يعد ديفيد روبرتس أشهر الفنانين البريطانيين الذين سحروا ألباب الناس بلوحاته عن مصر في أربعينيات القرن التاسع عشر, وربما يري المرء منا إبداعاته الفنية في أي مكان يرد فيه اسم مصر, فلا تجد مكتبة أو جامعة أو هيئة أو إدارة أو قصرا أو متحفا يرتبط بمصر إلا و تجد فيه لوحات روبرتس التوثيقية لمصر القرن التاسع عشر, ناطقة بوجوده الفني, ومعبرة أبلغ تعبير عن أثره في الاستشراق الرومانسي عن مصر.
وقد قامت الجامعة الأمريكية بالقاهرة بإصدار طبعات متعددة من لوحاته, وكذلك ضمتها في مجلدين فاخرين باسم لوحات ديفيد روبرتس لمصر و النوبة و بيت المقدس. وبمناسبة احتفالات مصر بذكري تحرير سيناء, فإن الأهرام تنشر بعض لوحاته عن جنوب سيناء التي توقف فيها خلال رحلته من مصر إلي القدس لرسم أشهر معالم الشرق الأدني, بالإضافة لسرد موجز لسيرته لتعريف القاريء المصري به الذي ربما يعرف عنه النذر اليسير.
ولد الرسام الاسكتلندي ديفيد روبرتس في أدنبرة يوم24 أكتوبر عام1796 وهو ابن الإسكافي جون روبرتس. وعند بلوغه عمر عشر سنوات أرسله والده للعمل لدي جيفين بويجو وهو مصمم ديكور ورسام, والذي ظل ديفيد يعمل لديه لمدة سبع سنوات. وفي تلك الفترة كان يدرس الفن في مدرسة ليلية. وبعد انهاء دراسته انتقل إلي مقاطعة بيرث الاسكتلندية ليعمل في اول وظيفة له يتقاضي عليها أجرا ماديا في صيف عام1815, وهي وظيفة كبير عمال الديكور والطلاء لتجديد قصر سكاون هناك. ثم عمل بعد ذلك كمصمم للديكورات واللوحات الجدارية في سيرك جيمس بانيستر والتي كانت بداية عمله كمصمم للجداريات, وسافر روبرتس مع هذا السيرك في جميع أنحاء انجلترا حتي عاد إلي أدنبرة عام1817, ومنذ ذلك العام حتي عام1820 عمل كمصمم للديكورات والخلفيات المسرحية في مسارح البانتيون بأدنبرة و المسرح الملكي بجلاسجو و مع مصمم الديكور جون جاكسون وتزوج من ممثلة مسرحية اسكتلندية و أنجب منها ابنته الوحيدة كريستين عام.1820 ثم تفرغ بعد ذلك تماما للعمل في وظيفته التي خلدت اسمه في عالم الفن, وهي رسم اللوحات الزيتية, وبدأ يبيع لوحاته للمناظر الطبيعية و القصور الشهيرة وانتقل إلي لندن عام1822 للعمل كرسام وكمصمم للديكورات المسرحية في المسارح الشهيرة بلندن.وفي عام1824 عرضت لوحاته للكنائس والمباني الانجليزية الشهيرة في متحف المعهد البريطاني وفي جمعية الرسامين البريطانية مما جلب له سمعة هائلة في عموم بريطانيا, وشجعه ذلك علي رسم المباني الشهيرة في فرنسا وهولندا وبلجيكا وانتخب رئيسا لجمعية الفنانين البريطانيين عام.1831 ثم زار أسبانيا وطنجة من عام1832-1836 حيث رسم ألبومه الشهير بعنوان مناظر طبيعية أسبانية والذي تضمن لوحات للكاتدرائيات الشهيرة في مدريد.
زيارته لمصر وبيت المقدس
بعد عودة روبرتس من لندن, حثه صديقه ج. و.تيرنر علي السفر إلي مصر, والتي كانت نصيحة خلدت اسم روبرتس في ميدان الاستشراق. أبحر روبرتس من لندن إلي مصر يوم31 أغسطس1838 وعاد من رحلته هذه إلي لندن في16 مايو1839, وخلال ذلك العام قام بزيارة الاسكندرية والقاهرة والصعيد والنوبة وشبه جزيرة سيناء والقدس والأردن ولبنان, حيث رسم في تلك الفترة الوجيزة عشرات الاسكتشات الرائعة والخالدة عن تلك الأماكن ومعالمها, وضمها في كتابه الشهير مناظر من مصر والنوبة والشرق الأدني الذي أشرنا إليه في بداية هذا المقال. ولما سمع به محمد علي باشا, قابله في الاسكندرية يوم16 مايو1839, أي قبل استقلاله للسفينة العائدة إلي لندن مباشرة, وصور ديفيد روبرتس تلك المقابلة في المجلد الثالث من مجموعته عن مصر والنوبة, وقد قامت الملكة فيكتوريا بشراء مجموعته الكاملة ومازالت موجودة في مجموعة المقتنيات الملكية بقصر باكنجهام بلندن.
قام روبرتس بعد ذلك بزيارة إيطاليا وفينيسيا عامي1851 و1853, والتي نشر مجموعته عنها عام1859 باسم مناظر طبيعية وتاريخية من إيطاليا كان روبرتس في السنوات الأخيرة من عمره مشغولا برسم سلسلة من المناظر الطبيعية والمباني في لندن علي امتداد نهر التيمس. وأنهي رسم ستة منها, إلا أن القدر فاجأه وأصيب بإغماءة في شارع برنر بلندن بعد ظهر يوم25 نوفمبر1864, وهو يرسم لوحته عن كنيسة سانت بول, ونقل إلي منزله حيث توفي في مساء ذلك اليوم نتيجة لأزمة قلبية. دفن ديفيد روبرتس بمقابر ويست وود بلندن بعد أن أثري الحياة الفنية و الدراسات الاستشراقية و الأثرية عن مصر بلوحاته الثمينة. والتي قال عنها الدكتور ثروت عكاشة في كتابه مصر في عيون الغرباء: تتميز لوحاته بالدقة والتؤدة كما تتجلي فيها موهبته كرسام يحسن توزيع الكتل, إذ كان علي جانب كبير من الحس بنسب التكوين في الصورة, كما كان بارعا في إخضاع الجزئيات للكل دون أن تفقد لوحاته شيئا من تراثها. وكان يتمتع بقدرة بصرية نادرة تمكن بها من أن يصور ضعف ما قام به أي مصور آخر و بنصف الجهد المبذول.
رابط دائم: