أنا شاب فى التاسعة والثلاثين من عمرى نشأت فى أسرة متوسطة تراعى ربها وتعرف الحق والفضيلة ومكارم الأخلاق فى كل خطوة تخطوها, وتخرجت فى كليتى بتقدير كبير أهلنى للعمل فى وظيفة مرموقة, وأصبحت أقضى وقتى ليلا ونهارا فى عملي, وحتى بعد عودتى إلى منزلى كنت أواصل العمل فى دأب وعزيمة، وبالرغم من كلمات الإشادة والثناء التى اسمعها من رؤسائي, فإننى مازلت قابعا فى مكاني, أما المناصب وفرص الترقى فلها أناس غيرى يتمتعون بمقومات لا أملكها ولا أقبلها، فأنا الذى لم أعرف أبدا غير طريق الاستقامة، من المستحيل أن أنتهج طريقا غيره، ومرت الأيام، وكلى إصرار على مواصلة المشوار إلى النهاية مهما بلغت بى المتاعب, واشتدت علىّ الأعاصير، ثم تعرضت لصدمات متتابعة وقاسية كادت تذهب ببقية عقلي, وتقضى على اتزاني, وإرادتى ومبادئ الأخلاق التى تربيت عليها، وأولى هذه الصدمات، وأكبرها أننى فقدت الفتاة التى عشت حياتى كلها أحلم بها، لأننى لا أملك المال اللازم لمستلزمات الزواج بعد أن أنفقت المبلغ الذى ادخرته لهذا الغرض فى العلاج, إذ أجريت لى جراحة كبرى كلفتنى كل ما لدي, وأصبحت فى حاجة إلى مصاريف علاج كثيرة, وأصيبت والدتى العجوز بأمراض عديدة، وصارت فى حاجة إلى علاج شهرى يعجز مرتبى من وظيفتى الحكومية عن الوفاء به، وما أثارنى حقا وأهاج مشاعري, ودفعنى إلى الكتابة إليك هو أننى فى خضم هذه الأزمات التى عصفت بي, وحالة الضياع التى اعيشها كلفت بمهمة فى أماكن متعددة, كل مكان منها يملكه واحد من كبار رجال الأعمال, وقد ذهبت لأداء ما تم تكليفى به وأنا مضطرب التفكير لاأعرف كيف سأدير مصاريف العلاج لأمى والدواء اللازم لي, ولا كيف سأعيش ما تبقى من عمرى بلا زوجة ولا بيت ولا استقرار مثل باقى الناس, بل وكيف سأرد المبالغ التى استدنتها من الزملاء والأصحاب على فترات وكنت كلما حان وقت السداد أشعر باختناق شديد, وأذهب إلى من استدنت منه وأطلب منه تأجيل موعد السداد، ولكن الحال لم تتغير!
لقد تتابعت هذه المشاهد الحزينة أمام عينىّ، وأنا جالس أمام من ذهبت إليهم لأداء مهمتي، وهم يتحدثون بلغة الملايين وينتظرون منى اشارة واحدة تصريحا أو تلميحا أنا الذى لا أملك إلا مبلغا أقل من عشرة جنيهات واشتراك المترو.. ولقد سمعت من كل منهم ـ برغم أنهم لا يعرفون بعضهم بعضا, ولم يكونوا فى مكان واحد, نفس الكلمات تقريبا, ومضمونها انهم على استعداد لكل شيء أطلبه منهم, طبعا خارج نطاق العمل, مقابل أن أساعدهم فى تخليص الموضوع على حد قولهم, بل وطلب أحدهم رقم تليفونى المحمول لمعاودة الاتصال بي, وخرجت من عند هؤلاء الناس, بعد أن أديت عملى بشكل طبيعى ورسمى وقانوني, كما أفعل دائما، لكن هذه المهمة اختلفت كثيرا عن سابقاتها فلقد شعرت بأن مقاومتى قد ضعفت بل وانهارت, وأننى ما رفضت مساوماتهم هذه المرة إلا بآخر أنفاس الفضيلة والمبادئ والأخلاق التى نشأت عليها وعشت بها, وأن المرة القادمة لن تكون هناك مقاومة تذكر, إذ كيف يقاوم إنسان ضائع فقد كل شيء.. فقد حلمه وحبه, واكتشف أنه لا مكان للسذج الحالمين فى هذا العالم وأن القيم والمبادئ التى تربى عليها لا تصلح لهذا الزمان.. زمان الأقوياء بنفوذهم أو بنقودهم، والاثنان مرتبطان فكل منهما يؤدى إلى الآخر.
إننى لم أعد قادرا على التفكير, ولا أعرف كيف أتصرف، فالمال هو الذى يعطى الإنسان القوة والقدرة على التصرف, ولا يجعله فى موقف ضعف أمام من يملك المال فيأخذ منه حلمه وحبه بل وكرامته.. فهل أنا مخطئ فى تصوري؟، وبماذا تنصحني؟
< ولكاتب هذه الرسالة أقول:
من يتمتع بهذا الصدق، وهذه الشفافية يصعب أن ينزلق إلى هاوية الانحراف والرشوة, فبرغم المتاعب التى واجهتها على مدى سنوات طويلة مازلت كما أنت لم تتغير, ولم توهن المحن عزيمتك, وقدرتك على الصبر, ومواصلة المشوار, ولذلك فإن ثقتى كبيرة فى أنك سوف تواصل رسالتك الى النهاية بنفس الاستقامة والشموخ والكبرياء.
أما عن فتاتك التى فسخت خطبتها لك لأنها لم تجد لديك المال الذى يغريها بالزواج منك، وهو ماسميته بـ”الصدمة الكبرى” فهى ليست جديرة بحبك لها, بل ولا تستحق أن تشغل هذا الحيز فى تفكيرك, فالزواج القائم على أسس مادية بحتة يكون مصيره الفشل والندم, إذ كان ينبغى عليها أن تدرك أن المال زائل وانه لا شيء فى هذه الدنيا يفوق الحب والاخلاص, فاحمد ربك أن نجاك من ورطة العمر، وكشف لك طريقة تفكير فتاتك قبل فوات الأوان!
وأما عن العمل الإضافى الذى تسعى إليه, فهو عمل مشروع بشرط ألا يتعارض مع متطلبات وظيفتك الحساسة، حتى لاتكون موضع شبهات وأقاويل وبالطبع مساءلة قانونية, تجر عليك مشكلات كثيرة. وليعلم الجميع أن السعادة ليست فى المال، وانما يوفرها الرضا بما قسم الله، والسعى إلى مزيد من الرزق والخير وإقامة علاقات طيبة مع الآخرين، والله المستعان.
رابط دائم: