فى زمن تشعب التخصصات الدقيقة، يدعو مؤلف هذا الكتاب الدكتور مجدى يوسف أستاذ مناهج البحث، لإعادة وصل العلاقة الغائبة بينها وبين الأساس الاجتماعى الفلسفى المنبثقة عنه تلك التخصصات وهو مطلب معرفى فلسفي «أبستمولوجي» لا يقتصر على تخصص واحد وإنما يشمل جميع التخصصات التى يصفها المؤلف بأنها أنشطة بحثية مجتمعية فى أشكال تخصصية..
فهى عنده تنبع من سياقات اجتماعية اقتصادية وثقافية معينة يسعى كل منها لإشباع حاجاته، من هنا فحين نبعث بابنائنا للحصول على أعلى الدرجات العلمية من بلاد متقدمة فى تخصصات علمية بعينها، يتوجب علينا أن نضع فى الحسبان أن ما نتعلمه هناك لابد أن يعاد فيه النظر ابتداء من الاختلاف الموضوعى بين حاجات مجتمعاتنا وطبيعة المجتمعات التى نوفد باحثينا إليها وهو مطلب عام يقترحه المؤلف فى صدر كتابه ويختلف فيه مع التوجه السائد عندنا، بأن العلم «لا وطن له» وأن ما يصلح لمجتمع أوروبى أو أمريكى شمالى يصلح بالمثل لمجتمعاتنا مهما اختلفت أنماط حياتنا عن تلك السائدة فى المجتمعات الشمالية وهو ما يترتب عليه سياسة القص واللصق التى تتبع فى مؤسساتنا البحثية والتعليمية التى ترى أن تبنى الطرق الإجرائية الأجنبية التى تصفها بالمتقدمة، هو السبيل الأمثل لحدوث التقدم فى بلادنا، بينما نتناسى أن الوقوف أولا على الاختلاف الموضوعى لأرضياتنا المجتمعية والطبيعية والسعى لإيجاد حلول مرتبطة بتلك الأرضيات فى خصوصياتها النسبية هو السبيل الأنجع للاستفادة الناقدة بتجارب الآخرين وذلك ابتداء من الوعى بالاختلاف الموضوعى الدقيق بين سياقات كل منهم وسياقاتنا ومن ثم فالأمر بحاجة هنا لتقعيد معرفى فلسفى عام لعلاقتنا بحلول الآخر فى مختلف المجالات، بدءا من الوعى بأن البحث العلمى ليس بلا وطن وإنما له أوطان تتفاعل مع بعضها البعض ابتداء من وعيها باختلافها الموضوعى عنت سائر المجتمعات وحلولها وإذا كان ذلك يصدق على مختلف المجتمعات المحلية فى البلد الواحد، فمن باب أولى أن ينطبق على علاقتنا بسائر أقطار هذا العالم ومن ثم يتعين علينا أن نضع إستراتيجية بحثية وتعلمية فى اتصالنا العلمى بذلك الآخر، فهى إذن دعوة يطلقها المؤلف ليس للانغلاق المستحيل على الذات وإنما للانفتاح الواعى بالاختلاف الموضوعى ـ وليس الذاتى ـ على الآخر، بهدف استيحاء حلوله ليس لمحاكاته الببغائية وإنما فى دفع الذات لإيجاد حلول أنجع لإشباع احتياجاتها وهو ما حققته بالفعل أبحاث الدكتور محمد رؤوف حامد فى علم الأدوية، حيث تبين له أن عادات استهلاك الغذاء فى المجتمع الليبى ـ مثلا ـ تفضى لتغيير جوهرى فى امتصاص الدواء غربى المصدر ومن ثم فهى تبعث على إعادة النظر فى معايير «إدارة الغذاء والدواء الأمريكية» القائمة على عادات استهلاك الغذاء فى البلاد الغربية، فالبحث العلمى الحق لا يتقدم إلا من خلال النقد الموضوعى القائم ليس فقط على تجارب معملية وإنما بالمثل من خلال الاستهداء بفلسفة اجتماعية تصدر عن سياق الاستقبال فى اختلافه عن السياقات الوافدة التى أنتجت حلول الآخر مهما كانت متقدمة.
انطلاقا من هذا المبدأ العام يقدم المؤلف فى هذا الكتاب، نماذج مفارقة للصور السائدة فى جامعات الغرب عما يدعى تجاوزا هناك «الأدب الأوروبى» بالمفرد، كما يكشف المؤلف زيف تطبيق المعايير الغربية ذاتها على نشوء المسرح المصرى فى العصور الحديثة.
تهكذا فند الدكتور مجدى فى دراسته «خرافة الأدب الأوربى» المزاعم التى يسعى بها منظرو وحدة وهمية للآداب الغربية تميزها، لا سيما فى عصر الهيمنة الغربية عن سائر ثقافات العالم وقد استوحى دراسته الناقدة هذه التى سبق أنت ترجمت مرتين للإيطالية عن الفرنسية تارة وعن الانجليزية أخرى، أساتذة باحثون فى جامعة «لاسابينزا» (الحكمة) فى روما لما وصفوه فى مؤلفاتهم وفى محاضراتهم لطلبتهم، بأنها تمثل تحريرا لهم من النظرة الغربية الاستعمارية للعالم.
كما يقدم المؤلف نقدا لصورة المسرح العربى المعاصر من منظور غربى مركزى فى كتاب فيليب سادجروف «المسرح المصرى فى القرن التاسع عشر».
وفى فصل آخر من الكتاب يقوم بالتعليق على نموذج تطبيقى قام به المؤلف لترجمة الشعر من الألمانية للعربية من خلال تجربة ثورية مصرية فى مطلع عام 1975، حيث أدى استلهامه المفارق للقصيدة الألمانية إلى تقديمه لمقترحات متجاوزة للقوالب المألوفة فى الشعر العربى المعاصر وقد علق على هذه التجربة الشعرية باحثان فى العلوم الطبيعية من خلال تجاربهما «الثورية» الموازية فى مجالى علم الأدوية (د. رؤوف حامد) وهندسة الإنتاج (د. حامد الموصلى) وهكذا يجسد المؤلف نموذجا منهجيا بديلا للنموذج السائد فى مجتمعنا، ذلك النموذج الذى يكرس تباعد التخصصات عن بعضها البعض، لا سيما فى علوم الإنسان والطبيعة، والانصياع المطلق أو شبه المطلق لكل ما هو غربى فى البحث العلمى، بينما العلم عند المؤلف ليس إلا نشاطا اجتماعيا بكل ما يعنيه ذلك من نسبية يفترض فيها أن تستحث إعادة النظر من مجتمع لآخر سواء كان ذلك على المستوى المحلى، أو من باب أولى فى العلاقة بين مختلف الشعوب والأقطار.
الكتاب: أسئلة المنهج الناقد
المؤلف: د. مجدي يوسف
الناشر: يسترون للطباعة النشر 2016
رابط دائم: