أوروبا قبل هجمات بروكسل لن تكون هي أوروبا بعدها !لا يحتاج المتابع للمشهد السياسي في هذا البلد الصغير الهادئ الذي يضم مقرات الاتحاد الأوروبي و حلف الناتو إلى الكثير من الجهد ليصل إلى تلك النتيجة .
و لا تزال التحليلات عالميا تتوالى لمعرفة أين يكمن بالضبط الخطأ الذي أوصل القتلة الى العصب العاري لرمز وحدة أوروبا حيث ضرب الإرهاب عقر دارها و على بعد خطوات من المفوضية الأوروبية والبرلمان و المجلس الأوروبيين ! و يبدو أن أوروبا تدفع فاتورة ما يمكن أن نسميه “ وصول الذئاب المنفردة الى قلبها النابض “ حسب النظرية التي باتت تشكل قناعة كثير من الخبراء في مجال الأمن و مكافحة الإرهاب .
ويشير مصطلح “ الذئاب المنفردة “ إلى تكتيك تستخدمه التنظيمات الإرهابية عندما يتم تضييق الخناق عليها أمنيًّا، ويعني قيام شخص أو مجموعة، لا يخضعون لها تنظيميًّا، ولكن يؤمنون بأفكارها، بالتخطيط والتنفيذ لبعض العمليات الإرهابية استنادًا إلى إمكاناتهم الذاتية، ليقوم التنظيم بإعلان تبنيه للعملية فيما بعد ، وهو ما حدث في تفجيرات العاصمة البلجيكية بروكسل .
و يرى خبراء أمنيون أن نجاح التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي تقوده أمريكا في إحكام قبضته على تنظيم داعش ، زاد من اضطراره إلى اتخاذ موقع الدفاع والحرص في الوقت نفسه على البقاء في الصورة، اعتمادًا على “الذئاب المنفردة” التي اقتنعت وتبنت أفكاره دون أن تنخرط في صفوفه.
وكان التنظيم قد استنفر ذئابه المنفردة قبل 3 سنوات في بيان أصدره في سبتمبر من عام 2013، أبو محمد العدناني، المتحدث الرسمي باسم التنظيم حينها، حيث دعا فيه إلى استنفار أي مقاتل أو نصير أو موحّد، استعدادًا لمواجهة التحالف الدولي الذي وصفه بـ “الحملة الصليبية”.
ووجه التنظيم – مؤخرًا – تعليمات لذئابه المنفردة، دعاهم فيها إلى الانسجام في الحياة الغربية، حتى يتمكنوا من التخفي عن السلطات . وحسب تقارير استخباراتية، فإن قيادة داعش أصدرت كتيبًا إرشاديًّا، من 58 صفحة، تضمن بعضا من هذه التعليمات، ومنها حلق اللحى، الابتعاد قدر الإمكان عن ارتياد المساجد، حتى يتمكنوا من التخفي عن السلطات الأمنية .
وتضمنت التعليمات ارتداء الساعات والذهب، وارتياد النوادي الليلية والحانات والحفلات الموسيقية لعقد اجتماعاتهم ومناقشة العمليات ورصد الأهداف، حتى لا يثيروا انتباه السلطات كما أرشدتهم التعليمات إلى استخدام العطور الكحولية والابتعاد تمامًا عن استخدام العطور الزيتية المعروفة عن المسلمين، مثل المسك ..
ويختتم الكتيب نصائحه وتعليماته للذئاب المنفردة: “لا داع لاستخدام التحية الإسلامية المعروفة، وغيرها من الجمل اللافتة للانتباه، مثل عليكم السلام وجزاك الله خيرًا وبارك الله فيك”. و اذا انتقلنا من المستوى الاوربي الى البلجيكي ، نلاحظ أنه رغم اقتراب حزب «تجمع المصالح الفلامانية» من الوصول الى الأغلبية فى الانتخابات الأخيرة التى شهدتها بلجيكا فى مايو 2015 إلا ان الأحداث الإرهابية التى تشهدها المملكة الوادعة تؤكد اقتراب نهاية سيطرة اليمين على الحياة السياسية وخاصة بعد الفشل الذريع الذي شاب أداء وزيري الداخلية والعدل بل وصل الأمر الى مساعي الوزيرين للقفز من السفينة إلا أنهما اصطدما برفض استقالتهما من قبل الملك ورئيس الوزراء. و ما زاد الطين بلة رفض رئيس الحزب الحاكم بارت دو ويفر التعليق على التجمعات التي نظمها 500 من المشاغبين والخارجين على القانون وكذلك العناصر المتطرفة فى ميدان البورصة على الرغم من حملهم شعارات ولافتات تحض على العنف والكراهية قد زادت من حالة السخط الشعبي بحق الحزب الذي يرمز لها اختصارا بحروف «إن في إيه» .
ورغم أن بذور التطرف الديني لدي أبناء الجيل الثالث من الجالية العربية المسلمة موجودة قبل اعتلاء الحزب السلطة، إلا أنه من الواضح أن تلك التنظميات الجهادية باتت تتحرك بأريحية كاملة مؤخرا. وعلى سبيل المثال تنظيم «الشريعة لبلجيكا» السلفي المتطرف بقيادة البلجيكي - المغربي فؤاد بلقاسم أصل وبدايات التطرف فى بلجيكا إذ يدعو إلى إقامة إمارة إسلامية في بلجيكا تتخذ من الشريعة الإسلامية قانونا لها . و من الواضح أن تواجد وانتشار التنظيم لم يقتصر فقط على مدينة انتويرب التى تمثل مهده و ميلاده ولكنه امتد ليصل إلى عدة مدن أخرى في الإقليمين الفرنكفونى والفلمنكى أبرزها العاصمة بروكسل .
وفى الواقع ، فقد سجلت هذه المدن أرقاما قياسية فى إرسال العناصر المتطرفة للقتال فى سوريا والعراق مما جعل من بلجيكا تحتل المكانة الأولى في الدول الأوروبية المصدرة للمقاتلين الأجانب فى سوريا والعراق مقارنة بعدد سكانها اذ تشير التقديرات الأخيرة إلى أن لبلجيكا أكثر من 500 مقاتل فى سوريا والعراق وهو رقم كبير للغاية مقارنة بعدد سكانها الذي يقدر بـ 11.3 مليون نسمة.
وعلى الرغم من ان جميع منفذي العمليات الإرهابية التى ضربت بلجيكا مؤخرا من ذوى الأصول العربية ويتخذون من الإسلام عنوانا لهم فإنه من المرجح الا تنعكس هذه الأحداث سلبا على الجالية العربية والإسلامية فى بلجيكا وما يؤكد ذلك ما أكده كثير من المصابين فى العملية الإرهابية التى استهدفت المطار لوسائل إعلام محلية على أن 99% من المسلمين يتمتعون بسمعة طيبة وانه من غير المقبول تحميل جميع الجالية الإسلامية ذنوب وخطايا عشرين او ثلاثين فرد . و يبدو أن الحكومة الحالية تدفع فاتورة ما يمكن أن نسميه «وصول الذئاب المنفردة الى قلب الاتحاد الاوروبي النابض»!
و من الإنصاف الإشارة هنا الى أن التناول الاعلامى البلجيكي للعمليات الإرهابية التي تشهدها البلاد اتسم بالموضوعية الشديدة فقد أنصف وعلى غير المتوقع الدين الاسلامى والجالية العربية من العمليات الإرهابية التى تشهدها البلاد .و أفردت صحيفة لوسوار - على سبيل المثال - ملفا كبيرا فى هذا الشأن وضعت خلاله حدود فاصلة بين منفذي هذه العمليات الإرهابية والديانة الإسلامية أو تحميل جنسيات محددة المسئولية عن هذه العمليات علما أن هذه الصحيفة هى الاكبر و الأكثر انتشارا و تأثيرا .وعلى الجانب الآخر ، فقد انتهجت وسائل الإعلام الأسلوب الخبرى من أجل وضع القارئ فى قلب الحدث الى حد كبير.
ويمكن القول ان السواد الأعظم من وسائل الإعلام هنا في بروكسل لم يسع للنيل من الإسلام او من الجالية العربية والإسلامية ولكنه أجمعت الى حد كبير على أهمية مجابهة الخطر الذى يمثلة تنظيم داعش المتطرف.
و رغم ما أعلنه الارهابى هشام شيب بشأن مسئولية تنظيم داعش عن العمليات الإرهابية التى تشهدها بلجيكا ردا على المشاركة البلجيكية بعدد 6 طائرات مقاتلات من طراز أف 16 فى التحالف الدولي لمحاربة داعش إلا ان رئيس الوزراء البلجيكى شارل ميشيل قد حسم موقفه ليؤكد انه لاتغيير فى أجندة مشاركة بلاده فى الحرب على داعش وأكد عودة مقاتلات بلاده الستة إلى العراق مطلع يوليو القادم وفقا للتنسيق المعلن فى هذا الشأن مع الجانب الهولندي - حيث تتبادل بروكسل و أمستردام المشاركة في الضربات الجوية بالتناوب - على أن يتم طرح مسألة مد أمد المشاركة البلجيكية فى العراق على الحكومة والبرلمان للبت فى هذا الأمر بشكل نهائي.
وتشير الأرقام الصادرة عن وزارة الدولة للجوء الى تراجع عدد طالبى اللجوء الى بلجيكا مؤخرا بنسبة 41% اذ لم تستقبل الوزارة خلال الأسبوع الماضي سوى 177 طلبا لجوء فقط مقابل 299 طلب خلال الأسبوع السابق له، وهو ما يؤكد تراجع عدد طالبي اللجوء إلى بلجيكا وبشكل ملحوظ منذ بداية الأزمة الراهنة التى تشهدها المملكة. ومن جانبه أشار وزير الدولة للجوء الى ان هذا التراجع الملحوظ فى أعداد طالبى اللجوء انما يعود فى الأساس الى إغلاق الحدود الخارجية لأوروبا.
رابط دائم: