منذ نحو ثمانية عشر عاما نشبت فى مصر والعالم العربى معركة نقدية حامية الوطيس، إثر إصدار د. عبدالعزيز حمودة كتابيه الشهيرين «المرايا المقعرة» و«المرايا المحدبة: من البنيوية الى التفكيك» صابا جام غضبه على حاملى لواء الحداثة فى العالم العربي. وحينها تصدّى د. جابر عصفور لحمودة وانتقده، ثم ما لبثت المعركة أن وضعت أوزارها... ولو إلى حين.
الناقد د. أحمد درويش, الأستاذ بدار العلوم جامعة القاهرة، والحاصل على الدكتوراه فى الآداب من جامعة السوربون بباريس, والعربى المعتز بالأًصالة والحداثة معا, يؤرّقه ما آلت إليه أحوال الثقافة عندنا عامة، وأحوال النقد الأدبى خاصة. ومنذ أسابيع أصدر كتابا فى نقد الحداثة العربية, بعنوان «النص والتلقى: حوار مع نقد الحداثة», يثير فيه الكثير من القضايا الأدبية والنقدية الجديرة بالنقاش معه عنها، ومحاورته فيها:
أين بالضبط توجه مشرطك الجراحى النقدى فى عملك الأخير؟
{{ هو نقد للنقد، باعتباره فى الأصل فكرا إنسانيا يحاول أن يضيف قواعد علمية من ناحية، ومذاقا شخصية من ناحية ثانية، ويستجيب للمناخ اللغوى والثقافى المحيط به. والنقد بطبيعته قابل للتطور، بل واجب التطور, وإلا أصيب بالجمود، وهو ما جعل موجات النقد فى العالم الغربى تتوالى وتتوازى، وأحيانا تتناقض، ويتولد عن هذا التناقض اتجاه جديد, ابتداء من دعوة دى سوسير فى أوائل القرن العشرين الى جعل اللغة علما، ومن ثم جعل النقد المنبثق عنها علما، وصولا الى دعوات دريدا التفكيكية فى أواخر القرن، الأمر الذى جعل من المنتج النقدى فى مجمله صورة لتطور الفكر الانسانى والانتاج الأدبى واختلاف مذاقاته على مدى قرن.
أما عندنا فغالبا ما نطلق صرخة ما نقدية وتكون مبهرة ونتعلق بها، ويمضى الزمن عليها فتتغير فى أماكن أخرى، ونحن نظل متعلقين بها، بعد أن تفرغ من محتواها وموقفها الفلسفى والفكري، ونظل نحن متعلقين بهيكلها العظمى. الأغرب أن الذين يلتزمون بها من رواد الأخذ بالفكرة يتابعهم غيرهم غير واعين فى كثير من الأحيان بالتفاصيل الدقيقة والأسس الفلسفية وعلاقة التنظير النقدى بالإنتاج الأدبي. وتقل درجات الوعى بها جيلا بعد جيل حتى نقع فى (تقليدية الحداثة) التى هى ليست أقل سوءا من (تقليدية القَدامة) التى بدأت حركات التجديد فى الثورة عليها.
وكيف ترى المخرج من هذا المأزق؟
{{ علينا تلمُّس أسباب تفاقم المشكلة, وأولها فى ظنى أن كثيرا من الذين يدخلون فى صناعة النقد الأدبى لا يعترفون اعترافا حقيقيا بأنه علم وتخصص, كالطب والهندسة والاقتصاد، ينبغى ألا يخوض فيه من ليس مؤهلا له.
للأسف أصبح النقد صناعة من لاصناعة له وتلك هى المشكلة الأولى.يجب علينا أن ندرك الفرق الجوهرى بين ما يسمى فى علوم النقد (شكل الشكل) و(معنى الشكل).
العيب الواضح عندنا, خاصة فى الرسائل الجامعية, هو القناعة باستيعاب شكل الشكل هذا، وملء صفحات رسالة أو كتاب بمجموعة هائلة من المصطلحات والجداول والرسوم البيانية وترديد أسماء أصحاب المذهب الأدبى دون خلوص حقيقى لاستيعاب معنى الشكل ومحاولة تطبيقه على واقع أدبى تطبيقا هو ليس مجرد محاكاة أو ترديد للمصطلحات، ولكن ادراك لجوهر النص وما يحتاجه من وسائل نقدية لإلقاء الضوء عليه.
والعيب الثانى؟
{{ الانطلاق من الشكل الذهبى النقدى الى النص المدروس وليس العكس. مثلاً أن يقرر باحث ما أو ناقد ما تطبيق السيميائية أو التداولية أو الحجاجية أو الشكلانية أو البنيوية على انتاج كاتب ما حتى ربما قبل أن يقرأه، فيشكل من هذه الأدوات ما يشبه (الباراشوت) ويهبط بها على النص، فيلوى عنقه ليحقق فرضيته ويملأ صفحات بحثه بمصطلحات المنهج الذى اختاره، ويعتقد أنه أرضى بذلك نفسه، وأبهر قراءه دون أن يسأل نفسه سؤالا بسيطا :
{ هل أصبحت أدبية النص بعد هذه القراءة أكثر جلاء وإمتاعا؟!
{{ وذلك يقود الى العيب الثالث، وهو الخلط بين (الأدبية) و(الأدب) والاكتفاء غالبا بالأولى: التى تعنى فى عرف النقاد المعاصرين فى الغرب الوسائل التى يصير بها الأدب أدبا, وهو أفكار نظرية. فهم يأخذون الشق الأول، فإذا ما وصلوا الى الشق الثاني, وهو النص نفسه, الذى لم ينطلقوا منه أساسا, يكون الإعياء قد أصابهم، و الرضا قد ملأ نفوسهم بما نالوه من الشق الأول، وعلى القارئ أن يذهب بحسرته جراء تلك القراءة النقدية المتعسفة.
هل لديك أسباب أخرى؟
{{ طبعاً. نظرتنا للحداثة ولدت بمعزل عن الظروف التاريخية التى أحاطت بنشأتها فى الغرب. مثلا مذاهب العبث والدادية والسريالية التى ولدت تاريخيا أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية منطلقة من الصدمة الكبرى التى حلّت فى نفوس شعوب بلغت بالعلم والعقل مداه، وقادها هذا المدى الى عصر الصناعات الضخمة فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وحتى منتصفه, تلك الاسلحة الفتاكة التى دمرت العالم، فكان رد الفعل عند هذه الشعوب كراهية مؤقتة للعقل والتنظير ورغبة فى العلو عليها والرجوع الى العفوية والسريالية والدادية ومسرح العبث واللامعقول.
فهل تنطبق هذه الظروف العقلية والثقافية على شعوب لازال ثلاثة أرباعها من الأميين، ولا يزال حظها من العلم والإنتاج شبه معدوم؟!
وهل لدى ناقدنا اليوم الذى يتبنى تطبيق هذه المذاهب نفس البواعث من ناحية أو نفس درجة النضج فى العلوم المساعدة من ناحية أخرى؟
وماذا أيضاً؟
{{ تبقى قضية هامة وهى طبيعة اللغة وأهمية أن يكون الناقد نفسه مسيطرا على المادة الخام التى يتعامل بها مع النص، لا أن يكون النص نفسه مسيطرا على المادة التى يبنى بها أدواته.
إن عدم إدراك (فقه اللغة) التى يتم بها بناء النص هو الذى أحدث هذه الربكة الكبرى، لدى الأدباء الذين يبنون، والنقاد الذين يحللون.
هل لدينا حقا كل هذه الكوارث النقدية - او لنقل هنا «النقلية» مادمنا فقط «ناقلين»؟
{{ للأسف. وتأتى كارثة الختام فى عدم إحكام الربط بين الجانبين الرئيسيين فى العمل الأدبي، وهما النص والتلقي، أى ابداع الأديب وإبداع الناقد. وهما فى واقع الأمر أشبه بطرفى الدائرة الكهربائية السالب والموجب، لا تتم الإضاءة الا من خلال الاتصال الصحيح بينهما، وإذا حدث فصل كما يحدث الآن من ناقد يهتم بشكل الشكل، وينطلق منه ويفصله دون أن يتلامس تلامسا حقيقيا مع الطرف الآخر فى النص أو النصوص التى يعالجها،فإذا لم يتم التواصل بين هاتين الدائرتين أو هذين القطبين، سينتج ما أطلقت عليه (الطنطنة النقدية) أو (الطنطنة الأدبية) وهى للأسف متوافرة عندنا بقدر لا بأس به.
وهل تعمم هذا الحكم على نقدنا كله؟
{{ لا, بالطبع هناك استثناءات من نقاد واعين استطاعوا أن يحدثوا توازنا بين مواكبة التقدم فى علوم النقد فى الغرب، مواكبة حقيقية من خلال التماس مع اللغات الأصلية، لا من خلال قراءة الترجمات المشوهة غالبا، هؤلاء النقاد استطاعوا ان يحسنوا التواصل مع نصوص الإبداع العربية القديمة والحديثة انطلاقا من قراءة مباشرة لا من التسليم بشائعات مروجة. إن القارئ محتاج إلى مثل هؤلاء: إلى طبيب عالم مؤهل متذوق يلقى الضوء على صفحات الكتاب ليرى، لا على حدقة عينيه، فيتخبط ويصاب بالصداع أو العمى.
كيف تلخص تشخيصك فى كلمات قليلة؟
{{ ليس من المعقول أن يكون النشاط النقدى والأدبى فى أمة محتاجة إلى النهوض نشاطا مجانيا تجريبيا طيلة نصف قرن، ينبغى أن يكون هذا النشاط ذا صلة بالواقع لكى يأخذ بيده، وينبغى أن يكون ذا قدرة على نقد نفسه بنفسه لكى يتطور، لكن التكلس حول الذات وعدم النظرة الواسعة لنتائج التراكم عمل على تضييق دائرة المهتمين بالنقد الأدبي, وترتب على ذلك تضاؤل دور الأدب فى تشكيل الذائقة الحضارية والوعى الثقافى العام، وأصبح مرجع المثقف العام عندما يستشهد بمرجع حول قضية ما فيلم سينمائى أعجبه أو نكتة فى مسرحية شاهدها، ونادرا ما يستشهد بكتاب أدبى عظيم أضاءه له ناقد متخصص.
أضف إلى تلك الأسباب «الشللية» والمجاملة فى الوسط الثقافى والأدبى خصوصا فى أجهزة الاعلام، وتحكم الهوى الذى يضل دائما.
رابط دائم: