لاشك أن حضور الراوى العليم بكل شىء هو الحضور اللافت لانتباه القارئ أو الناقد الذى يلتفت إلى البناء الفنى لرواية الكتيبة السوداء.
هذا الراوى لا يسرد علينا إلا ما يريده وما يؤكد وجهة النظرالتى يريد توصيلها عن طريق السرد من خلال تفاعل الشخصيات والأحداث. وتتمثل وجهة النظر هذه فى تعرية الاستعمار الاستيطانى القديم، ولذلك لا تكشف الرواية عن الفظائع التى ارتكبها هذا الاستعمار فى المكسيك فحسب، بل فى الدول المستعمرة (بفتح الميم) ابتداء من المكسيك وانتهاء بالجزائر، ومصر التى كانت تحت ولاية سعيد باشا الذى كان بدوره تحت سيطرة ديليسبس، ومن ثم نابليون الثالث وزوجته أوﭽينى. والحق أننا لا نرى من الشخصيات والأحداث إلا ما يريد هذا الراوى أن يُرينا إياه، وما يسلط عليه أنظارنا تأكيدا لوجهة النظر التى يريد تاكيدها. ولكن هذا الراوى يتحول فى حالات عديدة إلى قناع للمؤلف ينطق باسمه وبصوته على نحو يجعل من هذا الراوى قناعا يختفى وراءه المؤلف المضمر ليكشف لنا عن رأى المؤلف المعلن فى الأحداث التى يرويها الراوى، فمثلا عندما يصف الراوى عودة التاجر «ود الزبير» بعد أن أكمل صفقته التجارية مع ملك الدنكا، تبحر السفينة عائدة: «تبتعد عن مكان الدم والخديعة، صفقة رابحة ولكنها ملوثة، مؤذية، فجة. يطاردهم صراخ النسوة والبكاء المفجوع للأطفال وتنبعث من قاع السفينة رائحة الكتلة البشرية المأسورة، منذ ساعات قليلة كانوا أحرارا، أو كانوا يعتقدون أنهم كذلك». وليس هذا صوت راوٍ محايد وإنما صوت راوٍ يكشف عن المؤلف المضمر الذى يختفى وراءه. ولا يترك الراوى تاجر العبيد يمضى فى رحلة العودة إلا ويصف التاجر وحوله بقية الرجال، وهم يمسكون بنادقهم، ثم يأتى التعليق: «قائد منتصر يعود بغنائمه، اللهم لا حسد». ويمكن أن نقول الأمر نفسه ونحن نستمع إلى صوت الوعى الروائى الذى يسمعنا صوت العاصى حائرا، وهو يتحدث عن نفسه فى السجن قائلا: «إنهم يكرهوننا، يعتقدون أننا قتلة، مرتزقة، جئنا لنعاون الفرنسيس على احتلال هذا البلد وقتل أهلها، لست أنا القاتل الوحيد، الجميع هنا قتلة، الفرنسيون، النمساويون، البلجيك، جيوش المرتزقة التى تعيث فسادا فى هذا البلد».
ولا فارق بين هذا الحوار الداخلى وامتداد السرد حين نصل إلى أن: «يكتشف على جوفان أنه وبقية الجنود السود قد هبطوا هذا البلد مثل خفافيش عمياء، خاضوا رحلة صعبة وهم يقاتلون فى الجانب الخاطئ، ينفذون أوامر الغرباء، ويحاولون قهر إرادة أصحاب البلاد، يقتلونهم ويحرقون قراهم دون سبب، من أجل الفرنسيس الذين يشبهون الأتراك». وهنا مرة أخرى لا نسمع صوت العاصى أو على جوفان، وإنما نسمع صوت المؤلف المضمر الذى ينطق من خلال السرد لكى يبين لنا عن وجهة النظر التى تؤكدها كل أحداث وشخصيات الرواية من حيث هؤلاء الجنود الذين يقاتلون فى الجانب الخاطئ وينفذون أوامر الاستعمار القديم، وذلك بقهر إرادة أصحاب البلاد الأصليين. وعندما يسأل الصحفى الفرنسى البكباشى محمد أفندى ألماس كيف رأى تلك الحرب البعيدة؟ يتمهل قليلا ولا يجد جوابا محددا، ثم يقول بخفوت: «كنا مجرد بيادق صغيرة فوق رقعة واسعة من الشطرنج، لم نصل أبدا للمربع الأخير». إن هذه الإجابة هى إجابة المؤلف المضمر وليس إجابة محمد ألماس الشخصية الروائية. وهى لا تبتعد عن الواقع كثيرا، فهى تشير إلى إحساس ألماس الداخلى بافتقاد الذين رحلوا من رجاله، وكان شاهدا على موتهم وعلى أيام ضائعة مملوءة بالعنف والدم، وهى إجابة تؤكد أن الحرب انتهت إلى: «ما لا يساوى هذا الهراء». فمرة أخرى الذى يتحدث هنا هو المؤلف المضمر الذى يختفى وراء قناع الراوى، وهذه الأمثلة تكفى إلى أن نرى كيف يؤدى الراوى أكثر من دور غير دور السارد للأحداث والشخصيات، وتفاعل الشخصيات والأحداث على نحو يقنعنا بالعلاقة السببية بين الاثنين أولا، وثانيا على نحو يكشف عنصر التشويق فى هذه الرواية الجميلة، وكيف أن الشخصيات التى يتكرر تسليط الضوء عليها هى شخصيات حية نامية، قادرة على إدهاشنا وإحباط توقعاتنا فى غير حالة. ولذلك فهى شخصيات نامية تسهم فى تحريك الأحداث وتتأثر بها بطرائق لا نتوقعها أحيانا، فنظل دائما نسأل السؤال الملهوف على إجابة: وماذا بعد؟. وإذا كانت الشخصيات نامية قادرة على مفاجأتنا فإن الأحداث حية متوترة تنقلنا إلى عالم خيالى نستطيع أن نتخيله حتى لو لم نكن نعرف مكان الأحداث التى جرت للشخصيات وبواسطة هذه الشخصيات. وهنا يبدو أثر الخيال الروائى الخصب الذى يعتمد على الحاسة البصرية أولا، دون أن ينسى غيرها من الحواس. ويجعلنا نرى أحداث الرواية كما لو كنا نشاهد فيلما سينمائيا ملحميا تتابع فيه الأحداث المتوقعة والمفاجئة، ونرى فيه شخصيات نتعاطف معها أو نكرهها على السواء. ويرجع هذا إلى خبرة الراوى نفسه بالعالم الجغرافى الذى تدور فيه أحداث الرواية، فهو قد سافر إلى مواضع هذه الأحداث أكثر من مرة، ولذلك فهو يتحدث عن جغرافية المكسيك والأماكن التى تدور فيها أحداث الرواية كما يتحدث رحالة، يصف المدن التى شاهدها والأماكن التى رآها بعينيه. وقد كان لرحلاته إلى هذه المنطقة من العالم دور كبير فى أن يعرف عن جغرافية هذه المنطقة الكثير، وهذا هو السر الذى يكمن وراء براعته فى وصف الأماكن، صعودا إلى الجبال والتلال وهبوطا إلى الوديان وأعماق الأنهار.
والحق أننا ننتهى من الرواية ونتركها، وهى تظل حية فى أذهاننا، نسترجع بعين الخيال شخصيات مثل محمد ألماس أفندى الذى أصبح أميرالاى، وشخصية العاصى الذى مات فى كومونة باريس، والإمبراطورة شارلوت، والإمبراطور البائس ماكسميليان الذى كان ضحية ضمن صفقة لم يكن يعرفها جيدا أو يقدر مخاطرها قبل أن يتورط فيها. وإلى جانب هؤلاء جميعا هناك جوفان الذى نتابعه ونحن نلهث معه، وهو ينطلق مع ماريانا فى الغابات كى يصل إلى قريتها البعيدة. ولن ننسى بالقطع شخصيات أخرى تقابلنا فى الرواية وتترك تأثيرها فى ذاكرتنا فلا ننساها تماما، كما ترتسم شخصيات نجيب محفوظ فى ذاكرتنا لأنها شخصيات تمتلك كل مقومات الثراء والحيوية والقدرة على الإقناع. ومن ثم الارتسام فى الذاكرة.
والزمان الروائى يوازى الزمان التاريخى فى رواية محمد المنسى قنديل، كلاهما يتحرك كالأصل وصور المرآة خلال أربع سنوات. لكن الفارق بعيد جدا بين التاريخ الحقيقى والتأريخ الروائى، وهو الفارق الذى يصنعه الخيال فى قدرته على الخلق، وفى قدرته على تصوير الشخصيات وبناء الأحداث وترتيبها، فضلا عن خلق عناصر الصراع وتكوينها؛ فالرواية مملوءة بأشكال الصراع التى تجعل عينى القارئ تجرى فوق الأسطر لكى تعرف ماذا سوف يحدث بعد. وما يحدث بعد، ليس من الضرورى أن يكون تاريخيا خالصا فى كل الأحوال، فالإطار التاريخى تتم المحافظة عليه مع الأنماط المجردة للشخصيات التاريخية، أما فيما عدا ذلك فالخيال الابتكارى يبتدع من الشخصيات والأحداث ما يفتن القارئ بسحره، دون أن يخرج على «الممكن» والمحتمل بالضرورة، وهو المبدأ الأرسطى القديم (فى بويطقيا أرسطو) القادر على خلق ما لم يكن، وما لم يحدث على مستوى الشخصيات والأحداث. ولكنه يقع فى دائرة الإمكان بالضرورة. وهذا سر آخر من أسرار فتنة الرواية التاريخية بوجه عام، وإتقان الصنعة فى رواية محمد المنسى قنديل بوجه خاص.
وتدعم البعد الخيالى قدرة رهيفة على الوصف ترتفع بشاعرية المشاهد الواقعية، فتجعلنا نتوقف أمام الكلمات كما لو كنا نتوقف أمام علامات قادرة على إبطاء حركة أعيننا على الأسطر فنتمثل ما تحمله هذه العلامات من دوال لافتة ومدلولات شائقة، خذ مثلا مفتتحات الفصول تجد درجة من الشاعرية تذكرنا بمفتتحات الفصول عند نجيب محفوظ. وأول مثال على ذلك الفصل السابع حيث نقرأ: «يهبط الجنود السود من السفينة بأقدام مرتجفة على أرض سوداء، هشيم من عشب محترق، تتشعب جذوره بين رماد البارود وغبار البراكين، مرضى ومتعبين، غرباء عن هذا المكان، عن العالم بأثره، خلف جلودهم كل شىء أسود، يجرى فى عروقهم دم أسود، وتخفق بداخلهم أرواح سوداء، وينتظرهم فى السماء مكان مكسو بالسواد». ومثله مفتتح الفصل السابع عشر: «التلال البعيدة ظل أسود يربض على حافة الأفق، والنجوم خابية معلقة فى السماء، وشاطئ البحر لا يكف عن التآكل ولكن المدينة موجودة، فى الصحو والظلمة، فى الزهو والانكسار، كل باق فى مكانه، عليه وحده أن يرحل، يتخفى، يلوى عنان جواده ويدخل فى ظلمة الحوارى، يصبح الضوء محرما عليهما معا، يتسلل جوفان وماريان فى حذر بعيدا عن مسارات دورية الليل، يريدان فقط الوصول إلى حافة التلال، يحملهما الجواد معا، صوت حوافره خافتة ولكنهما يسمعانها كدوى الرعد، توشك أن توقظ الجميع». إن الوصف الشعرى فى مثل هذه المفتتحات يتحول إلى موازاة أسلوبية للأحداث نفسها، كما يتحول إلى مرايا موازية للمصائر التى تنتهى إليها الشخصيات المأساوية. وعند هذا المستوى يمكننا أن نرى رمزية الجنس الذى يحدث بين العاصى والملكة، فما حدث بين الاثنين ليس جنسا بالمعنى الحرفى وإنما هو جنس بالمعنى المجازى أو الرمزى الذى يدل على التداخل بين اللونين الأبيض والأسود؛ فالأبيض يمثل الملكة المحرومة غير المشبعة، والأسود يمثله العاصى ذو الدم الإفريقى الأسود المملوء بالحياة والحيوية، وكأن الأبيض الذى يعانى من الجدب وعدم الخصوبة يبحث لنفسه على عنصر يعيد إليه الخصوبة، كما لو كانت أوروبا العجوز التى تمثلها الملكة البيضاء تبحث لنفسها عن خصوبة وحيوية وفتوة الذكر الإفريقى الذى يعيد إليها الحياة والشباب والخصوبة، ولكن لأن أوروبا الاستعمارية العجوز محكوم عليها بالنهاية فإن ولاة أمرها (شقيق الملكة وأطباءه) يجهضون حملها كى تعود إلى عالمهم الآفل وإلى برودة قصورهم التى لا تحيى عالما جديدا، فقد انتهى زمانها، وظهر زمن جديد لمستعمر غير استيطانى هو الولايات المتحدة التى تفرض حضورها الفتى، بعد انتهاء حربها الأهلية، واتحاد الشمال والجنوب فى جمهورية عفية تطغى بصعودها على الإمبراطوريات (العجوز) فى أوربا التى بدأت تغرب عنها الشمس.
لكن يبقى مع جمال البناء الفنى المتقن والمحكم لرواية محمد المنسى قنديل مثالب ما كنت أحب أن يقع فيها؛ أولها: وصف سعيد باشا بالخديوى، وهو لم يكن خديويا على الإطلاق ولكنه كان واليا. وثانيها: كثرة الأخطاء اللغوية التى لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات هذه الرواية التى كان يمكن تداركها أثناء عملية الطباعة، فيتحقق لهذه الرواية كمال جمالها الذى يستحق التهنئة والفرحة بالإنجاز.
رابط دائم: