رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رسالة الحذاء

عزة رشاد
يضغط زر إخفاء بالكمبيوتر ثم ينهض‏;‏ يرتدي المعطف الثقيل لحماية جسده‏,‏ ويدخل كفيه في القفاز‏,‏ ثم يضع الخوذة فوق رأسه‏,‏ وأخيرا يأتي دور الحذاء الطويل‏,‏ تماما كما في الإعلان التجاري عن أدوات قائد الدراجة الهوائية لتحدي الشتاء‏.‏ لاأحد يعرف متي قرر الإنسان أن يكف عن المشي حافيا؟

أو ان كان قد استخدم الأعشاب أولا أم قطعا مسطحة من الخشب يشدها سيور من الجلد؟ ليحمي قدميه أثناء سيره بين الصخور, ربما لم تكن هذه الصنادل كافية لحماية القدمين, بالأخص في المناطق الباردة, لذلك أضاف إليها مواد أخري تطورت تدريجيا إلي أحذية, ومبكرا استخدم المصريون لبادات من الجلود أو ورق البردي كانوا يشدونها إلي القدم بواسطة رباطين, وتقدم الرومان خطوة أخري وصنعوا نوعا من الأحذية بشكل أكياس محشوة بالعشب يربطونها حول القدمين, أما أحذيتنا الحديثة فإن بداياتها تعود إلي أيام الحروب الصليبية, حيث تطلبت رحلات الحج الطويلة صنع أحذية تدوم طويلا, مع إن الحيوات نفسها سرعان ما كانت تقصفها الحروب; مع مرور الوقت, ظهرت ورش لتصنيع الأحذية الجلدية الجميلة في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا; وبشكل عام فالأحذية دائما عرضة لتقلبات الموضة, إذ انتشرت, مثلا, في زمن جيمس الأول ملك إنكلترا موضة الكعب العالي, وكان المشي فيها صعبا, لكن الناس تمسكوا بانتعالها; ثم دخلت صناعة الأحذية الولايات المتحدة الأمريكية مع توماس بيرد عام1629 م, ومنذ ذلك الحين صار تشييد بيوتات الموضة أمرا واقعا, وقوي التنافس بينها الشريف وغير الشريف حول الخام والموديل والسعر وفرص التسويق; وصولا إلي تحقيق ثروات يصعب حصرها من أحذية تنتعلها الأميرات والخليلات ثم نجمات السينما فيما بعد, أحذية انطبعت فوقها آثار شفاه العاشقين, وأحيانا دموعهم; هناك حذاء الجلد الطبيعي للميسورين, والصناعي: للبسطاء, الذين أكثر ما يتحسرون عليه هو الفردة السليمة بعد اهتراء الأخري, ففي حال تبلي الاثنتين معا يكون الأمر أهون, ولكن علي أية حال فقد انتبه مؤسسو صفحة أفكار منزلية فحولوا الفردة السليمة إلي بيت صغير للزهور بوضع أصص صغيرة داخلها وتعليقها علي مداخل البيوت, أو الفرندات, فردة واحدة أيضا هي التي قادت الأمير الولهان إلي سندريللا الهاربة, عملية من نوعية: قص الأثر بمعني ما; تذكرت علياء الحدوتة وهي تغرس النبته في الإصيص الصغير ثم تدخله بفردة حذائها اليسري_ بعد أن تمزقت اليمني, هناك.. في المدرسة عندما جذبها الولد الشقي بقوة من يدها فتسبب في وقوعها علي الأرض وتمزق الفردة اليمني_ ثم تركض فرحة لتثبتها علي إفريز الشباك قبل أن يصل باص المدرسة.
علياء تحب أن تسمع جدتها تبسمل وتحوقل قبل أن تحكي حكاية حذاء النبي الذي حملته طائرة الأمانات المقدسة مع أشياء النبي البسيطة الأخري كنوز الحجرة النبوية الشريفة: الصندل والعمة وعدد من المصاحف والشمعدانات و..إلخ تحت حراسة مشددة من المدينة المنورة إلي الخزانة السلطانية في قصر توب قابي في استانبول, في ذروة أحداث الحرب العالمية الأولي; وهو حذاء آخر, تخبرها جدتها بنبرة مهتزة, غير ذلك الذي سرق من النبي ومازالت الآراء مختلفة: إن كان النبي قد دعا, بالفعل, للسارق: اللهم إن كان محتاجا فبارك له فيما أخذ؟ أم لم يفعل؟ تمسح الجدة عينها ثم تتصعب وترفع يدها بالدعاء علي من سرق حذاء زوجها جد علياء..
_ سرقه من علي باب الجامع. الله يحرقه.
تكركع علياء من تقلبات جدتها; وعندما تتوالي الصور علي الشاشة بسرعة فائقة فسيذهلها الإصرار علي الوصول إلي حذاء العقيد, فالشعب الليبي الذي قام بثورة عارمة علي الديكتاتورية لم يكتف بالتنكيل بالرجل بل أصر علي الاحتفاظ بحذائه_ الذي طالما احتلت صورته شاشات القنوات الرسمية حين كان الرجل يغضب من برنامج ما_ كدليل علي طي تلك الصفحة إلي الأبد, وربما اندهشت علياء من ميل جورج بوش الابن المفاجئ الذي اتضح أنه كان محاولة لتفادي فردة حذاء منتظر الزيدي الصحفي العراقي الذي اختار هذه الطريقة للتعبير عن سخطه علي الإدارة الأمريكية ومواقفها من عراقه.
الدراجة الهوائية تشبه تلك التي قادها كلينت إيستوود في فيلمCoogansBluff, تسابق_ في مشوارها القصير_ السيارات فتسبقها, ويدخلها الهواء المنعش من كل الجهات, فيرتفع هورمون الأدرينالين لدي سائقها الشاب محققا نوعا من النشوة, لن تنسيه أن يحكم ضم أطراف لثامه التي طيرها الهواء.
عندما وصل الباص كان الباب الخلفي لسيارة الإسعاف مفتوحا لتلقي المحفة التي كانت الملاءة فوقها تغطي جسدا صغيرا, بينما راح يتأملها شخص بلباس ميري جالس علي حافة الرصيف, يتنفس بصعوبة, لم يصدق بعد أنه كان مستهدفا وأنه نجا, فقط يتذكر ابنة جيرانه الصغيرة التي طالما تبرم من صخبها ودبدبتها علي السلم, لم يسمعها وراءه هذه المرة ولم يتصور أن مريولها الصغير سيتلقي كل الطلقات التي كانت موجهة إليه عندما رأي فوهة الرشاش يصوبها نحوه الملثم: سائق الدراجة الهوائية, فبرك علي الأرض.
الدماء التي غطت الأرض عافتها الأعين الصغيرة المتطلعة من شباك الباص المدرسي, كما لم يفهم بعض الصغار دور المحفة, وبعضهم الآخر كان ينتظر نزول علياء, فيما ارتقي الولد الشقي ببصره, حتي استوقفته النبتة الصغيرة تطل من قلب فردة الحذاء.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق