التحولات السياسية التى تشهدها أمريكا اللاتينية فى السنوات الأخيرة والتى تحركها الأحزاب والحركات اليمينية المدعومة من إعلام طبقة رجال الأعمال وجماعات المصالح، أو ما يسمى بالطبقة البرجوازية،والتى تدعو إلى إحداث تغيرات جذرية والتخلص من الحكومات التقدمية تجلت بشكل واضح فى الفترة الأخيرة .
حيث طبقة النخبة و الأثرياء لم تكف عن الدعوة والعمل لإحداث التغيير عبر آليات جديدة. ولكن هذه المرة ليس عبر انقلابات عسكرية ولا انتفاضات شعبية بل الآلية الآمنة والمتاحة الآن هى السيطرة على القضاء والبرلمان، حيث اقتران المال السياسى بالدعم السياسى.. أى التغيير الناعم عبر المؤسسات المدنية.
ورغم أن الحكومات التقدمية التي ظهرت فى الفترة الأخيرة لم تكن ثورية بشكل اقصائى حيث لم تخاصم رأس المال أو تتجنى على رجال الأعمال بل اضطرت إلى تشكيل ائتلافات حكومية أحياناً مع بعض الأحزاب المحسوبة على يمين الوسط، حتى تستطيع التعامل مع المؤسسات والمصارف المالية العالمية مراهنة فى ذلك على ما يسمى الاشتراكية الديمقراطية أو الديمقراطية الاجتماعية فى إطار رأسمالية الدولة وليس رأسمالية جماعات المصالح، ولكن انجرف بها الحال عبر الآلية الجديدة لعملية التغيير التى دبرها اليمين لتقع تحت سيطرة الطبقة التى ترى فى الليبرالية الجديدة طوق النجاة لتحقيق مصالحها والتي هى فى الحقيقة ليست إلا ديكتاتورية رأس المال .
في فنزويلا، كانت عملية التحول إلى اليسار أكثر قوة خلال فترة حكومة شافيز، فالنخبة هناك لم تكف عن إثارة الأوضاع بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية حسب وصف الحزب الحاكم فى كاراكاس، وتوجت المؤامرة بانقلاب عام 2002، والذى رفضه الشعب وأعاد شافيز إلى الحكم بعد يومين فقط، اليوم ومع مادورو، تحتدم المعركة بشكل عنيف والإنتصارات تتوالى لليمين بعد سيطرة كتلة المائدة المستديرة للتجمع الديمقراطى على المجلس التشريعي بأغلبية كبيرة فى ظل حكومة ترتكب الكثير من الأخطاء.
تدفع فنزويلا الآن ثمن السياسات الاقتصادية الخاطئة والمتراكمة عبر السنوات الأخيرة، حيث ضعف الاستثمارات وتراجع أسعار النفط، وأصبح لدى شركات البترول الفنزويلية ديون تصل لـ 46 مليار دولار وديون تجارية تصل إلى 35 مليار دولار، بالرغم من أن فنزويلا من أكبر الدول المصدرة والتى لديها أكبر احتياطات النفط فى العالم.اضف إلى ذلك إنهيار العملة المحلية أمام الدولار، وزيادة الجريمة بشكل غير مسبوق، وتراجع الخدمات الصحية والتعليمية، فضلا عن زيادة الأسعار بشكل مطرد ،مما حدا بالمعارضة لتجمع توقيعات بهدف الدفع إلى استفتاء على اقالة الرئيس نيكولاس مادورو الذى بدوره فرض الطوارئ فى البلاد، وتنتظر فنزويلا نجاح مساعى رئيس وزراء إسبانيا السابق خوسيه ثاباتيرو ودعم دول أمريكا اللاتينية لإحداث مصالحة بين الحكومة والمعارضة لوقف الوضع المأساوي فى البلاد.
إن ما يحدث الأن يتمثل فى أن الطبقة الرأسمالية في أمريكا اللاتينية لا يمكن أن تتحمل او تتخيل أن تخسر أى من جولات الصراع نحو السلطة ، وأفضل مثال لذلك كان في عام 2009 فى هندوراس عندما قام مانويل زيلايا بالسعى لتحقيق بعض التعديلات الطفيفة التى تشمل الفقراء من خلال اتفاقيات مع فنزويلا، و قد تم أفشال تلك الأعمال من خلال انقلاب قضائي حينذاك، وأصدرت إدارة شئون التحقيقات فى هندوراس أمر باعتقال الرئيس، زاعمة فى ذلك بأنه كان من الضرورى حبس زيلايا لتجنب إخفائه وثائق ومستندات اعتبرتها النيابة العامة فى غاية الأهمية فى قضية الرئيس، وتجنبا لفراره خارج البلاد.
ما حدث فى هندوراس وتم تنفيذه هو الإطاحة بالرئيس زيلايا بسبب أنه أراد ان يعرف رأى الشعب فى إقرار دستور جديد للبلاد ولاحقا حدثت انتخابات رئاسية جديدة بدون مشاركة من اليسار، رغم كونها غير شرعية فقد حظيت بموافقة المجتمع الدولي بأسره.
شهد عام 2012 انقلابا آخر جديدا على حكومة تقدمية في أمريكا اللاتينية، و لكن هذه المرة كان الدور على باراجواى ضد الرئيس فرناندو لوجو، والذي تقدم على استحياء للمناقشة مع المزارعين حول قوانين للإصلاح الزراعى، فتم مقابلة مشروعة بالرفض، وواجه عنفا شديدا من اليمين فى باراجواى، الذي يرفض فقدان أي من الامتيازات التى حصل عليها عبر التاريخ و تم اتهامه لاحقا من قبل القضاء بأنه المسئول عن مجزرة حدثت للفلاحين، والجديد هو أن هذه العملية استغرقت أقل من 24 ساعة، فقد أعطت دائرة مجلس الشيوخ في باراجواى محامى الرئيس أقل من خمس ساعات للدفاع وتم إجراء تصويت سريع ومنظم بدون أى دليل على وجود أخطاء ارتكبها الرئيس، وكانت النتيجة عزل فرناندو لوجو، وتبع ذلك إنتخابات جديدة وعاد اليمين إلى السلطة، بدون أي مقاومة من اليسار.
اليوم، البرازيل تعيش قصة مماثلة، فبناء على اتهامات و مزاعم أدلى بها أشخاص وإقرارات منظمة بدون أدلة حقيقية و ملموسة، تسير فى اتجاهين : الاتجاه الأول محاولة اليمين إدانة الرئيس السابق لولا دا سيلفا فى قضايا فساد لإنهاء آماله فى الترشح المحتمل لانتخابات 2018.
الاتجاه الآخر هو البرلمان، من خلال قبول طلب الاقالة وسحب الثقة من الرئيسة ديلما روسيف، وأيضا بناء على إتهامات سماعية من خلال شهود ، بالتواطؤ فى عمليات فساد بدون اى دلائل، ومزاعم مكذوبة حول التلاعب فى الحسابات العامة للدولة ومخالفة قوانين الميزانية.
إن ما فعله حزب العمال من تطبيق لسياسات سمحت بدخول الفقراء إلي منظومة الاستهلاك والهروب من الجوع المزمن يعد خطوة مهمة للغاية، فقد تم تأهيل الملايين من طلاب المدارس العامة من الفقراء للدخول للجامعات، وتم إنشاء 13 جامعة جديدة، بالاضافى إلى برنامج منحة الأسرة، وبرامج العمل الكامل، والفقر صفر، والنور للجميع بالإضافة إلى سياسات الأمن الغذائى والزراعة الأسرية، والمطاعم الشعبية وبرنامج الاسكان الإجتماعى ومنح الثقافة والرياضة للجميع، والعديد من البرامج الأخرى والسياسات التى على الرغم من استخدامها جزءا ضئيلا جدا من إجمالى الناتج المحلي إلا انها أوجدت فرقا فى مستوى معيشة الملايين من البرازيليين.
كل هذا ساعد على سهولة حشد المواطنين فى المظاهرات من جانب اليسار والتى أظهرت و أثبتت للقائمين على عزل روسيف أنه على الرغم من وقوف القضاء والبرلمان بجانبهم إلا أنه لا يزال هناك أغلبية شعبية استفادت من حكومات حزب العمال مكتسبات اجتماعية لأول مرة فى التاريخ وبالتالى هى على استعداد للوقوف ضد عزل روسيف ، فخلال التعبئة الأولى لليمين كانت هناك حالة من الابتهاج، فليس من الشائع فى البرازيل أن تقوم طبقة النخبة الثرية بالنزول إلى الشوارع في مظاهرات، ولكن كان هناك عدد أكبر من المؤيدين لروسيف وحزب العمال .
رد فعل رؤساء الحكومات اليسارية فى أمريكا اللاتينية على عزل روسيف كان سريعا لما تمثله البرازيل باعتبارها أكبر دول القارة من ثقل كبير فى التوازنات السياسية، حيث تمت إدانة ما حدث وتم سحب السفراء للتشاور. هذا التحرك كان هدفه قطع الطريق على اى موجة جديدة من التحولات نحو اليمين، خاصة وأن دولة كبرى مثل الأرجنتين قد حسمت أمرها وفاز مرشح اليمين ماوسورو ماكرى فى الانتخابات الرئاسية أواخر العام الماضى الذى أعلن منذ اليوم الأول عن سياساته اليمينية سواء اقتصادياً أو سياسيا، منها تحرير سعر الصرف، والسعى إلى خفض الإنفاق العام وإلغاء الدعم على الكهرباء و المياة والغاز.
ووعد أيضا بتحول في السياسة الخارجية الأرجنتينية، لتكون سياسة جديدة من أولوياتها السعى لاستئناف العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا، و مراجعة نهج الارجنتين مع الصين وروسيا، الشركاء الأستراتيجيين للبلاد فى عهد كيرشنر، بالإضافة إلى العمل على ذوبان الجليد مع بريطانيا.
لكى تكون الصورة أكثر وضوحاً نعود إلى آراء المفكر العالمى نعوم تشومسكى ، والمحلل السياسى البارز مونيز بانديرا اللذين أوضحا خلال تحليلات سياسية سابقة أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع نظام الحكم فى البرازيل فى ظل حكومة حزب العمال التى تؤسس مشروع استقلال القرار الوطنى فى أمريكا اللاتينية، إضافة إلى أنها أحد مؤسسى تجمع البريكس الذى يقف عائقاً أمام الليبرالية الجديدة، وينتقد سياسات مؤسسات صندوق النقد والبنك الدوليين، مما سبب قلقا كبيرا للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
وفى كتابه «الحرب الباردة الثانية - الجغرافيا السياسية والولايات المتحدة.. البعد الاستراتيجي» يقول ألبرتو مونيز بانديرا، «أن الولايات المتحدة لديها كيفية فى تحقيق مصالحها، ليس فقط من خلال وكالة المخابرات المركزية بل أيضاً عن طريق المنظمات غير الحكومية الممولة من المال الرسمي وشبه الرسمي باسم الوكالة الأمريكية للتنمية، والوكالة الوطنية من أجل الديمقراطية، وأيضاً عن طريق شراء الصحفيين وتدريب الناشطين». أنها خريطة جديدة للبنتاجون تحت مسمى «الحرب والسلام» يتم وفقاً لهذه الخطة التركيز على أشكال زعزعة الاستقرار السياسى والاقتصادى والاجتماعى من خلال وسائل الإعلام والصحف والشبكات الاجتماعية ورجال الأعمال وتسلل النشطاء.
رابط دائم: