واحدة، ورحلت عن الحياة!
تقطع الحديث راوية- أم لثلاث بنات وشاب- والتى استملت جواب الشقة بالفعل وتم تحميل ممتلكاتها على سيارة النقل، ثم فوجئت بهم يزيلونها ويخبرونها أنها لن تحصل على شقة، لأنها غير مستحقة ، وتتابع: «هناك من يصل إلى أكتوبر ثم يفاجأ بموظف الحى يخبره بعدم وجود جواب باسمه، والنتيجة أن أسرا عديدة تمكث الآن فى الشارع، بعد أن تم هدم منازلها فى «التل».
المستندات الرسمية
«راضيين بالقرف هنا بس مانترميش فى الشارع».. هكذا ترى شيماء التى أكدت أنهم قدموا كل المستندات الرسمية مثل جوابات صرف المعاش وفواتير الكهرباء التى تثبت أنهم مقيمون فى المكان، إلا أن الحصر لم يشملهم و هناك من دخل ضمن الحصر رغم أنهم مقيمون فى بنى سويف على سبيل المثال، وهناك من كان يمتلك غرفة أو شقة مغلقة منذ سنوات طويلة ، فجاء ليقيم بها فى فترة إجراء الحصر، رغم أن لديه سكن آخر وميسور الحال، وانطلت الخدعة على موظفى الحصر، ولا يعلمون أننا هنا نعرف بعضنا البعض جيدا، والغريب عن المكان نكتشفه فورا، وعندما شكونا من عدم حصولنا على شقة لأحد الموظفين ممن شاهد غرفنا وتأكد من معيشتنا بالمكان ، أجاب بأنه ليس صاحب القرار».. وفى أصوات متداخلة قال نفر من الملتفين حولنا:« الرئيس لا يرضى بأن نتعرض لهذا الظلم، ولا نعترض على أن نعيش حياة أفضل لكن أين هى بعد أن أصبح الشارع مصيرنا؟!».
تنفيذ دون تخطيط كاف
اصطحبنا حسين –39 عاما ويعمل جزارا بمجزر البساتين- لنرى أحد المنازل من الداخل، والمكون من طابق أرضى به غرفتان أمامهما بركة من مياه الصرف، ثم طابقين علويين بهما أربع شقق، يقود اليهما سلم نصف متهدم. حسين استلم منذ أيام شقة بأكتوبر لأسرته المكونة من زوجته وأربعة أطفال، ويرى أنه رغم نبل المقصد ،إلا أن الامر لم يحظ بتخطيط مسبق كاف، إذ تم كل شيء بسرعة دون دراسة كافية لظروف المنطقة وطبيعة معيشة السكان ،ومصادر رزقهم. فيقول: منذ أن تفتح وعيى وأنا أسمع عن التطوير، حيث كان جدى ومن ثم أبى من سكان المنطقة، لكن لم يحدث شيء على مدى سنوات طويلة، وفى بضعة أشهر يريدون الانتهاء من كل شيء» . وأشار إلى أن عددا قليلا من الأسر استلم وحدات سكنية فى أكتوبر.
يشير حسين أيضا إلى أن المشوار اليومى من أكتوبر حتى محل عمله بالمجزر يكلفه 14 جنيها، من أصل 40 جنيها يحصل عليها يوميا، ويفسر سبب تذمر الاهالى من تسليم ثلاث أسر شقة واحدة ، رغم أنهم هنا يعيشون فى شقة واحدة أيضا، ذلك لأنهم عندما سيعودون للمكان بعد تطويره سيحصلون على شقة واحدة أيضا، وبالتالى لا فرق بالنسبة لهم، بالاضافة إلى أنه يتصادف أن يقيم ثلاث أسر أو أسرتان من رجال ونساء فى ذات الشقة وهو أمر لا يجوز.
كريمة جاءت تهرول لتشكو أنها ولدت وعاشت هنا وعندما تزوجت انتقلت مع زوجى فى سكن آخر لكننا لم نتحمل الايجار المرتفع ، فعدنا من جديد منذ خمس سنوات على الاقل، واستقرينا هنا، فكان قرار الحى أنى لا استحق شقة، رغم أن اسمى كان مدرجا فى الحصر الذى تم فى عام 1998.
وتدخلت فى الحديث سيدة من التل لكنها غادرت منذ فترة، واستمر أخوها، الذى ورث المنزل عن الأب، وكان يحصل على دخل شهرى من تأجير شققه ، لكنه الان فى السجن يقضى عقوبة الحبس وسيخرج بعد عام، وعندما تقدمت هى بأوراقه بدلا عنه، فكان الرد: لما يبقى يخرج من السجن !
قرار إزالة
فى أثناء تنقلنا من حارة لزقاق ، التقينا رمضان الذى يعمل سائقا، وولد فى تل العقارب منذ أربعين عاما ولم يحصل على شقة رغم تقديمه كل المستندات التى تثبت أحقيته، من حجة ملكية البيت وبطاقة الرقم القومي، وتجولنا مع زوجته فى غرف المنزل، وقالت إن موظفى الحصر قالوا لها أن المكان مهجور، رغم أن به مظاهر معيشة واضحة. ويشير رمضان: المنزل صدر له قرار إزالة حتى سطح الارض فى عام 1992 ، ومن حقى أن أحصل على شقة بديلة، بغض النظر عن التطوير، والمكان بالفعل غير آمن واضطررنا لعمل صلبات من الخشب.
وحدة مقابل وحدة
كان لابد أن نطرح تلك الشكاوى على من يفسرها ويفندها، فتواصلنا مع خالد مصطفى –المتحدث الإعلامى لمحافظة القاهرة- الذى أوضح أن الحصر تم بمعرفة حى السيدة زينب ومباحث قسم الشرطة، مشيرا إلى أن المشكلة كلها تكمن فى أن الغرفة أو الشقة الواحدة قد يعيش بها أكثر من أسرة واحدة ، أى على سبيل المثال نجد الأب، يعيش معه أبناؤه ، ويكون أحدهم متزوجا ولديه أطفال فيكون المجموع أسرتين، لذلك عند الحصر أعتبر الشقة أو الغرفة بمثابة وحدة وبالتالى يحصل من فيها على وحدة فى المقابل، وليس شقتين، والمشكلة أنه أثناء الحصر، نفاجأ أن الغرفة أو الشقة امتلأت عن آخرها بعدد كبير من الأفراد، كل فرد يقول أنه يعيش هنا،وبالتالى يطالب بشقة ! ويتابع خالد : إذا كانوا يشكون من انتقال أسرتين لشقة واحدة، فهو فى كل الاحوال سيكون وضعا أفضل، فمن مكان لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار، سينتقلون للاقامة فى شقة, ولن يدفع فيها جنيها واحدا، سواء فى تلك الشقة أو فى الشقة الجديدة التى سيتسلمها بعد التطوير، والتى ستبلغ مساحتها 65 مترا.
الأمر الثاني- والكلام لخالد- : «البطاقة ليست دليلا دامغا على أن صاحبها يعيش فى العنوان المدون بها، وكثيرون يحتفظون بالعنوان رغم تغيير محل السكن منذ سنوات، وهنا تكون مهمة تحريات المباحث بأن يدخلوا المكان ويتأكدوا من أن الشخص يعيش فيه بالفعل».
خالد أوضح أنهم تعاملوا مع مواقف كثيرة مشابهة عند تطوير مناطق عشوائية أخرى فى زينهم والدويقة ، مؤكدا انه لن يترك أحد فى الشارع،و سيتم إيجاد حلول لكل المتظلمين ، ومن سيثبت أن له حقا سيحصل عليه.
خالد ذكر أنه تم حصر 530 أسرة تضم حوالى 4000 فرد، وحتى الآن تم نقل 247 أسرة إلى أكتوبر، وسيتضمن المكان بعد تطويره 650وحدة ، مع إنشاء وحدات تجارية بالأدوار الأرضية ، ومراعاة الطابع المعمارى للمنطقة التاريخية. وقال أن كل أسرة لديها الحق فى الاختيار ما بين البقاء فى أكتوبر أو العودة إلى المنطقة بعد انتهاء تطويرها.
من جانبها، أوضحت سعاد نجيب -رئيس الإدارة المركزية بصندوق تطوير المناطق العشوائية – أن الصندوق ليس له علاقة بعملية الحصر، وانما يقوم برصد احتياجات السكان قبل انتقالهم ، وبعد عودتهم إلى المكان الجديد، وهناك برامج اقتصادية واجتماعية سيستفيد منها السكان بعد العودة عقب التطوير، مشيرة الى أنه لن تكون هناك ورش سمكرة أو خراطة كما فى الوضع الحالي،وهو ما يستوجب تغيير نشاط العمل أو الانتقال للعمل فى مكان آخر، أما بالنسبة لمشاكل المواصلات لمن انتقل إلى أكتوبر،فأوضحت أن هناك أتوبيسات مجانية تابعة للنقل العام تطلق خمس رحلات ذهابا وخمس إيابا على مدار اليوم.
رابط دائم: